لا تنقطع انتهاكات إسرائيل لوقف إطلاق النار فى غزة. صارت الضربات وعمليات الاصطياد طقسا يوميا، كأنها تستنفر طاقة الرفض لدى حماس، وتحفزها على التفلت من ترتيبات الاتفاق تحت ضغط التحفظ والارتياب.
وما من شك فى أن نتنياهو لا يتمنى شيئا قدر إفساد عملية التهدئة؛ إنما على شرط ألا يكون المبادر علنا إلى ذاك الخيار المضاد لإرادة ترامب. ومدخله المثالى أن يُعيد تشغيل آلية الاعتماد المتبادل مع الفصائل المسلحة: يُعطيها ما يُبرر التصلب فى مسائل السلاح وترتيبات اليوم التالى، ثم يأخذ منها فى المقابل كل ما يريده دون استثناء.
اللعبة نفسها تُدار على الجبهة الشمالية؛ وإن باختلافات بسيطة. مرّت سنة تقريبا على تفاهمات وقف الأعمال العدائية مع حزب الله، سجلت قوات اليونيفيل الدولية خلالها زهاء 10 آلاف خرق للبنود المتفق عليها.
الميليشيا من جانبها ملتزمة اضطرارا أو اختيارا؛ لكنها تناكف الدولة اللبنانية فيما يخص حصرية السلاح؛ بزعم أنه الضمانة الباقية للسيادة والمقاومة. وبعيدا من البواعث الخفية وإملاءات الخارج المعروفة؛ فالواقع أن البنادق صارت تربك بيروت لا تل أبيب، فيما توفر الذريعة فى الوقت نفسه لمزيد من الإرباك الإسرائيلى المقصود للطرفين معا.
أخفقت الترسانات العسكرية المتراكمة لعقود عندما استُدعيت لأداء أدوارها الأساسية. وما لم تحققه فى أشد حالات العافية والاستعداد؛ لا يُؤمل منها بالمنطق أن تصيبه اليوم، وقد صارت أشد هشاشة وانكشافا، وربح العدو جولات زادته قوة على قوته، وأغرته بمزيد من الانفلات وتكسير التوازنات واختبار الحدود وقواعد الاشتباك القديمة إلى آخرها.
وذلك ممَّا يفرض البحث عن مخارج غير تقليدية، ومطالعة المشهد الراهن واستشراف مآلاته من منظور جديد، ربما تفيد فيه العودة بالزمن إلى الوراء، ولم يكن الحزب موجودا فى لبنان قبل نحو أربعة عقود، ولا تبددت القضية الفلسطينية قبل أن تطل حماس على ساحتها بفورانها الأيديولوجى وخفتها السياسية.
وليست دعوة إلى التخاذل وتسليم مفاتيح المقاومة على الإطلاق؛ إنما أن تُوضع على طاولة التشريح ليُستكشَف ما فيها من قصور واعتلالات، وتُعاد هيكلتها على وجه يتناسب بعمق وفاعلية مع السياقات المستجدة، بحيث لا تكون فى الحد الأدنى عبئا على الثوابت الكبرى، أو إسنادا للعدو من حيث تتوهم أنها تزعجه وتزلزل معادلاته، وقد كانت راسخة وازداد رسوخها بأثر الاستخفاف بالوقائع والخفة فى اتخاذ القرارات.
يبذل العهد الجديد فى بيروت جهودا مضنية لاحتواء الشقوق والأزمات الداخلية. ويعرف المُجرّبون أن الدراما الراهنة تختلف عن سوابقها القريبة والبعيدة. ويكفى إحصاء زيارات الوفود والمبعوثين الأمريكيين، بكل ما انطوت عليها من رسائل متضادة ومتصاعدة؛ إنما تغلب عليها الخشونة والتحذير وصولا للإهانة المباشرة فى مواقف عدة.
وليست المسألة فى النقاط المحتلة وراء الليطانى فحسب؛ بل أن البلد بكامله صار ميدانا مفتوحا، ووراء الاتفاق مع الحزب ورقة أطلقت فيها واشنطن أيدى نتنياهو ليفعل ما يشاء، ثم إن إعمار الجنوب وثيق الصلة بتعمير الدولة فى مستواها السياسى والمؤسسى، على حساب الدويلة وما تمارسه من تسلُّط مُعلَن، أو تُوفّره من ذرائع لا مقابل لها محليًّا إلا تمكين رأس الممانعة من قرار بيروت، ضمن حزمة شاملة تخوض بها الجمهورية الإسلامية صراعها مع الصهاينة، ومفاوضاتها مع الأمريكيين.
تسبب الحزب فى الاحتلال؛ ثم يلوم حكومة نواف سلام على بقائه. والجيش ممنوع من فرض ولايته على عموم الجغرافيا لتوازنات طائفية وأسباب لوجستية.
فكرة نزع السلاح مرفوضة تماما لأنه لم يُؤذَن بها من طهران، ما يقف حجر عثرة فى طريق مطالبات بيروت بجلاء الاحتلال، الذى تشترطه الضاحية دون أن تتعهد أو تلتزم بشىء يقابله.
وبهذا؛ تظل الدولة مقسومة عمليا على اثنين، والقرار الرسمى عاجزا، وما بعد الخط الأزرق طللا تزيده الضربات المتوالية تخريبا على تخريب.
ولا تختلف حال غزة كثيرا؛ بل ربما أسوأ. والواقع أنه منذ الطوفان تتكرر الحكايات وتُستنسَخ، وتتناسل من بعضها بمطابقات واضحة؛ كأنها محاكاة للصورة فى مرآة مستوية.
طوفان غير محسوب ويتخطى قدرة صانعيه على استكماله أو النجاة من تداعياته، تعقبه حرب إسناد ومشاغلة لا شغلت ولا أسندت، ولا امتلك حسن نصر الله حساسية قراءتها والتعاطى مع التطورات فى وقتها؛ فظل مرتاحا إلى ذاكرة 2000 و2006، وما قبلهما وبعدهما؛ كأنه مطمئن إلى التزام نتنياهو بالأسقف المنخفضة، وانعدام جسارته على تفجير قواعد الاشتباك العتيقة.
نجح زعيم الليكود فى مناورة الخداع والتضليل، بالتوازى مع استكشاف المساحات الغامضة وترسيم خرائطها بالنار والبارود.
هدنة مبكرة فى نوفمبر أوحت لحماس بأن غريمها يعيش مأزقا سيضطره لمزيد من التنازلات؛ فتشددت وانجرفت مع أمواج مخططه المرسوم. وضربة مبكرة فى عمق الضاحية لاصطياد صالح العارورى، واختبار دعاية الحزب عن أن بيروت تقابلها حيفا وتل أبيب.
وفيما تجمدت الذراعان الممانعتان؛ كانت شباك الصهاينة تتمدد للإيقاع بالرأس الكبير، عبر الاستدراج الصاعد من أطراف دمشق إلى أعماق طهران، وفجأة تداعى المحور على رؤوس بنّائيه والمحتمين بدعاياته الصاخبة، والتى تبدّى بالوقائع أنها شحذت الحناجر واكتفت بها عن الخناجر، بل وعن التعقل وعدم التردى تطوعا واندفاعا إلى هاوية الهلاك.
بُنيت الأطراف لتكون دفاعا متقدما عن المركز؛ لكنها ربما تخيلت أن العلاقة تبادلية، والالتزامات متكافئة بين التابع والمتبوع. وأسوأ ما فى تلك الرهانات الساذجة؛ أنها لا تُختبر بعمق إلا حال سقوطها المدوى، مرة وإلى الأبد.
بيد أن الانكشافة الفادحة كانت تُوجب الارتداد إلى حاضنة التفكير والتدبر، وسياسة الأمور بمنطق غير ما دُفعت إليه الميليشيات وقودا فى معارك الآخرين، إنما على العكس أنتجت الهزيمة نمطا أفدح من الذهانية والتعلق بالجدران الساقطة.
كأنها آلية دفاعية تقبض على الأيديولوجيا إلى أن يفنى التنظيم كله، ولا تتعرض العقيدة لهزّة تمس خزانة الاعتقاد التى تأسس عليها مسلك التجارة بالوطنى والإنسانى تحت شعارات طوباوية ملفقة.
حالة إنكار ما يزال يعيشها طيف من المنكوبين بين خرائب أنفاقهم فى الضاحية والقطاع، وعلى إيقاع بكاء ونزف عشرات آلاف الضحايا الذين أجبروهم على امتحانات لم يتجّهزوا لها، ولا يعرفون إجابة واحدة عن أى من أسئلتها المعجزة.
والنجاة فى أحوال عصيبة كتلك المشار إليها، تبدأ وجوبا من الإقرار بفشل الأفكار والخيارات القديمة، وهو اعتراف يستلزم أن يتبعه اعتذار وتصويب.
أمّا الانطلاق من سردية الهزيمة؛ فيجعل المفاضلة بين سيئ وأسوأ، وليست على الصورة المتوهمة عن النصر بمجرد البقاء؛ كأن الميليشيا تغامر بالبلاد والعباد، مع إصرار مَرضى عجيب على تقييم الحصيلة بنزعة فردية خاسرة.
وهو ما يُحوّل الجغرافيا والديموغرافيا فى نظر المقاومة الأصولية، إلى موضوع للمناكفة والاستعراض وتجيير العام لحساب الخاص، وبما يتشابه للأسف مع نظرة العدو للفصائل وبيئاتها الحاضنة.
ولا مناص من إعادة تحرير السردية؛ بالاتضاع أمام المآسى الثقيلة، وتقديم التضحيات اللازمة كما يليق بطرف انعقدت له الولاية تحت ظرف استثنائى، أو انتدب نفسه بالقوة ممثلا للآخرين.
وإن كان الانسداد الراهن حصيلة مجريات الانفلات السابق؛ فلا معنى للإصرار على ذات المقدمات التى أفضت للنتائج السوداء.
أى أن الغاية اليوم تتخطى بلاغة المعنوى، وتتضاءل أمام ثقل المادى الكئيب. وحتى لو افترضنا إمكانية أن تعبر الجبهات من فخ الاحتراب الدائم؛ فما من منفعة تُذكر فى بقاء الحزب والحركة سيدين على ردم وخراب، أو تيئيس أهل القضية ووقودها من قضاياهم وحقوقهم، وتحويلهم إلى طاقات غضب مكبوتة؛ ستنفجر حتما فى وجوه بعضها، طالما لا طاقة لديها ولا سبيل للانفجار فى الأعداء.
هُنا يصبح التراجع؛ ولو بتكلفة باهظة على فريق بعينه، أهون وأكثر رُشدًا من التصلُّب، مع أعباء أكبر وأقسى على المجموع، ومخاطر تتعاظم ولا تقل؛ لأن الجمود لا يُغيّر شيئا من حقائق الأرض، كما أنه يُعطل جهود الاستدراك ومساعى تحرير الخرائط من الاستقطاب والتشظى بين مخالب المتطرفين فى الناحيتين.
والفكرة كلها ليست عن الحق والباطل، وكلاهما معروف؛ إنما عن حراسة الأول فى زمن انفلات الأخير. وحماس إذ تمارس حقها المشروع فى المقاومة، أورثت القطاع نكبة اجتذبت باطل نتنياهو إليها بهدية مجانية، بلا ضرورة ولا مناسبة على الإطلاق. وعندما ينسحق العشب بين فِيلَين؛ فربما تكون الوسيلة الوحيدة فى إبعادهما معا إلى الأقفاص.
هذا ما تأسست عليه مقاربة الأزمة من الخارج، وتلاقت فيها إرادات أطراف شتى وصولا إلى خطة ترامب، وقرار مجلس الأمن الأخير بشأن قوة الاستقرار. إنها خلاصة المغامرة التى اختارتها الحركة عن سعة ورفاهية، ولا بديل عنها إلا الأسوأ أو بقاء الوضع على ما هو عليه.
والقائم ردىء ويُبشّر بالأردأ للأسف، فيما المطروح يعد بمسالك فيها قدر من الأمل؛ وإن لم تكن مثالية تماما. بدءا من تثبيت وقف إطلاق النار، وفصل الخطوط عن بعضها، وتدفيع تمركزات الاحتلال بموجب بنود الخطط وتفاصيلها بشأن الانسحاب ومراحل الانتقال، والإدارة المدنية المدعومة بعناصر شرطة فلسطينية، وصولا إلى تأهيل السلطة وعودتها للقطاع.
وكلُّها خُطىً وإجراءات أفضل من الماثل حاليا؛ إلا لو كان الحماسيون يستنكفون عودة رام الله بعد عقدين من الانقلاب؛ فيما ينطوى على اعتراف ضمنى بخطيئة الانقسام وتجزئة القضية نفسيا وعضويا.
ومكمَنُ الخطر الآن ليس فى عودة الحرب؛ بل فى أن تُقدِّم الفصائل لنتنياهو ما يُسوّغ له تسويق رؤيته للإدارة الأمريكية عن استحالة السلام. ذلك أنه اضطر لقبول الصفقة رغما عنه، ولا يريد التمادى فيها إلى آخرها. وإن أجبرته الظروف على التراجع نحو الخط الأصفر، فإنه يحتل اليوم نحو 53 % من غزة، ولا رغبة لديه فى تقهقر جديد إلى الخط الأحمر أو ما وراء حدود القطاع.
بدأ الحديث يتواتر عن المنطقة الخضراء، ويشيع فى الصحافة العبرية وعلى ألسنة حكومتها كلام عن «غزة جديدة» يسيطر عليها الاحتلال، فى مقابل «غزة قديمة» تحت سلطة حماس حتى اللحظة، ويبدو أنها لا تفكر فى فك وثاقها، وغايتها أن تضم البعيد إلى القريب ولو تحت ظل المأساة، وإن لم يتحقق ذلك فليكن الانقسام على الانقسام من جديد.
وعليها أن تنفى الشُّبهة عمليًّا، وأن تُبادر إلى بحث كل السبل والمسارات الكفيلة بوصل المنقطع داخليا، على أمل الاتصال لاحقا مع الضفة الغربية. ومبدأ ذلك ومنتهاه ألا تضع أولوياتها الخاصة فوق الشاغل الوطنى، ولا أن تُقدّم ما كان سببًا فى النكبة الراهنة، على أى احتمال تلوح منه إمكانية مغادرتها والتعافى من آثارها الثقيلة.
فى كل الأحوال لن تكون طرفًا فى السنتين المقبلتين على الأقل، ولن تنتقل السلطة إلى بديل فلسطينى لو أطلّت برأسها فى مراسم الانتقال. ما يعنى أن غيابها عن المشهد صار مصلحة وطنية عاجلة فيما يخص الإنقاذ، وآجلة لجهة استعادة القطاع ووضعه تحت خيمة الشرعية وعلى مسار النضال الجامع مُجدّدًا.
عاش بشار الأسد آخر ثمانى سنوات فى عُمر نظامه يتحدث عن سوريا المفيدة، وكان بذلك يختزل البلد بكامله فى ست محافظات يسيطر عليها كليا أو جزئيا، ويعتبرها مساحة التجانس الديموغرافى ومُحرّك اقتصاده المأزوم، بعيدا من شمال تديره الميليشيات السنية، وشرق فى قبضة القوات الكردية، والجنوب الذى كان مهد الثورة ويحتضن غضبة الدروز وشهوة الصهاينة.
وقد بدأ سرديته فى 2016، بعد سنة من انخراط إيران بقوة فى الحرب الأهلية، ووساطتها لإشراك روسيا فى الدفاع عن النظام. وما تبدّى لاحقا أنه كان يُزين الضعف، ويزحف ببطء نحو السقوط. وقد تأكد أن حزامه الضيق لم يكن مفيدا؛ ذلك أن سوريا لا تتحقق قيمتها إلا بوحدتها، فلا ينوب الجزء فيها عن الكل، وأنه كان مرفوضا من الجانبين على السواء؛ وإن حالت ظروف البعض دون التصريح.
وكما لا يمكن أن تكون الضاحية أو مخازن السلاح بديلا مفيدا للحزب وبيئته الشيعية عن كل لبنان؛ فإن نصف غزة لا معنى له بالنسبة لحماس أو ما يزيد على مليونى غزى.
وما وراء التقسيم أخطر؛ ذلك أن إسرائيل تتطلع لتوجيه جهود الإعمار إلى الجزء الذى فى حوزتها، ثم استقطاب المدنيين من الجانب الآخر بعد فحص وتثبّت؛ ليصير البلد ثلاثة أجزاء عمليا، مع ما قد يُستجَد من أعمال شبيهة فى الضفة الغربية.
والفكرة ليست مؤامرة خفية على الإطلاق؛ بل نصت عليها خطت ترامب فى تناولها لاحتمال الإبطاء من جهة الفصائل أو تعذر نزع السلاح، وأكدها صهر الرئيس وأرفع مستشاريه، جاريد كوشنر، فى رسالة من مركز التنسيق المدنى العسكرى فى كريات جات على تخوم غزة، إبان زيارته لدولة الاحتلال قبل أسابيع.
واجب الوسطاء والضامنين أن ينجزوا الخطة بحذافيرها؛ إنما على ألا يتعرضوا للتشغيب والاحتيال من الطرفين. غرض نتنياهو معروف، ويمكن القفز عليه بالتزام نصوص التدرج فى الانسحاب وإعادة التموضع، إذ يُفترض مع نشر قوة الاستقرار الدولية أن ينسحب الاحتلال إلى الخط الأحمر، ومع توالى إجراءات الانتقال وتثبيت التهدئة وضبط الأوضاع الأمنية يخرج تماما إلى المنطقة العازلة على الحدود.
ويجب فى الاتفاق على تشكيل القوة وتحديد مهامها، أن يُنَصَّ صراحةً على أنها لن تنتشر فيما وراء الحد الفاصل مع الجيش الإسرائيلى، إنما ستكون نقطة التماس المقابلة له، والتى تتزحزح معه بالتوازى ناحية الشرق، كما لن تُدار أية عمليات لتأهيل الحواضر وبدء إعمارها حل وجود قوات الاحتلال فيها.
ويُشتَرط لذلك؛ أن تُسحَب من نتنياهو ذريعة البقاء تحت مزاعم أمنية أو إشارات إلى اختراق الفصائل للترتيبات، أى أن يتفق الفلسطينيون فيما بينهم على احتضان المسار الجديد ورعايته، وتنزل حماس بموجب الاتفاق عن بقايا حضورها الهش، لصالح إعلاء الشروط والالتزامات المقررة على الصهاينة بموجب الانتقال المتدرج بين المراحل.
تستنسخ إسرائيل نفسها مهما تعددت الساحات. تمددت فى سوريا وراء خط فك الاشتباك، وترفض أن تعود. وتحتل خمس نقاط أَو سبعا من جنوب لبنان، مع تعليق الخروج على المستحيل غير المأمول، أى أن يلقى حزب الله سلاحه ويخرج من معادلة الصراع على جبهة الشمال.
ويطمح نتنياهو فى تكرار اللعبة جنوبا مع الغزيين؛ لكن الفارق أن القطاع يستند إلى خطة واضحة لا يتوافر مثلها للحالتين السابقتين، وأنه على وعد مع قوة مفوضة دوليا، يُطلَب منها أن تكون تنفيذية فيما يخص سلاح الفصائل.
لكنها يمكن أن تكون تحوطية وأقرب إلى حفظ السلام؛ لو تجنبت حماس الاصطدام بها أو تعاونت معها على تعرية الاحتلال من ورقة التذرع بالحركة، فلا يعود لديه إلا الوفاء بمندرجات الخطة، أو إظهار نواياه الحقيقية والتعرض لغضبة ترامب؛ لا سيما أن الحاضنة العربية ثابتة على موقفها، ولن تفرط اليوم مع الاعتدال النسبى، فيما تمسّكت به سابقا أمام موجة الانحياز الجارفة.
كل تسويف أو رهان على الوقت لا يخدم إلا حكومة النازيين فى تل أبيب. إطالة المرحلة الأولى معناها تأخير الانسحاب إلى الخط الثانى، وعدم تمكين قوة الاستقرار يجدد الذرائع القديمة، ويلغى مفاعيل الاتفاق عمليا ولو ظلت قائمة فى مدى النظر والتداول.
أغلبية العالم يعترفون بفلسطين، وبالتبعية يرفضون الاحتلال، ولن يتقدم أى من المانحين لمهمة الإعمار خارج الأفق المتفق عليه. إنما الإرجاء قد يأكل الحماسة، ويُسهّل على الصهاينة تجربة فكرة «غزة المفيدة» أو الجديدة على مستوى أقل، بمعنى الحد الأدنى من الإغاثة والأمن ووعود المستقبل بعيدا عن غموض «غزة القديمة».
وأول ما يجب أن تجِدَّ حماس فى المطالبة به، ليس الإبقاء على بندقية أو قذيفة، إنما لصق القطاع المشروخ من منتصفه بغراء الوطنية الجامعة، وإفساد أطماع نتنياهو؛ ولو على حساب أوهام الحركة، التى تعرف قبل غيرها أنها أوهام، لا تقف على أرض ثابتة فى الحاضر، ولا فرصة لها فى أى يوم تالٍ؛ إلا أن يكون من عينة الأيام الطوفانية التى تبتلع أهلها، وتزجّى الهدايا لأعدائهم فوق ما كانوا يحلمون.
تضاءل الحلم من فلسطين النهر والبحر، إلى أقل من ربع الخريطة، ثم مجرد تعبيد الطريق بين غزة ورام الله بعد قطيعة وانقطاع، وأخيرا إلى حد الدفاع عن القطاع كاملا غير مُجزّأ ولا منقوص.. وتلك السلسلة المُؤسفة فى تتابعها، وأشدّ حلقاتها فداحة بعد صعود حماس وانقلابها، كفيلة بإيقاظ ضمير الشيطان نفسه، والله قادر على أن يُوقظ بها ما تبقى من ملائكة الفنادق والخنادق؛ أقلّه ليُحرَم نتنياهو من كنزه الثمين!