في هذه اللحظات المتوترة من العالم، حين تصبح الأسئلة أثقل من الإجابات، بينما أتوجه إلى الفيوم للمشاركة في الاستعدادات الأخيرة لافتتاح مهرجانها السينمائي في دورته الثانية، إذ تبدو لي الفيوم ليست مجرد مكان، بل كيان يمكن محاورته.. مدينة تجلس على ضفتي الزمن، تتلقى ما نقوله وما نخفيه.
اليوم، والعالم يعيش عواصفا سياسية وثقافية واجتماعية كونية، أعود إلى الفيوم كمن يُقبِل إلى مرآة غير مُتهمة، مرآة تقول الحقيقة دون مبالغة، تمنح المتعبين فرصة لإعادة ترتيب أرواحهم.
في هذه الأيام المُرهِقة .. ما الذي يمكن أن نسأله للفيوم؟.. هل نسألها عن قدرتها القديمة على الاحتفاظ بالسكينة بينما العالم يركض بلا هوادة؟
أم نسألها كيف استطاعت أن تجمع بين بحيرة هادئة ومدينة تتحرك، بين تاريخ ساكن وحاضر متغير؟
الفيوم لا تُجيب بصوت، بل بإيقاع.
نسألها عن سرّ الضوء الذي يسقط على البيوت والغيطان فيعطيها بُعدًا روحيًا، عن النخيل الذي يحرس القرى كأنه يكتب وصايا للمستقبل.
نسألها عن القدرة على التعايش مع الصعاب، عن روح مهرجانها السينمائي وعما قبله أو ما يوازيه من فعاليات ثقافية وفنية أخرى تشعل في المدينة إحساسًا بالانتماء للعالم.
في لحظتنا هذه، لحظة تتشابك فيها المخاوف بالآمال، تصبح الفيوم مكانًا أذهب إليه لا بحثًا عن إجابة، بل عن رسالة.
رسالة تقول:
إن المدن مثل البشر، تمرض وتتعافى، تغضب وتهدأ، لكنها لا تكفّ عن محاولة البقاء.
ما الذي يمكن أن نسأله للفيوم؟
يمكن أن نسألها عن الصبر، عن القدرة على إعادة بناء الذات، عن كيف يمكن للأماكن الصغيرة أن تفتح نوافذ كبيرة على العالم.
نسألها كيف تحافظ على هويتها، وكيف تستعد لأن تكون جزءًا من مستقبل ثقافي وسياحي متجدد، بينما تحتضن مهرجانات وفعاليات وفنانين يحاولون إعادة تعريف معنى المكان.
من خيال، من تخطيط… ومن محبة؟
اليوم، والعالم كله يعبر زمنًا هشًّا يختلط فيه القلق بالأمل، أعود إلى الفيوم كأنني أعود إلى صوت داخلي أثق به. مدينة تجلس بهدوء حكيم على ضفاف بحيرة قارون، تمتد بقرى منبسطة تحرسها النخيل، تفتح ذراعيها لمَن يبحث عن حكاية.
لم تكن السينما بعيدة عن هذا الإحساس الذي انتابني. منذ عقود، اكتشف صناع الأفلام أن الفيوم ليست مجرد خلفية جمال، بل روح يمكن تصويرها. هنا مرّت كاميرات الأفلام التي صنعت جزءًا من وجداننا، من منا يجرؤ على نسيان “دعاء الكروان” (1959) إخراج بركات، الفيلم الذي خرج من بين نخيل الفيوم ووديانها، ليستقر في الذاكرة العربية كأحد أعمق الأفلام التي أعادت تعريف المأساة والكرامة والحب.
في هذه الأراضي، مشت أمنة،الفتاة التي واجهت العالم بقلب مكسور وإرادة من نار، كأن الفيوم كانت هي الأخرى تُقاسمها الوجع. أكاد أرى أمنة على حافة هذه الترعة التي مررنا بها في سيارة صديقنا المخرج سيد عبد الخالق مدير المهرجان، إذ كنا في طريقنا إلى المدينة، فضيعنا الطريق لنجد أنفسنا في قرية النزلة التابعة لمركز يوسف الصديق، لم نضع، بالعكس تعرفنا على زوايا أخرى للمكان. بدت لي أمنة تجلس على حافة الترعة تنظر إلى مياهها التي تبدّلت بالتأكيد خلال عمر طويل، أكاد أسمعها تهمس، تخرج عن صمتها وتتساءل مثلي عما تغير في الأيام المتسارعة.
لعل السؤال الذي بدأت به: ما الذي يمكن أن نسأله للفيوم؟ .. ليس سؤالًا جغرافيًا، بل سؤال وجودي، سؤال عن معنى المكان حين يصبح شاهدًا على حياة أناس وذكريات وأفلام وحكايات نساء حملن على أكتافهن أوجاعهن وأحلامهن. حكايات عن الفقد، وعن العناد الجميل في وجه مجتمع قاس.
لعل أمنة التي تراءت لي عند حافة الترعة تتساءل: هل بقي النخيل شاهقًا كما كان؟
هل ما زالت البنات يكبرن بين ظلّ النخيل ولديهن هذا الخوف القديم؟..
في مكان آخر من الفيوم، أتخيل نعيمة بطلةالحكايةالشعبية الشهيرة والفيلم ذائع الصيت "حسن ونعيمة" (1959) أخرجه أيضًا بركات، الفتاة التي أحبّت بصدق وخسرت أيضا بصدق. أتخيلها على خلفية بصوت محرم فؤاد: "الحلوة داير شباكها"، تنظر إلى الحقول التي شهدت قصّتها، وتتساءل هي الأخرى: هل مازال للحب نصيب هنا، هل استطاع أن ينجو من الطمع والحسد؟..
لم تنج جميلة بطلة يحيي حقي في "البوسطجي"، الرواية التي أخرجها حسين كمال في العام 1968. الفتاة التي دفعت ثمن الصمت القاسي، لعلها إن عادت الآن، تسأل:
هل انتهت الأزمنة الغليظة، وأصبحت القرى قادرة على أن تفهم قلوب بناتها؟..
على هذه الأرض، أرض الفيوم، الحكايات كثيرة في جغرافيا تجمع بين الماء والصحراء؟ بين القرى القديمة والمهرجانات الجديدة.. كذلك الأسئلة كثيرة، لا تنتهي، بل تزيد عند هذه اللحظة التي ندرك فيها
أنها ليست مدينة تُزار فقط، بل مدينة تُحاوَر.
وحين نتحدث إليها، نكتشف أننا في الحقيقة نتحدث إلى شيء أعمق…
إلى جزء من ذاكرتنا، من مصيرنا، ومن أسئلتنا المؤجلة.