المعضلة الحقيقية التي تقف عائقا أمام الحل في أوكرانيا، تتجلى في كلمة واحدة، وهي السيادة، خاصة مع التغييرات الكبيرة في الموقف الأمريكي، والضغوط التي يمارسها البيت الأبيض، لتتنازل كييف عن الأراضي التي استحوذت عليها موسكو، خلال ما يقل قليلا عن 4 سنوات، وهو ما يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول مخاوف أوروبا الغربية، جراء التهديد المحتمل الذي قد ينجم حال خروج الإدارة الروسية منتصرة في تلك الحرب، وهي المخاوف التي لا تقتصر بطبيعة الحال على فكرة التمدد المستلهم من الحقبة القيصرية، وإن كان هذا الأمر غير مستبعد تماما على المدى الطويل أو ربما المتوسط، وإنما أيضا يرتبط بصورة أكثر اتصالا بالكيفية التي تدير فيها القارة العجوز الأزمات، بعدما جنحت الولايات المتحدة في تخليها عن حلفائها التاريخيين في الجانب الأمني، بعدما كان الأمر مقتصرا على الاقتصاد في صورة تعريفات جمركية، وقيود على الواردات الأوروبية إلى الأسواق الأمريكية.
الواقع أن أمريكا لن تتخلى كليا عن أوروبا، ولكن ستكون مشروطة، أو بالأحرى مدفوعة الثمن، والثمن الأمني ليس مجرد دولارات تدفعها مقابل إدخال السلع إلى الأسواق الأمريكية، وإنما سيكون البعد الأمني مرتبطا بثمن سيادي، والسيادة لم تعد مجرد التحليق في فلك أمريكا، سياسيا أو اقتصاديا، وحتى في إطار أيديولوجي، وإنما باتت ممتدة إلى التخلي عن الأرض، وهو الأمر الذي يطغى على الرؤية الأمريكية للحل في أوكرانيا، عبر إجبار كييف على التنازل عن أراض لصالح موسكو، مقابل مساعدات، بل وحتى حرمانها من الحق في طلب الانضمام للناتو، فتصبح الحماية منقوصة، من وجهة النظر الغربية، وليست حماية كاملة.
الولايات المتحدة لا تضغط على كييف لتتنازل عن أراضيها، حبا في روسيا، وإنما تسعى إلى إرساء سابقة، من شأنها تجريد الأرض من قدسيتها الدولية، وهو ما يمثل جزء لا يتجزأ من طموحات أمريكا نفسها، في إطار ما سبق وأن تحدث عنه الرئيس دونالد ترامب صراحة، حول رغبته في ضم جزيرة جرينلاند، والخاضعة لسيادة الدنمارك، وكذلك حديثه عن ضم كندا، وهي أمور لا ينبغي تجاهلها بأي حال من الأحوال عند مناقشة الموقف الأمريكي من كييف، فالأمر لا يقتصر على مجرد رغبة واشنطن في إنهاء الأزمة، وتحقيق السلام، وإنما الخروج بمكاسب، حتى وإن لم تتجاوز إرساء سوابق، يمكن من خلالها مقايضة الحلفاء، لتوسيع السيطرة الأمريكية على فضاء أوسع من الأرض، يتجاوز محيطها الجغرافي، والسيطرة هنا لا تقتصر على مجرد القرارات أو السياسات أو حتى القيادات، وإنما باتت تمتد إلى السيادة.
فقبول كييف بالتنازل عن أراض ذات سيادة، يعني عمليا أن واشنطن تروج لمفهوم جديد، وهو أن الأرض يمكن التفاوض عليها، وأن السيادة لم تعد خطًا أحمر، وهو ما يمثل أخطر ما قد تؤول إليه الحرب، إلى الحد الذي يتجاوز الهزيمة العسكرية التقليدية، فالهزيمة قد لا تعني نهاية المعركة، وإنما الصياغة التي تتطلع إليها الولايات المتحدة هي في واقع الأمر قبولا بواقع جديد.
والحديث عن السيادة، نجد أن المعضلة في أوروبا تبدو هيكلية إلى حد كبير، فالمفهوم وإن كان مترسخا في الإطار النظري، عبر الحدود والسلطة، إلا أنه كان غائب عمليا، سواء سياسيا، عبر التبعية المطلقة على مدار عقود للحليف الأمريكي، أو جغرافيا عبر إذابة الهوية الفردية لكل دولة أوروبية في بوتقة كبيرة تحمل اسم الاتحاد الأوروبي، والذي اختلف عن سائر التنظيمات الإقليمية الأخرى في كونه تجاوز حدود السيادة في الكثير من الملفات.
التحولات الهيكلية في مفهوم السيادة الأوروبية ذات تاريخ طويل، فهو ممتد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن التحول الكبير في الموقف الأمريكي تجاه القضايا القارية عكس بجلاء حقيقة مفادها أن واشنطن تسعى لاستغلال اللحظة الراهنة، للحصول من الحلفاء التاريخيين على ما تبقى من سيادتهم، عبر صيغة ضمنية مفادها الحماية مقابل الأرض، وهو ما يمثل ضغطا كبيرا على مقاومة الأوروبيين، في ضوء شعور عام لديهم باقتراب الخطر الروسي، خاصة حال انتصار موسكو في حرب أوكرانيا.
الاستراتيجية الأمريكية في هذا الإطار تبدو قائمة على مسارين متوازيين، لا يهدف أيّهما إلى تقوية موسكو، بل إلى إدارة حضورها في أوروبا بما يحقق مصالح واشنطن، فمن جهة، امتنعت الولايات المتحدة عن الانخراط المباشر في الحرب، وخفضت مستوى المساعدات العسكرية تدريجيًا، في رسالة غير صريحة لحلفائها الأوروبيين مفادها أن الأمن الأوروبي لم يعد التزامًا أمريكيًا مطلقًا، ومن جهة أخرى، حافظت إدارة الرئيس ترامب على قنوات مفتوحة مع روسيا، لا بوصفها شريكا، بل باعتبارها عامل ضغط يمكن استخدامه لإعادة صياغة التوازنات داخل أوروبا نفسها، وبذلك، يصبح الوجود الروسي، بمقدار ما تضمنه واشنطن من عدم توسعه خارج حدود معينة، بمثابة أداة استراتيجية لدفع الحلفاء نحو القبول بشروط جديدة، أبرزها فكرة “الحماية مقابل الثمن السيادي”، وهي الصيغة التي تتطلع إليها واشنطن لإدارة النظام الأمني الأوروبي خلال المرحلة المقبلة.
وهنا يمكننا القول بأن أوروبا تبقى في حاجة إلى التحول نحو إدارة ملفاتها، لا عبر الانغماس في حروب، وإنما من خلال إدارة العملية التفاوضية، وعدم الاعتماد على أطراف أخرى من خارج المعادلة القارية، وهو ما يتطلب قدرا من المرونة، بعيدا عن الخطابات العدوانية والسياسات الاستعدائية التي تتبناها تجاه أطراف بعينها، مما يتيح الوصول إلى صياغة مقبولة للأزمة وكذلك إمكانية تعزيز التعاون في المستقبل، من خلال انهاء حالة الصراع الدائمة، ووأد أي حروب مستقبلية.