الحلم الذى حلم به المصريون منذ منتصف الخمسينيات فى القرن الماضى يتحقق الآن، وتكتب مصر الصفحة الأولى المشرقة من مشروعها النووى، المشروع الحلم الذى أجهض فى بدايته لظروف سياسية وأمنية ثم تم التخلى عنه فى التسعينيات مع انفجار مفاعل تشرنوبيل الروسى شاهده الجميع بالأمس واقعا ملموسا عندما شارك الرئيس عبد الفتاح السيسى، والرئيس فلاديمير بوتين، رئيس روسيا الاتحادية، عبر تقنية الفيديو كونفرانس، فى مراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة النووية، بالتزامن مع الاحتفال بالعيد المصرى الخامس للطاقة النووية، الذى يوافق 19 نوفمبر من كل عام.
تأخرنا كثيرا جدا فى تحقيق المشروع القومى النووى السلمى. بدأنا خطوات المشروع مع الهند فى زمن نهرو وعبد الناصر. تقدمت الهند وتوقفنا لظروف خارجة عن الإرادة السياسية بسبب الظروف السياسية الدولية والإقليمية وحرب 67 التى حالت دون تحقيق الحلم والطموح، وأصبح لدى الهند حاليا 22 مفاعلًا نوويًا عاملًا لإنتاج الطاقة الكهربائية، بقوة إجمالية تبلغ 6780 ميجاوات كهربائية. بالإضافة الى 10 مفاعلات قيد الإنشاء حاليًا، بإجمالى قدرات تبلغ 8000 ميجاوات.
الحلم النووى المصرى ظل أسير الدراسات والمباحثات الفنية والسياسية منذ خمسينيات القرن العشرين لكنه بقى حاضرا فى ذهن القيادة السياسية الجديدة عقب ثورة 30 يونيو 2013، فى اطار ووضع استراتيجية جديدة للطاقة فى مصر تعتمد فى مصادرها على الطاقة الجديدة. وبالفعل تم احياء المشروع النووى السلمى من جديد بالإعلان الرسمى فى 2015 عن الاتفاق بين مصر ممثلة فى الرئيس عبد الفتاح السيسى وروسيا ممثلة فى الرئيس فلاديمير بوتين
وقعت مصر وروسيا عقود المحطة فى ديسمبر 2017 بتكلفة 28.5 مليار دولار أمريكى، وشملت الاتفاق على الدعم التشغيلى للمحطة لـ10 سنوات، وإمدادات الوقود لـ60 عاما من قبل شركة "روساتوم" الروسية الحكومية.
ويتم تمويل المشروع عن طريق قرض روسى بقيمة 25 مليار دولار أمريكى، حصلت عليه مصر لإنشاء المحطة النووية، ويبلغ أجله 22 عاما بفائدة 3% سنويا على أن يبدأ سداد أول قسط عام 2029.
محطة الضبعة تمثل مشروع مصر النووى، وتتكون من 4 مفاعلات نووية لإنتاج الكهرباء بقدرة إجمالية تبلغ 4800 ميغاوات، بواقع 1200 ميغاوات لكل منها، ومن المقرر أن يبدأ تشغيل المفاعل النووى الأول عام 2028، ثم المفاعلات الأخرى تباعا.
محطة الضبعة تنتمى للجيل الثالث للمحطات النووية، الذى يعمل بالماء المضغوط ويتوافق مع متطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهى مصممة لتحمل تحطم طائرة بقوة 400 طن أو الزلزال الذى تصل شدته إلى 9 درجات على مقياس ريختر، وهى مماثلة لمحطة لينينجراد الروسية للطاقة النووية التى نفذتها "روساتوم". كما تسهم كوريا الجنوبية فى مشروع الضبعة عبر شركتها الحكومية للطاقة المائية والنووية من خلال توريد معدات ومواد البناء الرئيسية والفرعية.
ولن يقتصر الدور الروسى على إنشاء المحطة، فوفقا للالتزامات التعاقدية، سيمدّ الروس البلاد بالوقود النووى طوال العمر التشغيلى، وسيقدمون الدعم فى تشغيل وصيانة المحطة على مدى السنوات العشر الأولى من تشغيلها، وينشئون منشأة لتخزين الوقود النووى المستهلك
يوم الثلاثاء بداية تاريخ لعصر جديد تدخله مصر بقوة وهو عصر الطاقة النووية السلمية لتحقيق مشروعاها القومية الأخرى فى طريق التنمية وتنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى وتعزيز الاستقلال الاقتصادى، وتحديث البنية التحتية.
المشروع القومى للطاقة النووية السلمية أحد عناصر تحقيق استراتيجية التنمية المستدامة فى مصر وفقا لرؤية 2030، وتسعى من خلالها مصر الى ادخال 3% من الطاقة النووية فى مصادر الطاقة لعام 2035، إلى جانب 42% من مصادر الطاقة المتجددة مقارنة بـ20% عام 2022.
بما يعنى أن مصر تقتحم الأن دائرة الدول التى تعتمد على الطاقة النووية كركيزة للنمو طويل الأجل، لأن الطاقة النووية هى طاقة مستقرة، منخفضة التكاليف التشغيلية، وتستمر المحطة فى العمل لمدة قد تصل إلى 80 عاماً، وهذا يعنى أن المشروع يمثل استثماراً ممتداً عبر ثلاثة أجيال، بما يجعله أحد أكثر المشاريع استدامة فى التاريخ المصرى الحديث. علاوة على أنه مصدر لخلق آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة خلال مراحل البناء والتشغيل، حيث تشير تقديرات إلى أنه سيتم توفير ما يقرب من 50 ألف فرصة عمل أثناء التنفيذ، إضافة إلى نحو 5 آلاف وظيفة دائمة بعد التشغيل الكامل.
كما أن المشروع يعد من أكبر مشروعات إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية على مستوى العالم، إذ توفر المحطة نحو 35 مليار كيلو وات.ساعة سنويًا من الكهرباء، بمشاركة أكثر من 600 شركة فى تنفيذ المشروع، 25% منها شركات مصرية، وبنسبة عمالة مصرية تصل لحوالى 80%.
الحلم -كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسى- نراه يتحقق على أرض الواقع، بفضل الإرادة والعمل والإصرار. وكذلك العلاقات بين مصر وروسيا التى تعد علاقات استراتيجية راسخة، تمتد لتشمل كل المجالات، وتقوم على الاحترام المتبادل والتفاهم المشترك، مهما كانت التحديات الإقليمية والدولية. وامتدادا لمسيرة التعاون الثنائى المثمر بين القاهرة وموسكو، عبر مشروعات عملاقة، تركت بصماتها الواضحة على مسار التنمية والتقدم، بدءًا من تشييد السد العالى فى ستينيات القرن الماضى، وصولاً إلى المشروع القومى لإنشاء محطة الضبعة النووية، ذلك الصرح الوطنى العملاق، الذى يحمل فى طياته، قيمة استراتيجية كبرى لمصر، ويبعث برسالة جلية، بأننا نمضى بخطوات ثابتة، نحو مستقبل أكثر تقدماً واستدامة، متجاوزين كل التحديات، بفضل العزيمة الصادقة والعمل الدؤوب، حتى بلغنا هذه المرحلة المتقدمة فى تنفيذه.
مشروع محطة الضبعة النووية -كما أكد الرئيس السيسي- يمثل نقلة نوعية فى مسار توطين المعرفة، واستثمارا حقيقيا فى الكوادر الوطنية، حيث يشمل تعاونا واسعا، فى مجالات التدريب ونقل التكنولوجيا، ويتيح إعداد جيل جديد من الكوادر المصرية، فى تخصصات الطاقة النووية والتصنيع الثقيل، بل يضع مصر فى موقع ريادى، على خريطة الاستخدام السلمى للطاقة النووية.. كما يساهم المشروع، فى توفير آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، دعمًا لمسيرة التنمية والازدهار.