حازم حسين

دولة التلاوة وقرآن مصر.. عن البرنامج وثقافة التنافس وإرث المدرسة الأعظم

الإثنين، 17 نوفمبر 2025 02:00 م


تابعت الحماسة والزخم الكبيرين عند انطلاق المقابلات قبل ثلاثة أشهر. وما كنتُ أتخيل أن تصل الأعداد إلى نحو أربعة عشر ألفًا من كل المحافظات. ربما كان فيهم حفظةٌ وقرّاء عاديون بطبيعة الحال؛ لكنها علامة كبرى على الاهتمام، وإشارة إلى خزّان المواهب العريض فى ربوع مصر، بين من يصلحون للتنافس فورا، ومَن يُمكن أن يكونوا مُنافسين فى المُقبل القريب، وبقدرٍ قليل من الرعاية والاحتضان.

الفكرة لامعة فى كل الأحوال؛ ذلك أن تلك الأرض التى لا ينضب مَعينُها أبدًا، تحتاج دومًا إلى تقليب تُربتها، وإخراج المطمور فيها على السطح، ليتنفَّس ويَنجلِى، ويستحثّ غيرَه بالتجربة والأمل.

وكلما انفتح بابٌ للترقِّى بالجدارة والاستحقاق؛ تنسَدُّ أبواب أُخرى ينفذ منها الأنصاف والأرباع، وتعرف البلادُ مقدارَ ما لديها من طاقة خفيَّةٍ وجوهرٍ مكنون. يشعُّ الضوء من جانبٍ؛ لكنه يُنير الأرجاءَ كافةً.

لبرامج المسابقات أدوارٌ أكبرُ من الترفيه. أوّلها التعريف وجلاء صورة الفسيفسائية الاجتماعية الغنية بالألوان والتكوينات البديعة، ثم إشاعة فكرة العدالة، قولاً وفعلاً، وعلى مرأى من الناس ومسمع.

والأهم ما تُبشِّر به من فرص يتمنّاها الذين يَطوون صدورهم على إمكانات باذخة وطموحات كبرى؛ فيرون أنفسهم فى المُتبارين؛ ولو لم تتوافر لهم حظوظهم من الموهبة. يتطلّعون إلى نسخة شبيهة تستكشف فيهم ما خبأته الأيام والظروف، ويتحمّسون لكل ذى حقٍّ عندما يُصيبُ ما يليق به.

ينوب المسرح عن الجغرافيا كلها، والصاعدون إليه عن الغائبين وراء الشاشات. وتأخذ الصراعات الإنسانية سمتًا جميلاً ورائقًا، يكون الاقتتال فيه بالجمال والإبداع، والنصر بالفرحة الغامرة لآخر لا نعرفه غالبًا؛ لكنه يُنبئنا بإمكانية أن تكون الحياةُ مُنصفةً، وأن تدور دورتَها الكاملة لتنتزعنا من الهامش إلى المتن.
نزل القرآن فى مكة، كُتِب فى اسطنبول، وقُرِئ فى مصر. ظلّت الجملةُ الذائعة صالحةً طوال عقود مضت، وما تزال، ولا دليل أبلغ من "دولة التلاوة". وإن كان يتعذَّر تقييم التجربة والحُكم عليها استباقيًّا، ولمَّا تزل فى طور البداية بعد؛ فإنَّ المُقدّمات تشى بالنتائج غالبًا.

ورشةٌ مرهقة على مدار أسابيع، فرزت الآلاف واستخلصت منهم اثنين وثلاثين صوتًا، وحلقات أسبوعية ستتوالى حتى غُرّة رمضان فى منتصف فبراير المقبل، يفوز فيها اثنان فى الترتيل والتحقيق، بمجموع جوائز مادية تتجاوز 3 ملايين جنيه، وجائزة معنوية لا تقلُّ جلالاً، بإمامة المُصلِّين فى تراويح المشهد الحسينى.

حالة مختلفة عرفناها مع الغناء والشعر ومجالات أخرى؛ لكنها ربما تكون المرّة الأُولى فى حضرة كتاب الله. درجنا على مسابقاتٍ مُغلقة فى الإذاعة وغيرها، ولم نشهد محاولاتٍ سابقةً لتحويلها إلى فعاليّة جماهيرية؛ أقلّه فى نطاقنا القريب، بالنظر إلى تجارب دول بعيدة من غير الناطقين بالعربية، لا سيّما إيران.

ومناط الأهمية من وجهة نظرى؛ ليس فى اكتشاف المواهب وتقديمها للسمّيعة والمتذوقين فحسب؛ بل الدفاع عن مسنَد التلاوة الذى ارتقته مصر منذ فجر علاقتها بالقرآن الكريم، وحافظت عليه طيلة القرون الماضية، وجدَّدت دماءه بقوّة خلال القرن العشرين.

وإذا كان للنص فضلٌ على حامليه والمُعتقدين فيه؛ فإنَّ للمدرسة المصرية أفضالاً على بقيّة مدارس تلاوته، وهى الرائدة بينها، وعمود الخيمة الذى رفع سقفها إلى أعلى ذرى الجمال والجلال والمهابة، وأفاض على العالمين بأثرها الملموس، من أوَّل الإمام وَرش ابن الصعيد، وإلى عُقد اللآلئ الثمين من حناجرها الباذخة، وما تزال تُقَلّد هُنا وهناك، ولا يُباريها أحدٌ، أو يصمد أمامها فى سباق الحُسن والنغم الرائق.

يكفى أن تُطوّح ناظريك شرقًا وغربًا؛ لتكتشف مقدار الإسهام العظيم لأكابر القرَّاء المصريين. مشاهير فى دولٍ حولنا يُنسَبون إلى آبائهم على ضفّة النيل، ولن تعدم أطيافَ رفعت والمنشاوى ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط والسيد متولى والشحات أنور وعبد العزيز حصّان وغيرهم فى أفواه إيرانيين وتُرك وآسيويين ومغاربة.

وأشدُّ ما أبهجنى فى الحلقتين الأُولَيين من "دولة التلاوة"؛ أننى رأيتُ المواهب كلَّها تتبارى تحت الراية المصرية الخالصة، ومن لا يملك صوتَه الخاص، يُحاكى واحدًا أو أكثر من آبائنا الكبار الأجلّاء، ولم يتعثَّر فى مسالك التلاوة الصحراوية التى ذاعت خلال العقود الأخيرة، ويغلُب عليها الاصطناع والتباكى وادعاء الخشوع، مع جفافٍ عاطفىٍّ وغياب للتطريب والتعبير، وعداوة لا تخفى مع النغم، وانسيابية المقامات وانتقالاتها المُتقنة.

لم تعرف مصر الخصام مع حُسن الذوق واستحسان الموسيقى. ولم تختلق عداوةً كغيرها بين قداسة النص وحلاوة الطرب به. ولا شكَّ فى أنّ جانبًا من هذا يعود للإرث الحضارى الطويل، وخزائنه النغمية التى انتقلت من حياة المصريين القدامى، وخالطت أيامهم وعقائدهم فيما تلا ذلك من مراحل وتحوُّلات.
لم نسمع أناشيد المعابد ونصوصَها الجنائزية؛ لكنَّ المؤكد أنها تسربت إلينا مع الخبز والماء. وفارق الترانيم المسيحية عن غيرها من كنائس الدنيا، وثيقُ الصِّلة غالبًا بفارق التلاوة لدينا عن غيرنا من المُتحلِّقين فى ساحة القرآن.

انتقلت المَوالِدُ كابرًا عن كابر، ومعها طقوسٌ واحتفالات وطرائقُ أداء، طبعت معاشَ المصريين وانطبعت فى محاوراتهم التالية مع كل وافد جديد. وصولاً إلى الصيغة التى تزاوَج فيها الغناءُ مع التلاوة: عضويًّا بالانتقال المفتوح للحناجر فى الاتجاهين، وعَمليًّا بالأثر الذى تبقَّى لكلِّ اتجاهٍ منهما فى الآخر؛ وما يُمكن أن تلمسه بوضوح لدى على محمود ومحمد عمران ذِكرًا، وأم كلثوم وعبد الوهاب طربًا، وبينهم طابور طويل من المشايخ والمُغنّين: المسلوب فى توثيق غير قريب نسبيا، وسيد مكاوى والشيخ إمام فى ارتداد غير بعيد.

ورد فى الصحيحين عن أبى هريرة أن الرسول قال: "ليس منّا من لم يَتَغنَّ بالقرآن"، وأورد النسائى وأبو داود عن البراء بن عازب قوله صلى الله عليه وسلم: "زيّنوا القرآن بأصواتكم"، وأورد البخارى ومسلم عن أبى هريرة أيضًا: "ما أذن الله ما أذن لنبىّ حسن الصوت يتغنّى بالقرآن"، ورُوِى عن عقبة بن عامر أنّ النبى قال: "تعلّموا القرآن، وغنّوا به، واكتبوه، فوالله إنه لأشدّ تفصّيًا من المخاض من العقل"، وفى حديث ابن ماجه: "اقرأوا هذا القرآن بحَزَن فإنه نزل بالحَزَن".

وبعيدًا من الاختلاف بشأن التغنّى لُغةً ودلالة؛ فإنَّ التزيين والحَزَن يستدعيان بالبديهة ما ينُمّ عن التلوين والتطريب، وقبلها التعبيرية التى توافق اللفظ مبنىً ومعنى، وتتطلّب بالتبعية التفريق بين الحالات على مستوى الجُملة ووحداتها الأصغر، كالكلمة والحرف وما يتّصل بهما من وقف ومدود وغيرها. كما أن الموسيقى أوقع فى النفس، وأقرب إلى تثبيت المنطوق فى الوعى.

ولا أريد الذهاب إلى خلافيات فى مقام الاحتفاء؛ ذلك أننى سعيد بالبرنامج غاية السعادة، وآمل فيه أن يسدّ ثغرة كانت مُتّسعة لعقودٍ خلت، وخلقت فراغًا غير يسير بين أجيال القراء.

وأرى أنه حاز صَكّ الجودة من الفكرة والانطلاق؛ وإن كان هذا لا يمنع من التجويد وإغناء التجربة مُستقبلاً.

وقد كُنت أتطلَّع إلى أن تشهد نسختُه الأُولى مُشاركةً نسائية، أكان فى نهر التنافس المفتوح، أم ضمن مسارٍ مقصور على الفتيات. ويُمكن استدراك ذلك فى النُّسخ التالية، سواء تحت العنوان نفسه، أو بآخر يتفرّع على الأصل ويُوازيه، ويُثرى مكتبة الأصوات القرآنية بأصلٍ غائب عنها منذ عقود.

ذلك أنَّ الإذاعة الأهلية فى بدايتها، عرفت قارئاتٍ مُبرّزات، وبأثر الأُصولية وتوازنات مرحلة الاحتلال والحرب العالمية الثانية، نزل المجتمع على إرادة المُؤسَّسة الدينية، وأعفى سيدات التلاوة مُبكّرًا، ومن دون ضرورة أو مانعٍ شرعىٍّ حاسم.

كما يُستحسَن النظر فى التصنيف العُمرى؛ إذ يشقّ على الأطفال أن يخوضوا مُنازلةً مع الكبار؛ ولمَّا تكتمل أصواتهم بعد. ومعروف أنَّ الحناجر تتشكل فى الطفولة والمُراهقة، لتصفو إلى نُضجها مع مرحلة البلوغ.

رأينا فى الحلقة الثانية طفلاً فى الثانية عشرة يُناطح شابًا فى الثلاثين، وكان طبيعيًا ألا يصمد أمامه؛ لأن المعرفة بالأحكام تتصّل بالعُمر وطول المراس، وكفاءة النُطق وسياسة المقامات أيضًا. وقد يكون مُناسبًا فى الدورات المُقبلة أن يُستحدَث فرع للأشبال، يتوازى مع فرعى المُتمكنين من الرجال، والمُتمكنات من النساء.

لجنة التحكيم وقورٌ شديدة التهذيب، وتضمّ خبراتٍ رفيعةً ولها إسهامات محلية ودولية لا تُنكَر. طاولتها تتسع لخمسة وجوه: قارئ محترف، ومُختص بالأحكام، وأستاذ فى علم المقامات. بجانب الداعية مصطفى حسنى ضيفًا دائمًا دون صوت، وعضو يتبدّل بين الحلقات، فكان وزير الأوقاف فى الأولى، وجابر البغدادى فى الثانية، والقائمة ستتسع لآخرين منهم الدكتور على جمعة والمفتى نظير عياد والقارئ البريطانى محمد أيوب عاصف.

وحبّذا لو ضمّت مُلحنًا أو أستاذًا أكاديميًّا فى الموسيقى؛ ذلك أن تقييم الأصوات وطبقاتها وإمكاناتها قد لا تكشف عنه تلاوةٌ محدودة لعدّة آيات، وقد يُظلَم البعض بالاحتكام إلى مدى التوفيق أو الإخفاق فى ركوب المقام والانتقال منه إلى سواه؛ بينما يُمكن أن يُبشّر البعضُ عبر إطلالة غير مثالية تمامًا، بطاقات واعدةٍ يصحّ الرهان عليها مستقبلاً، ولا تحتاج إلَّا قليلاً من التدريب والتثقيف.

وربما كان يُعزّز الإفادة لو اشتملت كل حلقة على استضافة قارئ بارز، وتقديم قراءة جماعية مع المُشاركين فى مُباراة استعراض وتبيان لتنوُّع الأصوات والأنغام؛ ذلك أن تعميق الإحساس بالجمال وتطبيع ألوانه المختلفة فى النفوس من أوثق مهام التجارب النيّرة كدولة التلاوة.

تظلّ الخطوة مهمة ومُثمرة من نواحٍ عِدّة. تفرز وتنتقى وتُصعّد، وتفتح أبواب العشم، وتُوطّن القلوب على حُب الكفاءة وأخذ الأشياء بحقّها، فضلاً على تعميق حال المنافسة الشريفة فى كل شىء، ولا شىء أغلى وأعزّ من القرآن.

وعندما يطمئنُّ الناس إلى أنَّ الأخذ على قدر العطاء، ستطيبُ نفوسهم إزاء غيرهم، وسيتطلّعون إلى ما يأملون فيه من أبواب الجد والاجتهاد، بدلاً من الأسى أو الحسد.
الأمر شبيه بعالم الرياضة وكرة القدم؛ وإن على مقياس أصغر. فقد صارت الملاعب بديلاً عن ميادين الحروب، ويجدُ المُشجِّع سلواه فى أن يفوز فريقُه المُفضّل، كما لا بأس من الهزيمة مع أداء جيد.
آلاف فى المدرجات، وملايين من ورائهم فى البيوت، ربما لم يمارس أغلبُهم اللعبة، ولا يطمحون لأن يكونوا نجومًا فيها؛ لكنها تعوضهم عن تفاصيل صغيرة لا تتحقَّق فى واقعهم البسيط.

كأنهم يتشاركون المتعة مع لاعبيهم البارعين، أو يستثمرون فى مواهبهم ويقتسمونها معهم. فالأمل غاية عُليا، وصناعة ثقيلة. وبينما يغلب على الفشل أن يكون شخصيًّا؛ فإن إحساس النجاح يمكن بجهد يسير أن يكون جماعيًّا، وجامعًا لأخلاط شتّى من البشر.

الإنسان مفطور على الحلم والمشاركة. فى المدرسة والنادى، كما فى البهجة والافتخار بحدث وطنى كبير. هكذا فرح المصريون بمتوالية الوقائع خلال الشهر الأخير، من النجاح فى وقف الحرب على قطاع غزة، مرورا بفوز الوزير الأسبق خالد العنانى بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو الدولية، وإلى احتفالية افتتاح المتحف الكبير قبل أسبوعين تقريبا. وكان اختيار توقيت البرنامج ذكيًّا للغاية، بعد حفل المتحف، وفى فاصل من جدل الهوية ومُزايدات الأُصوليِّين.

وحال الحفاوة الواسعة بحناجر "دولة التلاوة" من الصنف نفسه، أى تلك الأحداث التى تمسّ قطاعًا عريضا من البشر، وتستثير فيهم حماسة وإقبالاً كانا مُحيَّدَين لوقت طويل. والمحطات المشار إليها تشترك فى مَعين واحد: وضوح القصد، وصفاء النية، وبراعة الوصول للغاية من أوفق السبل، وكلها تُعبِّر بتفاوتاتٍ نِسبيَّة عن رصيد التحضُّر والإبداع لدى الأُمة المصرية، وعن احتمالها للأمانات على أحسن ما يكون، وبأعلى صور الكفاءة والإتقان.

الأرض واحدة، والشجر والثمر مُختلف ألوانه. وهكذا الكتاب الكريم أيضًا، نص واحد مُحكَم؛ إنما لا آخر لها ولا حصر لعطاياه. ولكل عصر ومِصر نُسخة خاصة؛ بالوعى والإحاطة والاسترسال الجميل مع كلام الله. وأحسب أن لمصر قرآنَها الخاص، الذى لا نظير لحلاوته على ألسنة القراء المصريين.

وأعترف أننى لا أستسيغُ بعض أنماط القراءة التى أصبحت مسيطرة على عموم المقارئ في المنطقة وخارجها، وقد سوّقتها الوفرة المالية أو الإلحاح ضمن صيغ اتصال مُستحدثة، فى مقابل القصور عن تسويق بدائل أثرى وأكثر غِنىً وإبداعا. ونحن أحوج ما نكون إلى مدرستنا الأصيلة، بديلا عن بعض المدارس الدخيلة بجفافها وعُريها من الجماليات والمساوقة النغمية والتعبيرية للمنطوق اللفظى.

والحق أنها انعكاس راهن لصراع قديم، كانت بذوره معارك الاستقطاب بين البصرة والكوفة، وانتزاع الأولى لهيمنة على فضاء المعمار اللغوى، مقابل تسيّد الثانية فى فضاء النص القرآنى وعلومه، مع حضور ملموس لكل منهما فى الحقل الآخر بطبيعة الحال.

انحاز الحجاز ونجد فى هذا الصراع انحيازا سياسيا - يطول الكلام فى تفاصيله - فتقولبت قراءاتهما قرونا، حتى تحررت جزئيا مع توحيد الأذان والقراءة بالحرم المكى فى النصف الأول من القرن الماضى، بدفعة من حناجر مصرية، لكن لم يكتمل التحرّر، وظل المدخل السياسى الموروث حاكما لثقافة التعاطى مع النص.

فى الأطراف تحررت الحواضر الإسلامية الناشئة من هذا الاستقطاب، فتجلّت صنوف عدّة من التبيان والجلال الموسيقى، انعكست واضحة فى خيارات الأقاليم من القراءات، التى تبدّلت انتقاءاتها حتى تبلورت: حفص عن عاصم فى مصر، ورش عن نافع فى المغرب العربى، والدورى عن أبى عمرو بن العلاء فى السودان وجيوب أفريقيا، وهكذا.

بجانب تفضيلات الروايات، انطبعت القراءة بآثار الموروث الثقافى والموسيقى، والخزائن النغمية فى حواضن الترتيل الناشئة، استعاد المقام العراقى بهاءه، ومزج المغاربة روح الموسيقى الأندلسية و"نوبة زرياب" مع النص، وانداحت رائحة الموسيقى القبطية والشعبية فى القراءة المصرية، وأخذت المسيرة خطوة أوسع على طريق الإحكام مع بلورة الرواحل القرائية: التطريب، العراقية، الشامية، والراحلة الأفريقية، وغيرها.

استفادت دولة التلاوة استفادة عظيمة من الموسيقى، ليس فقط فى التطعيم العصرى الذى أنتجته الإزاحات المتوالية للحناجر بين دولتى التلاوة والطرب، وإنما منذ تطور البنية الإيقاعية فى صدر الإسلام، وشيوع الغناء المتقن مع طويس وغيره، واعتماد الفارابى وابن سينا وصفىّ الدين الأرموى آليّةً رياضية لتوليد الضروب الإيقاعية، ثمَّ تطور الأمر لاعتماد آلية شبيهة لتوليد المقامات، بمجاورة الأجناس والعقود فى متواليات رياضية، وصولا إلى الصيغة الأكثر اكتمالا مع ارتحال قوافل القراء والمطربين المتبادل بين الطرب والقرآن فى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر والأولى من القرن العشرين.

نموذجى الشخصى الفاتن يدور حول طابور طويل من أساطين التلاوة، كلهم من مصر، مع تطعيم من الشام وإيران وتركيا، يعود هواهم وانطباع البصمة فى روحهم إلى المدرسة المصرية أيضا. وكلها حناجر زاوجت بين النغمة والكلمة باقتدار، معتمدة مسلكا بيانيا وتعبيريا يقوم على تفجير الطاقة الإيقاعية والنغمية فى الكلمة ووحداتها الأصغر/ الحروف، وخلق تفاوتات إيقاعية رأسية وأفقية "فى الجملة اللغوية الممتدة، وضمن الكلمة الواحدة"، بصورة تُوظّف الموسيقى فى خلق ظلٍّ تخييلىٍّ مرئىٍّ للكلمة، مُحرّرةً النص من سجن الإشارية المجازية والبُعد الاستعارى للعلامة اللغوية، إلى التعبيرية البصرية بتحقيق العلامة فى الزمن والصوت، تأسيسا على طاقة النغمة والإيقاع، واتكاء على الشحن النفسى والأثر التراسلى المباشر بين آلتى الوعى، بمخزونهما الدافق، لدى المرسل والمتلقى.

والموسيقى نغم فى زمن، وكذلك التلاوة المُبدعة. ومهما بدا أن المدرسة المصرية قد تراجعت لصالح غيرها؛ فإن الثراء الذى يُحققه المصريون على امتداد العالم الإسلامى فيه ما يكفى من الرد ويزيد. لكنه لا يمنع من الاعتراف بحاجتنا إلى إنعاشها ورىّ جذورها الراسخة، واستنبات غصون تُجدّد شبابها واخضرار عطاياها. وهذا ما تتجلّى بشائره فى "دولة التلاوة"، وسنكون على موعدة مع ثمره اليانع باستمرار التجربة واكتمال عطاياها، وبالمواظبة على إرسال الرسائل الجادة فى مواقيتها المناسبة، احتفاء بكل جميل جليل، وإعلاء للموهبة والكفاءة والإبداع على سواها من الاعتبارات.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب