معبد حورمحب.. معزوفة من حجر فى قلب الجبل

في قلب منطقة جبل السلسلة الواقعة على الضفة الغربية لنهر النيل، يبرز واحد من أهم المعابد المنحوتة في الصخر خلال عصر الدولة الحديثة، وهو معبد الملك حورمحب، آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة. وتمتد المنطقة، التي كانت من أعظم محاجر الحجر الرملي في مصر القديمة، بطول يزيد على كيلومترين، وقد خرجت منها أحجار المعابد والمسلات والمقاصير التي ميّزت العمارة المصرية في عصورها المختلفة.

وقد كشفت الحفائر الحديثة في الجزء الشرقي لجبل السلسلة عن 78 مقبرة لرجال ونساء وأطفال، ما يدلّ على وجود مستوطنة متكاملة في هذا الموقع، وليس مجرد معسكر مؤقت لعمال المحاجر كما كان يُعتقد سابقًا. وتميزت هذه المقابر ببساطة تصميمها، إذ جاءت على هيئة غرف غير مزخرفة منحوتة مباشرة في الصخور، ما يعكس طبيعة الحياة اليومية لسكان المنطقة.

معبد حورمحب.. تحفة معمارية منحوتة في الصخر

أنشأ الملك حورمحب معبده في حُجرة صخرية طبيعية، فجاء البناء فريدًا في شكله وتخطيطه. تتصدر واجهته خمس فتحات مقطوعة في الجرف الصخري، يفصل بينها أعمدة حجرية، وتشكل الفتحة الوسطى المدخل الرئيسي للمعبد، وقد حُفرت حوله الألقاب الملكية للفرعون.

يقود المدخل إلى قاعة واسعة تنتهي بـ قدس الأقداس، الذي يحتضن مجموعة من التماثيل الجالسة منحوتة مباشرة في الصخر، تمثل سبعة معبودات ارتبطت بجبل السلسلة وعقيدة عصر الدولة الحديثة. ومن أبرز هذه المعبودات: سوبك: المعبود التمساح وراعي المنطقة، تاورت: المعبودة الحامية، والتي تُظهر النقوش مشهدًا لها وهي ترضع الملك حورمحب، تحوت: برأس أبو منجل، إله الحكمة والكتابة، ثالوث طيبة: آمون رع وزوجته موت وابنهما خنسو، إضافة إلى تمثال موقر للملك حورمحب نفسه.

وتزيّن جدران المعبد مشاهد نادرة، من بينها لوحة رائعة على الجدار الغربي تُظهر موكب حورمحب المنتصر عقب حملته في النوبة، في تصوير فني يوثق لحظة سياسية وعسكرية مهمة من تاريخه.

قدسية الموقع وإضافات الرعامسة

لم يتوقف الاهتمام بالمعبد عند عصر حورمحب؛ فقد حرص ملوك الأسرة التاسعة عشرة وكبار موظفي الدولة خلال العصر الرعامسي على إضافة نقوش ولوحات جديدة إلى جدرانه، احتفالًا بزياراتهم لهذا المكان المقدس، ما يعكس مكانته الروحية المتنامية، ويؤكد أنه كان أكثر من مجرد موقع محاجر، بل مركزًا دينيًا يحظى بالاحترام في الدولة الحديثة.

جبل السلسلة.. تاريخ محفور في الصخر

وتحمل النقوش المحفورة في مختلف أرجاء جبل السلسلة أسماء الملوك الذين استخرجوا منه الحجارة لبناء صروحهم، من عصر الأسرة الثامنة عشرة وحتى العصور اليونانية والرومانية. ويظل معبد حورمحب، المنحوت بدقة في قلب الجبل، شاهدًا على مهارة المصري القديم، وقدرته على تحويل الحجر الصامت إلى سجل مفتوح للتاريخ.