حسين السيد يكتب: سيبويه يترك الحديث ليتعلم النحو

الأحد، 16 نوفمبر 2025 06:00 م
حسين السيد يكتب: سيبويه يترك الحديث ليتعلم النحو الكتاب لـ سيبويه

يظل الإنسان يفكر فى مستقبل حياته، فيرسم الخطط ويعد العُدد، على أمل أن يتخصص فى علم من العلوم، يكون بارزا فيه، ولكن يهيئ له الله شيئا آخر، بعيدا كل البعد عما أراد، ولم يكن فيما قبل يحب هذا الشىء الجديد، كأن يتمنى المرء أن يكون ضابطا فيصير محاميا، أو طبيبا فيصبح مدرسا، أو سباكا فيكون مغنيا.. وكم خيَّب الأبناء ما كان يتمناه الآباء ويحلمون به، وكم يغِّير مكتب التنسيق رغبات الواحد منا.


وإذا كان التغيير بغير إرادة بعضهم، فإن آخرين قد غيَّروا حياتهم بإرادتهم هم، وذلك عن طريق التحدى أو قل هى الأنفة التى يطبع الله عليها بعض الناس، كأن تكون فى مجلس علم وتخطئ فى القراءة فيضحكون عليك  ويسخرون منك، فتقرر أن تدرس النحو دراسة متعمقة، أو تُسأل عن عمل لنجيب محفوظ فلا تجيب، فتصمم أن تقرأ كل أعماله، أو لا تعرف تحية المسجد، فتعزم على التبحر فى علوم الدين.


نقول إن "سيبويه" كان من هذا الصنف من الناس، فقد تخصص فى علم الحديث، فهو فى الأصل لم يتخصص فى دراسة علم النحو الذى برع فيه واشتهر به بين الناس، وإنما كان فى أصله من كتَّاب الأحاديث، أى إنه نشأ ليكون محدثا فقيها، وكما هو معلوم فإن حلقات العلم كانت منتشرة آنذاك، ومن هذه الحلقات كانت حلقة "حماد بن سلمة" المحدث المشهور، وكان لا يترك صغيرة  ولا كبيرة فى الخطأ إلا لامَ صاحبه، ومن هنا قالوا عنه "وكان شديد الأخذ"، ومن ذلك أيضا أن "سيبويه" كان يستملى عليه قول النبى (ص): ليس من أصحابى إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء"، فقال "سيبويه": ليس أبو الدرداء، على أساس أنه اسم ليس، فقال حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، وإنما "ليس" ها هنا استثناء، فقال: لا جرم، سأطلب علما لا تلحِّننى فيه، فلزم الخليل وبرع". وأخطأ "سيبويه" لأن هناك قاعدة تقول: إن المستثنى بـ"ليس" و"لا يكون" واجب النصب، لأنه خبرهما، واسمهما واجب الاستتار، وهو ضمير راجع للبعض المفهوم مما تقدم، فمثلا، قولك: أتونى ليس زيدا، فزيد خبر ليس منصوب بالفتحة الظاهرة، واسم ليس ضمير مستتر يعود إلى واو الجماعة، كأنه قال: أتونى ليس الآتى زيدا، أو ليس بعضهم زيدا، وكذلك قولك: قاموا ليس زيدا، أى ليس القائمُ زيدا.


وحدث أن كان "حماد" يُملِى على "سيبويه" ذكر الصفا، فقال: "صعد رسول الله (ص) الصفا" فقال "سيبويه": "الصفاء"، فقال "حماد": يا فارسى لا تقل الصفاء، لأن الصفا مقصور"، فلما فرغ من مجلسه كسر القلم وقال:"لا أكتب شيئا حتى أحكم العربية".


وهناك حادثة ثالثة ذكرها أبو بكر الزبيدى فى كتابه "طبقات النحويين"، إذ جاء "سيبويه" إلى "حماد" فقال له:"أحدَّثكَ هشام بن عروة عن أبيه فى رجل رَعُف (خروج الدم من الأنف) فى الصلاة؟ فقال "حماد": أخطأت، إنما هى رَعَف بالفتح. فانصرف إلى "الخليل" فشكا إليه ما لقيه من "حماد"، فقال: صدَقَ حماد، ومثل حماد يقول هذا، ورَعُفَ لغة ضعيفة، والصحيح رَعَفَ".


يعنى أن "سيبويه" لم يكن ليدرس النحو ويلازم "الخليل" الذى كان يقول له كلما أتى لزيارته: "مرحبا بزائر لا يمل"، ولم يكن ليناظر "الكسائى"، ولم يكن ليسجل ويدون كتابه العظيم "الكتاب"، إلا لأنه أنف من أن يخطئ فى مسألة من مسائل النحو، وتحديدا فى رفع خبر "ليس" بعد أن توهم أنه اسمها، فقيل له: لحنت يا سيبويه، فلم يقبَل على نفسه هذا الجرم الخطير وهذا الوصف الشنيع، فعزم على محوه بالتعلم، وعلى شد الرحال إلى البادية، مع ملازمة أكبر معلم للعربية فى عصره وفى كل العصور "الخليل بن أحمد".


لو كان أحد غير "سيبويه" قيل له: لقد لحنت، لهان الأمر عليه، ولم يأبه له، ومر عليه مرورا حسنا، وتابع درسه وواصل طريقه الذى رسمه لنفسه، فماذا يكون هذا الخطأ الذى يحوِّل إنسان من أجله كل خططه، بحيث يترك ما شرع فيه وقطع أشواطا لا بأس بها، ويغيِّر مساره إلى مسار آخر، صحيح أن الاثنين (النحو والحدث) يكملان بعضهما، إلا أن هذا له طريق وله رجاله، وذلك طريق آخر وله رجال آخرون، وهؤلاء رجال كانوا يبحثون عن الدقة ويتحرونها وينشدون الصواب مهما كلفهم ذلك من عناء ومشقة ومال، فأنت لا تبحث عن النحو فى كتاب "الصحيح" للبخارى، ولا تطلب الأحاديث من "الكتاب" لسيبويه، نقول: إن كل واحد منا يخطئ خاصة إذا لم يكن ملمًّا بأصول هذا العلم، لكن ليس كلٌّ منَّا سيبويه الذى يأبى على نفسه أن يقال له: لقد أخطأت، فمنا من يتكبر ويرفض التعلم، ومنا من يقبل الإهانة، ومنا من يسكت عن قول الحق، ومنا من يريد أن يبنى لنفسه هرما، ومنا ومنا..


لكن ماذا لو تجاوز "سيبويه" هذا الخطأ ولم يقف عنده، أو قل ماذا لو قرأ حديثا ليس فيه "أبو" حتى لا يخلتط عليه الأمر بين الرفع والنصب، لا شك أنه سيكون محدثا من أصحاب الأحاديث، أو أن يكون فقيها من الفقهاء، وقد يكون له مذهب فى الفقه، لكن ماذا عن النحو العربى، نحن لا نتخيل النحو بدون كتاب "سيبويه"، إن كل ما كتب فى النحو يدور فى فلك "الكتاب" إما أن يكون نقدا للكتاب أو لصاحبه أو تعظيما وإجلالا لهما، فما كُتب ما هو إلا شرح للكتاب أو ترديد لأفكاره، فكلنا عالة حتى الآن على كتابه، ولهذا فإن "سيبويه" يعد أبا النحو العربى.
وإذا قال عمرو بن بكر الخارجى حينما قتل خارجة بن أبى حبيبة وهو يقصد عمرو بن العاص: أردت عمرا وأراد الله خارجة، فإنه يمكننا أن نقول: أراد "سيبويه" علوم الشريعة وأراد الله له النحو.

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب