تشابهات كثيرة، واختلافات أكثر، وثقة لم يمنحها الرجل المتشكك بطبعه لأحد سواه؛ إذا استثنينا زوجته سارة.
قد يكون من المبكر الحديث عن تصدعات فى جدار نتنياهو، خاصة مع مقدرته الفائقة على أن يقفز فوق الموانع، ويخرج من كل أزمة أقوى مما كان قبلها.
لكن استقالة وزيره للشؤون الاستراتيجية وأقرب مستشاريه، رون ديرمر، أقرب إلى ذاك الشرخ الصغير لدرجة أنه لا يُرَى، والخطير بما ينطوى عليه من إشارات عديدة مركبة، وربما لا يُكتشَف حجم تأثيره إلا بعدما ينقضّ زجاج النافذة التى يُطل منها أطول رؤساء حكومات إسرائيل بقاء فى السلطة.
أعاد ديرمر قراره إلى الأسباب الشخصية، بين رغبته فى الاهتمام بالعائلة أو اختبار تجربة جديدة مع العمل العام. قال إنه تعهّد مع تعيينه وزيرا بالخدمة عامين فقط، وقد يكون صادقا؛ إنما لا يمكن إسقاط توقيت الخروج من عوامل التفسير.
لا سيما أنه صار أكثر أهمية منذ انتقلت الحرب من أيدى الجنرالات إلى عهدة السياسيين، وتضاعفت أهميته مع عودة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للبيت الأبيض، وله رابطة وثيقة معه، وقنوات اتصال فعالة للغاية مع الفاعلين فى إدارته.
كما لو أن زعيم الليكود يُحرَم فجأة من أصله الثمين فى واشنطن، مع رمزية الانسحاب المفاجئ، وتداعياته النفسية والدعائية؛ ولو لم تكن حقيقية تماما.
على أن أخطر ما يسترعى الانتباه، ليس بَرَم وزير واختياره التقاعد المُبكّر، أو الافتقاد إلى ظهير لطالما فضّل سيّده على نفسه؛ إنما ما وراء ذلك من علامات على افتقاد الحساسية العالية فى لغة التواصل مع الأمريكيين، وتبدُّل الولاءات أو تعارضها. صحيح أنها قفزة لا تؤثّر فى وضع الائتلاف الحاكم؛ لكنها تمسُّ رئيسه بشكل مباشر.
سبق للوزير المُستقيل أن اختار إسرائيل، وفضلها على مسقط رأسه وجنسيته الأمريكية. ومُغادرة الحكومة اليوم قد لا تعنى الانقلاب على تفضيله القديم؛ لكنها ليست بعيدةً فى احتمالاتها عن أن تكون خيار المُضطرّ، وإعادة اصطفاف لا تؤخّر الوطن العِبرىّ؛ إنما لا تُقدّم سُلطته القائمة على شبكة المصالح والعلاقات المنسوجة وراء المحيط.
وليس خَفيًّا على أحد أن رون ديرمر كان جسرًا عريضا لنتنياهو مع الطبقة السياسية الأمريكية، ومنذ عقدين أو يزيد، وليس من اليوم أو الأمس القريب. لعب دورًا فى إبرام هدنة يناير قبل مراسم الانتقال فى البيت الأبيض، وتشارك مع المبعوث ستيف ويتكوف إعداد ورقته المقترحة لصفقة غزّة، ثم تداخل فى خطة ترامب من المسوّدة الأولى إلى نسختها النهائية.
صهيونى ذو نكهة أمريكية، وربما لا يختلف المعنى بالتبديل. وبقدر حرصه على مصالح الحُكم فى تل أبيب؛ كان حريصًا على ألا يتصادم مع واشنطن، أو يبدو شريكا فى محاولات التلاعب بها والالتفاف على قراراتها. ولعلّه وُضِع أخيرًا بين شِقَّى رحَى: رؤية الرئيس الجمهورى لإنهاء الحرب، وتطلّعات الحاكم الصهيونى لإبقائها مُعلّقة أو قابلة للتجدُّد. ما يعنى أن معنى الراحة المقصود فى رسالته؛ إنما ينصرف إلى رغبته فى الابتعاد عن الاستقطاب، وهو إن كان لا يُشير إلى انحياز للأول، فإنه لا يتضمن معنى الاقتناع بأهداف الثانى.
مهما كانت إخفاقات نتنياهو وتحدياته؛ فلا يُمكن النظر إليه كما كان يُنظَر لكل أسلافه. آباء مؤسسون، وجنرالات خاضوا حروب الإنشاء والتوسُّع، وذوات على تضخمها لم ترَ نفسها أكبر من الفكرة والحُلم.
وهو على العكس: لا فضل له فى البناء، ولا أثر تحت ظل السلاح، ويعتبر أنه محور الدولة وأعلى من بقية مكوّناتها؛ لكنه يحوز مشروعية ثمانية عشر عامًا فى السلطة، وفخر الانقلاب على رابين وأوسلو، وأنه لم يمنح الفلسطينيين شيئًا، وسلبهم أشياء عِدّة طوال حُكمه، وفى آخر سنتين على الأخص، وصولاً إلى اللعب فى توازنات المنطقة كلها وأبعادها الجيوسياسية، وهزيمة محور المُمانعة بعدما كان صداعًا ميؤوسا من علاجه.
ابن جيل الصابرا؛ أولئك المولودين فى أرض فلسطين التاريخية، والذين لم يجدوا ما يُنافسون به المهاجرين المتفوقين عليهم معرفة وثقافة؛ إلا أن يُقشّروا ثمار التين الشوكىّ بأياديهم العارية، بحسب الحكاية المُفسّرة للتسمية. غير أنه حَبَا مُبكّرًا نحو الحلم الأمريكى، وقضى هناك فترة من مراهقته، ثم عاد إليها دارسًا وعاملاً، وتسرّب فى أوردتها من قناتى البيزنس والدبلوماسية. وُلِد فى القدس؛ لكن قلبه تعلّق بفلادلفيا وماساتشوستس ومنهما إلى بقية أرجاء البلد الذى بحجم قارة كاملة.
وديرمر على مقلوب تلك الصورة؛ إذ وُلِد ونشأ فى فلوريدا، ولم يُهاجر إلى إسرائيل إلا فى السادسة والعشرين من عُمره. حاز جنسيتها فى العام التالى، وتنازل عن الجنسية الأمريكية فى 2005 عندما اختير مبعوثا اقتصاديا لتل أبيب فى واشنطن. لكنه لم يخدم فى جيش الاحتلال، على عكس نتنياهو، كما أن للأخير شقيقًا كان ضابطًا، وقضى فى عملية تحرير الرهائن بمطار عنتيبى الأوغندى. سياسى ينتمى لعائلة يهودية محافظة، وناشط اختار هواه الدينى والسياسى على كِبَر، وكان ابنًا لعُمدة ديمقراطى، وربيبًا لمُشرّعين ورجال أعمال جمهوريين.
فارق العُمر بينهما اثنتان وعشرين سنة، وما من سياق يُبرّر الصداقة الوطيدة. عاد نتنياهو من واشنطن فى 1988، بعد ست سنوات قضاها نائبا للبعثة الدبلوماسية ثم سفيرا بالأمم المتحدة، وكان ديرمر فى ختامها مراهقا لم يتجاوز السابعة عشرة. تعرّف عليه وصار مستشارا له بدءا من العام 2000، ثم معاونا من بعيد إبّان شغله مناصب وزارية، وكبير مستشارين فى حكومته الثانية من 2009، لحين تعيينه سفيرًا لدى الولايات المتحدة بين 2013 و2021.
كتب له كثيرًا من الخطابات، وأفاض عليه من معرفته العميقة بالغابة الأمريكية؛ وربما أنقذه من مزالق كبرى معها، وكان صاحب الفضل فى رسم صورته الحالية لدى طبقتها السياسية. وليس أدلّ على ذلك من أنه كان المنسِّق لإطلالته على الكونجرس فى 2015، على غير هوى من إدارة أوباما، وفيها وصف الاتفاق النووى مع إيران بأنه «ردىء للغاية».
وإذا كان السفير الذى صار وزيرًا بعد سنوات، قد غلّب هواه الجمهورى على حسابات العلاقة مع الديمقراطيين وقتها؛ فإنه ينوء اليوم على ما يبدو بأثقال التبعية المُرهقة لعجوز الليكود، وقد صار مستقبله خلفه وتوشك تجربته على الانتهاء. والقفز من سفينته ربما يعود لطموحات خاصة لا يُريد ديرمر التضحية بها؛ أو لأولوية ترامب لديه على نتنياهو.
الاستقالة ضربة قاسية فى معناها وتوقيتها؛ ذلك أنها تُصرّح بحقيقة أن أقرب دوائر رئيس الحكومة لم تعُد على وفاقٍ معه، أو نفدت طاقتها وصارت عاجزة عن احتمال نزواته. بينما يعيش أشدّ فتراته ضعفًا وهشاشة، ويُحاصره المدّ من كل جهة، وهو بين مُناطحة الحليف الأكبر فينكسر، أو مُجاراته فيُعتَصَر؛ والخصوم على أهبّة الاستعداد لوراثته وتشييع سيرته لمثواها الأخير.
يجلس العجوز المُجرّب على أرجوحة هائجة، وحساباته فى المكان والزمان صاخبة لاهثة، تُقاس بالشبر والساعة، لا بالمتر أو اليوم. وعلى التقويم المُحايد؛ فإن السنتين اللتين أشار إليهما ديرمر انقضتا أواخر العام الماضى. وكان بإمكان الصابر سنة بعد موعده المُقرَّر، أن يُرجئ استقالته شهورا أو أسابيع، أقلّه لحين الانتهاء من المرحلة الأولى فى خطة ترامب، والانتقال منها لِمَا بعدها. والعجلة إنما تُشير إلى انعدام الهامش، وضرورة الاختيار دون إبطاء، وطبيعة العقبات القائمة والمُتوقَّعة فى مُقبل الأيام.
صحيح أنه أشاد بالحكومة فى رحيله؛ لكنها المُجاملة التى تلى الصفعة على الوجه مباشرة، لا معنى لها فى ميزان الأفعال المثمرة، ولا تغفر القسوة وعمديّة الإهانة والتعرية. قد ينظر المصفوع للأمر باعتباره خيانة من أوثق الحلفاء؛ ولو أسرَّها فى نفسه، وقد يُفسّرها الآخرون بمعانٍ شتّى؛ لكن دلالتها من جهة صاحبها أنه لا شىء لديه ليقدمه، ولا أمل فى الدولاب الذى عمل من داخله أن يُدفّع الأوضاع قُدمًا، أو يُغادر ضيقه الراهن إلى سِعَة فى الرؤية ووفرة فى الخيارات.
وإذ تتزامن مع وقائع مُتجدّدة على الأرض، وانتقادات من داخل البيت قبل الجيران والأغراب؛ فكأنها يتحلّل من حمولةٍ مُرهقة يُسدّد فيها الأثمان عن الطرفين: أمام الأمريكيين يبدو ظلّاً باهتًا لحكومة يتسلّط عليها شخص بهواه، وفى مواجهة الإسرائيليين يُلام على الوصاية المُتضخمة يوما بعد آخر، بدءًا من إملاء الصفقة بحذافيرها، ثم الإشراف الأمنى والسياسى عليها، وإلى حدّ الحديث عن تدشين قاعدة عسكرية بأكثر من 10 آلاف جندى على حدود غزّة.
الانتقادات أعلى من أية مرحلة سابقة، وأشدّ الناس محبّة لواشنطن يتحدثون علنا عن تحكّمها فى مجريات تل أبيب؛ حتى أن الدولة العبرية صارت محميّة أمريكية فعلاً، وليس على سبيل الرمز والبلاغة كما كان يُقال فى السابق، غير أن الائتلاف مُجبَر على الرضوخ مهما امتعض، ولا خيار لديه ولو على سبيل التجربة والاختبار؛ فترامب مزاجى لا تُؤمَن ردّات فعله، وإسرائيل منبوذة، ولا تملك رفاهية التضحية بفضائها الوحيد حاليا.
ما تزال العلاقة وثيقة للغاية، ولا شكّ فى ولاء ترامب للمصالح الصهيونية ككل أسلافه؛ لكنه لم يعُد يراها من منظور سُلطة تفتقد للإجماع الداخلى، وعند أقل منسوب ممكن من التقبُّل الخارجى، وصارت عبئا على نفسها وداعميها. وإذ تتصادم خياراتها مع أولوياته، وتُعرّض أهدافه فى المنطقة للخطر؛ فلا مناص من الإمساك بزمام الأمور، والتوفيق بين الرؤيتين بلُغة المتبوع لا التابع.
يُحتَمل أن ديرمر أُقِيل ولم يَستَقِل؛ والسؤال المُفجع هنا سيكون عن صاحب القرار. بيد أن رئيسه المُباشر ليس فى وارد التفريط فى ورقته المهمة، ولا التصويب على ساقه بيده؛ سيّما وأنه لن يستطيع توفير بديل سريع على ذات الدرجة من الكفاءة والفاعليّة. والتأويل ربما ينصرف إلى إيعاز من المكتب البيضوىّ؛ أى أن مظروف الاستقالة بعِلم الوصول من واشنطن إلى تل أبيب، ومعناه العميق أنها غير راضية عن طبيعة الاتصال بينهما فى الفترة الراهنة، وأن ما كان قائمًا انتفت صلاحيته، وربما تتحوّل الصيغة المُحدّثة من الحوار إلى الإملاء.
وحتى لو لم يكن الأمريكيون وراء القرار؛ فكان بإمكانهم أن يُرجئوه أو يُصادروا عليه. إذ لو استشعروا أهمية وجود ديرمر فى الصورة إلى جوار نتنياهو؛ لأجبروه على البقاء، أو أجبروا رئيس الحكومة على إبقائه ولو كان زاهدًا فيه. باختصار؛ الطبل فى واشنطن، والضوضاء فى تل أبيب.
وهكذا؛ فالمعنى أحد ثلاثة لا غير: يقفز الوزير قبل الاصطدام بجبل الجليد، أو يخلى المجال لمُقاربة جديدة بشأن العلاقة واللغة المُشتركة، والأخير أنه يُنفّذ ما أُملِى عليه من طرف ثالث، ليس السيد بيبى غالبًا.
نتنياهو ماهر فى بناء التحالفات، وليست أول مرة يقع التغيير على حكوماته. الأخيرة اجتذبت جانتس وآيزنكوت من المعارضة إلى كابينت الحرب، ولفظت الليكودى الشرس يوآف جالانت.
كما أعادت ترويض جدعون ساعر بعد المنافسة الداخلية والانشقاق عن الحزب، لتُفسَح له حقيبة الخارجية بانتقال سلفه يسرائيل كاتس للدفاع.
أربع حركات فى سنة وعِدّة أشهر، فضلا على الإزاحات المتوالية فى مستويات أدنى سياسيا وعسكريا؛ لكن خضّة ديرمر ما تزال مُختلفة عن الآخرين!
بُنِيَت فلسفة المرحلة التالية للطوفان على القوّة وحدها. تبدّلت العقيدة من الجدار الحديدى و»المعركة بين الحروب»، إلى الضربات الاستباقية والجبهات المفتوحة طوال الوقت. صفقة غزّة وضعت حجرًا ضخمًا على طريق القوات؛ فما عاد لدى صانع القرار إلا المُداولة السياسية مع الوصىّ الأمريكى؛ ومُفتاحها الذهبى انتُزِع الآن من قِفلِه المُشفّر بتعقيدٍ والمُغلَق بإحكام.
وزير الشؤون الاستراتيجية لم يكن مُجرّد وجه فى صورة جماعية يتصدّرها نتنياهو؛ بل عقله ولسانه أيضًا. وخواء مقعده؛ سيتركه عُرضة للتقلّبات غير المُتوقّعة، مُستندا إلى أمثال بن جفير وسموتريتش، ومُفتقدًا لظهيرٍ له قلب صهيونى ودماغ أمريكى، وعاطفة ليكودية بنيامينية، مع وصلة عصبية جمهورية تربط الثلاثة معًا.
رصيد إيجابى مع ترامب من ولايته الأولى؛ لا طعن فيه مثلما كان من «بيبى» الذى بادر بتهنئة بايدن ولم ينحَز لسردية تزوير الانتخابات. وشراكة عميقة مع الصهر جاريد كوشنر، أثمرت الاتفاقات الإبراهيمية قبل خمس سنوات، وهندست المقاربة الأمريكية اليوم من «ريفييرا غزّة» إلى مجلس السلام، وفتحت الباب لتقسيم القطاع بالتساوى؛ إن لم تستجب حماس لبقية الشروط المنصوص عليها فى الخطة.
وما بعد ديرمر لن يكون فى الغالب كما قبله، الاستقالة عنوان مرحلة جديدة، تتغيّر فيها العناوين والصياغات. يرحل العقلاء ويبقى التوراتيون، ومهما أُديرت مراسم الرحيل بنعومةٍ؛ فإنها تدلُّ على ما يعرفه الجميع ولا يُصرّحون به. نتنياهو لا يفتقد القدرة على الدفاع عن نفسه إزاء اتهامات الفساد والإخفاق فحسب؛ بل يعجز عن الدفاع عن نقاط قوّته الباقية، ويتداعى بنيانه أمام عينيه، وأخلص رجاله يتبرّؤون منه بعدما آلت أموره إلى خيارات كلها سيئة، وأحلى ما فيها مُرّ.
إمّا تتوقّف الحرب دون انتصار حاسم، أو يتجمّد الميدان بلا مخارج آمنة. الصراع مُعلّق بإرادة أمريكية، وفى طريقه إلى التدويل بموجب قرار أُمَمىٍّ لن يخرج غالبًا بصورته المُقترحة من واشنطن. الانسحاب من غزّة يُنهى أطماعه فيها، ويُبشّر بمسارٍ سياسى سينتهى حتمًا إلى عُهدة السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، والبقاء فيها يُحمّله أعباء الإبادة والتجويع دون قدرة على رد التهمة، أو فرصة لترميم الصورة.
يبدو أن ديرمر وصل إلى حائط مسدود؛ فاختار أن ينقُبه بما يتّسع لعبوره وحده، وترك نتنياهو على وقفته الاضطرارية، يُكابر فى الرجوع ويعجز عن التقدّم. ومَدّ الخط على استقامته، قد لا تكون تداعياته جيدة على القطاع وساكنيه، وربما تتصلّب حماس فتُؤخِّر مسار التعافى والإعمار؛ إنما فى كل الأحوال لن يجد زعيم الليكود ما يُعوّم به مشروعه لدى الشارع العِبرىّ، وسيجد نفسه فى مواجهة حادّة مع بيئته، وبلا أية أجوبة مُقنعة عمّا فات؛ فيما لا تتوقّف التساؤلات عن التوالُد والتراكم طبقات فوق بعضها.
فُرصته الوحيدة فى افتعال حرب ثانية مع الحزب فى لبنان، أو إغراء الولايات المتحدة بزيارة إيران مُجدّدًا. وما لم ينجح فى إحداهما؛ فإنه لن يُغامر بالذهاب إلى الانتخابات المبكّرة التى لوّح بها رجاله مؤخّرًا، ولن يكون آمنًا فى موعد الاستحقاق الطبيعى بعد سنة من الآن.
أثر الاستقالة داخليًّا لا يقل عنه فى الخارج. ضاق الشارع بأحزاب المستوطنين وممارساتهم، ويُخطره ديرمر من طرف خفىّ بأن الضيق داخل الائتلاف على آخره، ولا يستقيم ظهر نتنياهو إلا برخاوة المُعارضة لا أكثر. وإن كان أقرب رجاله قد فقدوا إيمانه به أو رغبتهم فى الرهان عليه؛ فلم يعد لديه ما يغرى الناخبين بالمراهنة؛ ولو لم يبرز بديله المؤهّل بعد.
والتشظّى على كل حال لن يكون فى صالحه؛ إذ لن يجد حليفًا من الوسط أو بقيّة تيّارات اليمين. حتى مع توجيه ترامب لمنافسه يائير لابيد بالعمل معه. عندما تُفصح الصناديق عن مكنونها؛ لن يأسف الرئيس الأمريكى عليه، وغاية ما سيفعله أنه سيُودّعه بلسان يتعثّر فى عاطفته، وأسارير تنفرج عن ابتسامة صفراء.
أطلق ديرمر رصاصته ومضى، وليس شرطًا أن تقتله فورًا؛ لكنها ستترك له جرحًا قد لا يبرأ منه فى مُهلته الباقية. الحالم بأن يكون ملكًا يهوديا، وأن يبنى أسطورة لها قداسة الهيكل المزعوم، أتته الضربة الأقسى من مأمنه؛ وها هو البناء الشائخ يتهدّم من تلقاء نفسه، حجرًا حجرًا، وفشلا فى إثر فشل.