أحمد إبراهيم الشريف

فرح بيت جدي

السبت، 01 نوفمبر 2025 11:09 ص


عندما أخبرت زوجتى أننى سأتأخر اليوم فى العمل ولا أعرف متى أعود للبيت بسبب افتتاح المتحف الكبير، قالت لي: "طبعًا فرح بيت جدك"، فأمَّنت على كلامها، إنه بالفعل "فرح بيت جدي".

يحب المصريون الفرح، هكذا خلقهم الله، فهم يتعاملون مع الأشياء بقلوبهم، لذا راحوا يعلنون أفراحهم بافتتاح المتحف المصرى الكبير بترندات الزى الفرعوني، وبمتابعة المقاطع والفيديوهات على مواقع الأخبار والتواصل الاجتماعي.

يعرف المصريون أن الفكرة ليست مجرد مبنى جديد أو قاعات عريضة، ولا حتى رؤية آثار تُعرض لأول مرة، إنما هى نهضة حضارية تقول للعالم: مصر لا تحفظ الماضى فى صناديق زجاجية، بل تجعله مادة للمعرفة والخيال والهوية.

إن أهمية المتحف لا حصر لها، لكن اسمحوا لنا أن نتحدث عن هذه الأهمية ثقافيًا، إنه يرد الفنون إلى أصلها، فالقطع المعروضة ليست تمائم ذهبية تُعلق على الذاكرة، بل نصوص مرئية تقرأ التاريخ كحكاية بشر صنعوا أدواتهم، ونظموا حياتهم، وتركوا وراءهم نظامًا فى الفن واللغة والعمل، حين يرى الطفل قناعًا أو تمثالًا أو بردية يتعلم أن الجمال ليس صدفة، وأن الصنعة تحتاج وقتًا وطريقة وضميرًا، بذلك يصبح المتحف فصلًا دراسيًا مفتوحًا، منه يبدأ الدرس فى المدرسة وينتهى حوارًا فى البيت وبين الأصدقاء.

وعلى مستوى الهوية، يقدم المتحف نموذجًا لما نسميه "البيت العام" مكان يجتمع فيه المختلفون حول معنى مشترك، ليس هوية صاخبة تنغلق على نفسها، بل هوية مطمئنة ترحب بالآخر وهى تعرف من أين جاءت وإلى ماذا تشير، كما أن ترتيب القطع، الإضاءة، الشرح الدقيق، مسارات الزيارة، كل ذلك ليس تفاصيل تقنية فحسب، بل أخلاق عامة تقول إن ما نملكه ثمين لأنه يخص البشر جميعًا، وإن واجبنا أن نعرضه بعناية ونقرأه بمسؤولية، بهذا المعنى يصبح المتحف عقدًا اجتماعيًا يعلّمنا كيف نتعامل مع تراثنا.

المتحف كذلك منصة لإحياء اللغة الثقافية المصرية: أسماء الأماكن، أعمال الحِرَف، طقوس الحياة اليومية على ضفاف النيل. حين تُعرض هذه العناصر فى سياق علمى وإنساني، يستعيد المصرى علاقته الطبيعية بوطنه، فلا يراه لوحة على الحائط فقط، بل خبرة قابلة للتكرار، يزور اليوم قاعة، ويعود غدًا إلى كتاب، ثم يذهب بعد غدٍ إلى مسرح أو فيلم، هكذا تتشابك الفنون، وتتأسس عادات جديدة للوقت الحر، ويصبح "الخروج إلى المتحف" جزءًا من نمط حياة لا من برنامج سياحى عابر.

ولأن الهوية فعل يومي، فإن المتحف يذكرنا بضرورة الإتقان، أن نضع الشيء فى مكانه، وأن نكتب جملة واضحة، وأن نُضيء الفكرة بما يليق بها، وهذه الدروس الصغيرة، حين تتراكم، تغير صورة المجتمع عن نفسه: من ناس يحتفون بالماضى من بعيد، إلى مجتمع يحول المعرفة إلى ممارسة، والتراث إلى مستقبل.

لذلك أقول إن "فرح بيت جدي" ليس مجازًا عاطفيًا، إنه وصف دقيق لبيت مصرى واسع يفتح بابًا جديدًا يضيف إلى الذاكرة غرفةً مضيئة، وجدارًا نعلق عليه معنى، وطاولة نجلس حولها لنتحدث ونتأكد أننا أبناء حضارة قديمة تجيد أن تبدأ من جديد.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب