مها عبد القادر

نصر أكتوبر.. قراءة فكرية في معاني الصمود والعبور الوطني

الإثنين، 06 أكتوبر 2025 05:35 ص


يعد نصر أكتوبر المجيد عام 1973 لحظةً فارقة في الوعي الجمعي المصري والعربي، بوصفه معركة وجود واستعادة للكرامة الوطنية، وجسرًا عبرت به الأمة من الهزيمة إلى الوعي، ومن الانكسار إلى استعادة الذات الحضارية، ولقد شكل هذا النصر نموذجًا فريدًا في تاريخ الشعوب التي تصنع مستقبلها بإرادتها الحرة، إذ تجلت فيه وحدة المصريين جيشًا وشعبًا، قيادة وإرادة، علمًا وإيمانًا، ومن خلاله أعاد المصريون صياغة علاقتهم بذواتهم وبوطنهم وبموقعهم في العالم، فكان النصر مشروعًا وطنيًا شاملاً تجاوز حدود الحرب إلى فضاءات البناء والنهضة.


ولقد جاء نصر أكتوبر تتويجًا لمسار طويل من الألم والاختبار التاريخي، فهزيمة يونيو 1967 كانت صدمةً عسكرية، وجرحًا في عمق الوعي القومي المصري والعربي، غير أن هذا الجرح تحول بمرور الزمن إلى طاقة مقاومة وانبثاق وعي جديد، حيث أدركت الدولة المصرية حينها أن معركة الكرامة تخاض بالعتاد والعدة وتبدأ من استعادة الإنسان المصري لثقته بنفسه وإيمانه بوطنه، حيث مثل النصر حصيلة لعملية شاملة من إعادة البناء النفسي، والعسكري، والسياسي، والاجتماعي، فالمجتمع المصري انطلق نحو التجديد الذاتي، عبر إصلاح مؤسساته العسكرية، وتطوير منظومات التعليم والإنتاج، وتعزيز روح التضحية والانتماء، وهكذا أصبحت الحرب فعل وعي بقدر ما كانت فعل سلاح، إذ جسدت مقولة أن العقل الذي يخطط للسلام هو ذاته الذي يصنع النصر.


ويعد من أهم الدروس التي رسخها نصر أكتوبر المجيد أن قوة الجيش المصري تنبع من تسليحه وخبراته الميدانية، وجذوره الشعبية وانتمائه الوطني الأصيل، فهو مرآة صادقة للمجتمع المصري في أصالته، وتجسيد لوجدانه الجمعي في لحظات المصير، وانعكاسًا لوجدانه الجمعي، وتعبيرًا عن روح الأمة في لحظات الشدة والاختبار، حيث اتحد الجيش والشعب في نسيج واحد، لأن الجميع أدركوا أن المعركة معركة وجود، وكرامة، وهوية، وطنية.
وتجلت هذه الوحدة في صور خالدة ومواقف متعددة تجسد التلاحم الوطني في أبهى صوره، فقد شارك المواطنون من مختلف فئاتهم الاجتماعية والمهنية في دعم الجبهة بكل ما يملكون، فالفلاح المصري قدم من قوته لدعم الجبهة فكانت الأرض تزرع للنصر كما تروى بالعرق والإيمان، والعامل في المصانع الوطنية ضاعف إنتاجه وأوقفوا إجازاتهم تطوعًا من أجل النصر لتتحول المصانع إلى قلاع إنتاج للمجهود الحربي.


والمرأة المصرية لم تكن بعيدة عن الميدان فحملت عبء الصبر والعطاء في غياب الزوج والابن ونسجت بيديها الأعلام، ومرضت الجرحى وكتبت بدموعها قصص الصبر والعزيمة، والشباب والطلبة شاركوا بدمائهم وجهودهم في حملات الدعم والإسناد إيمانًا بأنهم شركاء في صناعة النصر، وفي الميدان الثقافي والإعلامي تحولت الكلمة إلى سلاح، والأغنية إلى راية تعبئة ووعي، والفن إلى مرآةٍ لروح الأمة لقد كان الإعلام صوتًا للوطن، والفن ضميرًا للمعركة، والوعي الشعبي درعًا منيعًا أمام الحرب النفسية التي أرادت النيل من ثقة المصريين بأنفسهم.


ولقد ذابت الفوارق الاجتماعية والمهنية في ذروة معركة أكتوبر، فتوحد المصريون جميعًا خلف جيشهم في ملحمة وطنية فريدة، أدركوا فيها أن الوطن يحمى بالوحدة، وأن جيشًا من الشعب ولأجل الشعب هو سر النصر والصمود الدائم، وكانت تلك الوحدة الجامعة السلاح الحقيقي الذي حسم المعركة، حيث تحول كل بيت إلى خندق، وكل يد إلى سلاح، وكل دعاء إلى طاقة تدفع نحو النصر، وهكذا أثبتت تجربة أكتوبر أن الشعب المصري حين يتوحد حول هدف وطني سام يصبح جيشًا بأكمله، وأن الجيش حين يستمد روحه من الشعب يتحول إلى قوة لا تقهر، ولقد تجسدت في تلك اللحظة المعادلة التاريخية الخالدة جيش من الشعب ولأجل الشعب، وهي المعادلة التي شكلت الأساس المتين للنصر العظيم، وما زالت حتى اليوم تمثل سر صمود الدولة المصرية أمام التحديات، ورمزًا خالدًا لوحدة المصير بين الجيش والشعب.


وقد نجحت القيادة المصرية في إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، عبر خطاب واقعي واعٍ، يوازن بين الحلم والقدرة، وبين الطموح والإمكان، فكان القرار بالعبور قرارًا سياديًا بامتياز، اتخذته مصر بعد إعداد شامل وحساب دقيق لموازين القوى، وإيمان راسخ بأن النصر يأتي مع الإصرار والإدارة والعزيمة والتصميم، ولقد تجلت عبقرية القيادة المصرية وفي إدراك أن الحرب وسيلة لاستعادة السلام العادل فالنصر العسكري مدخلًا لسلام يقوم على التكافؤ والاحترام المتبادل، وهكذا أظهرت القيادة المصرية رؤية استراتيجية متقدمة، جمعت بين البعد العسكري والسياسي والدبلوماسي، وأعادت لمصر مكانتها كقوة عاقلة فاعلة في النظام الإقليمي والعالمي، وسيظل النموذج القيادي المصري القائم على الوعي والسيادة والواقعية، مصدر إلهام للأجيال التالية، مؤكدًا أن الأمم تبنى بالرؤية والإرادة والمؤسسية والانتماء.


ويتجاوز نصر أكتوبر المجيد الحدود السياسة والعسكرية ليشمل مجال القيم والتربية الوطنية، مقدمًا نموذجًا خالدًا لما يمكن أن تصنعه القيم حين تتحول من مبادئ نظرية إلى ممارسات واقعية، حيث ترجمت قيم الصدق والانضباط والإخلاص والشجاعة والولاء، في ممارسات وسلوك الأفراد والمؤسسات خلال سنوات الإعداد للحرب وخوضها، فكانت هذه القيم هي الوقود الروحي الذي غذى الإرادة المصرية، وحول المعاناة إلى عزيمة وطاقة بناء ، ولقد تعلم المصريون من تجربة أكتوبر أن حب الوطن التزام عملي ومسؤولية أخلاقية تترجم في الفعل والعطاء، وأن النصر الحقيقي يبدأ من داخل الإنسان نفسه، حين يتحرر من الهزيمة النفسية ويستعيد ثقته بذاته وبقدرة وطنه على تجاوز المستحيل.


وتتجلى روح أكتوبر في مشاريع البناء والتنمية التي تقودها الدولة المصرية، حيث يتوحد الجهد الوطني بين مؤسسات الدولة والمجتمع في معركة جديدة، معركة التنمية والوعي والاستقلال الاقتصادي، فالعبور أصبح عبور من التحدي إلى الإنجاز؛ عبورًا نحو مستقبل ترسخ فيه مصر مكانتها كدولة قوية عصرية تحفظ سيادتها وتصون كرامة أبنائها، وفي ظل ذلك تؤكد التحديات الراهنة الاقتصادية منها والفكرية والأمنية الحاجة المستمرة إلى استحضار نموذج أكتوبر في العمل الجماعي، والانضباط المؤسسي، والإيمان الراسخ بالقدرة الوطنية على تحقيق المستحيل، فذاكرة أكتوبر طاقة وعي متجددة تلهم الأجيال وتؤكد أن الشعوب التي امتلكت إرادة النصر قادرة على أن تصنع النهضة.


ونؤكد علي المقولة الخالدة إن الشعوب التي تعرف تاريخها، وتصون ذاكرة نصرها، هي القادرة على أن تصنع مستقبلها بثقة واقتدار، فالتاريخ نبض أمة يسري في عروقها، يوقظ وعيها ويشحذ إرادتها ويبقي جذوة الانتماء متقدة في وجدانها، فحين يتصل الحاضر بجذور المجد، يثمر الغد عزة ورفعة وكرامة وتظل الأوطان التي تحفظ تاريخها قادرةً على صون مستقبلها، حفظ الله مصرنا الغالية، أرض البطولات ومهد الحضارات، ومهوى الأفئدة التي تهفو إلى العزة والكرامة وجعل رايتها خفاقةً بالنصر والسلام، ما دامت شمس الحياة تشرق من ضفاف النيل، فهنيئًا لمصر المجد والعزة، وطنًا نهتف باسمه القلوب، وتنبض بحبه الأرواح، فتبقى مصر درة التاريخ، وسيدة المجد، وموئل الكرامة الأبدية.

أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب