على امتداد التاريخ لم تكن الحدود بين الدول مجرد خطوط على الخرائط بل كانت شرايين حياة ومناطق تماسّ بين الشعوب وأحيانا بؤرا للتوتر والاشتباك. وفي شرق إفريقيا حيث يلتقي نهر النيل بالسياسة والمصالح والموارد تزداد أهمية تلك الحدود ليس فقط من منظور السيادة ولكن من منظور البقاء ذاته. وهنا يتجدد السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تتحول الاحتكاكات الحدودية بين السودان وإثيوبيا إلى أزمة أوسع تتداخل فيها المياه بالسياسة وتتحول فيها الجغرافيا إلى ساحة صراع؟
اليوم يواجه السودان جريمة مائية مكتملة الأركان: إغراق قرى تدمير محاصيل وتهديد مباشر لأمنه القومي نتيجة الإجراءات الأحادية التي اتخذتها إثيوبيا في تشغيل سد النهضة. هذا الفعل لم يكن مجرد خطأ تقني أو سوء إدارة بل هو انعكاس مباشر لفلسفة السيطرة والهيمنة على مجرى النهر دون اعتبار لتداعيات إنسانية أو بيئية أو سياسية. هنا تتضح ملامح معادلة جديدة: حدود جغرافية ملتهبة، وحدود مائية أكثر خطورة.
إن التداخل بين ملف الحدود وملف المياه يكشف حجم المأزق الذي يعيشه السودان اليوم. ففي منطقة الفشقة على سبيل المثال شهدت الأعوام الماضية مناوشات عسكرية وزراعية متكررة دفعت آلاف المزارعين السودانيين إلى فقدان أراضيهم أو التخلي عنها تحت ضغط القوة الإثيوبية. ومع تمدد أزمة سد النهضة وتداعياتها باتت قضية الحدود أكثر حساسية وكأنها مرآة تعكس الصراع الأكبر حول مياه النيل.
في السياسة لا يمكن قراءة الاحتكاكات الحدودية بمعزل عن شبكة المصالح الإقليمية والدولية. إثيوبيا تراهن على سد النهضة باعتباره مشروع القرن الذي يمنحها ورقة ضغط كبرى ليس فقط على السودان ومصر وإنما على شركائها في الخارج أيضا. والسودان الذي يعيش منذ سنوات حربا داخلية ونزاعات متشعبة يجد نفسه مضطرا إلى مواجهة معقدة: كيف يحمي حدوده ويصون حقه المائي ويوازن في الوقت نفسه بين انشغالات الداخل وضغوط الخارج؟
التاريخ القريب يوضح أن المياه كانت دائما أداة قوة في يد من يتحكم في منابعها. لكن خطورة الوضع الحالي تكمن في أن إثيوبيا لم تكتفِ بالتحكم بل استخدمت السد كسلاح غير معلن بين الإغراق المتعمد والمنع الكامل. وهو ما يفتح الباب أمام أزمة إنسانية في السودان تمس حياة الملايين من المزارعين والقرى الممتدة على ضفاف النيل الأزرق. وهنا يصبح الصراع على المياه ليس احتمالا مستقبليا بل واقعا معاشا يهدد الأمن الغذائي والاجتماعي لدولة بكاملها.
وسط هذه المعادلة تبدو القاهرة لاعبا محوريا لا يمكن إغفاله. فمصر باعتبارها الطرف الأكثر تأثرا على المدى البعيدو، تتابع عن كثب ما يجري على الحدود السودانية ـ الإثيوبية لأنها تدرك أن أي خلل في هذا التوازن سيصب في النهاية في مجرى النيل الذي يصل إليها. لذلك فإن الموقف المصري قائم على مبدأ أساسي: الدفاع عن حق الشعوب في الحياة ورفض أي محاولة لاحتكار مورد طبيعي مشترك مع الاستمرار في الدعوة إلى اتفاق قانوني ملزم يحفظ الحقوق ويجنب المنطقة منزلقات الصراع.
لكن هل تكفي الدبلوماسية وحدها؟
الواقع يقول إن المعركة ليست قانونية فقط وليست عسكرية بالضرورة بل هي معركة وعي واستراتيجية بعيدة المدى. فالسودان بحاجة إلى أن يُفعّل أدواته الإقليمية والدولية من خلال التوجه نحو مجلس الأمن والمحاكم الدولية والمطالبة بتعويضات للمتضررين وفرض رقابة دولية على تشغيل السد. كما أن الاتحاد الإفريقي الذي طالما تبنى شعار "الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية"، عليه أن يثبت جديته في هذا الملف وألا يكتفي بدور الوسيط الصامت.
إن خطورة الوضع تكمن في أنه يتجاوز مسألة الموارد ليصل إلى مصير الشعوب. فإذا كانت الحروب على الحدود تنتهي غالبا بتسويات أو إعادة ترسيم فإن الحروب على المياه قد لا تعرف نهاية لأنها تمس الحق في البقاء. ومن هنا فإن أزمة السودان مع إثيوبيا ليست أزمة ثنائية بل أزمة إقليمية تمس مصر وكافة دول حوض النيل.
الواقع الجديد يفرض معادلة مختلفة: الأمن المائي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي وأي عبث في منابع النيل أو حدوده يعني فتح باب فوضى إقليمية يصعب إغلاقه. لذلك فإن صوت العقل يقتضي أن تدرك إثيوبيا أن بناء المستقبل لا يمكن أن يكون على أنقاض الآخرين وأن التنمية الحقيقية لا تأتي عبر سياسات الإغراق والمنع بل عبر شراكات عادلة ومتوازنة تحافظ على حق الجميع في الحياة.
إن السودان اليوم يقف على مفترق طرق: إما أن يتعامل مع الأزمة كجرس إنذار يدفعه إلى إعادة ترتيب أولوياته وبناء تحالفاته على أساس المصلحة الوطنية أو أن يستسلم لتداعياتها فيجد نفسه محاصرا بالمياه من جهة وبالحدود المشتعلة من جهة أخرى. وبين هذين الخيارين، تبقى الحقيقة الأهم: أن نهر النيل ليس ملكا لدولة بل شريان حياة لشعوب وأي اعتداء عليه هو اعتداء على الإنسانية ذاتها.
اليوم والعالم يتابع تطورات الشرق الأوسط وإفريقيا بعين القلق تظل قضية المياه والحدود بين السودان وإثيوبيا اختبارا حقيقيًا لمدى قدرة المنطقة على تجنب الانزلاق نحو صراعات مفتوحة. فالبديل الوحيد عن التعاون هو الصراع والبديل الوحيد عن الاتفاق هو الفوضى. ومن هنا فإن المستقبل يكتبه اليوم عقلاء السياسة لا صقورها وحكماء الشعوب لا مغامروها.