فى قلب كل حجر حكاية، وعلى جدران المقابر والمعابد والقصور والمساجد نقش المصريون فى جميع الحقب الزمنية فصولًا من تاريخ لا يمحى، فما بين المعابد الشاهقة فى الجنوب، والقصور الخديوية فى القاهرة، والمتاحف التى تحتضن كنوز الأزمان، تتجلى ملامح هوية متجذرة في الأرض والوجدان، وعبر سلسلة اعرف تراثك نطوف بين أروقة التاريخ المصري، نعيد اكتشاف المواقع الأثرية والمعمارية التي شكلت وجدان الوطن، ونستعرض قصصًا خفية وأسرارًا خلف جدران الصمت، ومن بينها مسجد أحمد بن طولون.
أحمد بن طولون
أسس هذا الجامع القائد أحمد بن طولون، والي مصر ومؤسس الدولة الطولونية، والذي حكم في الفترة من 254هــ إلى 270هـ "868م – 884م"، وقد أنشأ جامعه الكبير عام 265هـ "879م"، ليكون جزءًا من مدينة القطائع التي بناها لتكون عاصمة دولته الوليدة، فبقي المسجد شامخًا بينما اندثرت المدينة من حوله، ليغدو الأثر الوحيد الباقي منها.
تصميم فريد بطابع عباسي
يُعد جامع أحمد بن طولون ثاني أقدم مسجد باقٍ في مصر، ومن أوسع المساجد مساحةً، إذ تبلغ مساحته الكلية -بما في ذلك الزيادات- نحو 26.318 مترًا مربعًا، ويتميز المسجد بتخطيطه المتعامد، وهو تخطيط تقليدي للمساجد الجامعة الكبرى في العصر العباسي.
يتكون المسجد من صحن مربع مكشوف تتوسطه ميضأة أنشئت في العصر المملوكي، يحيط به أربعة أروقة، أكبرها رواق القبلة في الجهة الشرقية ويضم خمسة صفوف من الأعمدة، بينما تتألف الجهات الثلاث الأخرى من رواقين فقط لكل منها، ويحيط بالمسجد سور خارجي من ثلاث جهات (الشمال والجنوب والغرب) يفصل بينه وبين البناء مساحة مكشوفة تُعرف بالزيادة، وهي سمة معمارية نجد مثيلًا لها في مساجد سامراء وسوسة.
روعة التفاصيل والزخارف
شُيّد الجامع بالكامل من الطوب الأحمر، ويعلو واجهاته الخارجية شرفات زخرفية تُعرف بـ"العرائس" أشكال مفرغة تُشبه الهيئات الآدمية المجردة، وهو طراز فريد لا يتكرر كثيرًا، كما يضم الجامع 19 بابًا خشبيًّا بسيط التصميم، وصفًّا من الشبابيك المعقودة ذات العقود المدببة، وأعمدة مندمجة عند الأركان تحاكي عناصر معمارية ظهرت سابقًا في مقياس النيل.
المسطح الشرقي -رواق القبلة- هو الأكثر غنى بالزخارف، ويضم محاريب من عصور متعددة: طولونية، فاطمية، ومملوكية، وتُعد الزخارف الجصية من أبرز كنوز الجامع، فهي من أقدم وأثمن الزخارف في مصر، وتتشابه في طرازها مع زخارف مدينة سامراء العراقية، عاصمة العباسيين آنذاك.
كما يحيط بجدران المسجد من الأعلى 128 شباكًا جصيًّا مفرغًا تتنوع زخارفه بين النباتية والهندسية، ولكل شباك طابعه الخاص، أربعة منها فقط تعود لعصر ابن طولون، بينما أُضيف الباقي في العصور الفاطمية والمملوكية.
مئذنة الملوية.. أيقونة نادرة
تُجسد مئذنة الجامع تأثير العمارة العراقية في تصميمها، إذ يلتف السلم حول بدن المئذنة من الخارج، على غرار "الملوية" الشهيرة في سامراء، وهي أول مئذنة بهذا الشكل في مصر، ما يمنح الجامع خصوصية معمارية فريدة.