هيثم الحاج على

النحيف المخيف الجمسى.. آخر وزراء الحربية المصريين

الجمعة، 24 أكتوبر 2025 01:54 م


كان الحدث مهما جدا في إحدى أمسيات شهر أكتوبر من عام 1999 حين قرر قصر الثقافة بشبين الكوم الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر عن طريق استضافة أحد أهم أبطالها، وهو الأقرب لهذه المدينة فهو ابن قرية البتانون التي تبعد عن شبين الكوم بأقل من خمسة كيلو مترات، ووقتها حين حضرت هذا اللقاء اكتشفت أن الرجل لم يكن مجرد عقلية عسكرية ممتازة بل كان صاحب رؤية عميقة، يهتم بالتفاصيل ويؤمن بأن كل شيء يمكن تحقيقه بالعلم والمثابرة والإرادة الواضحة والصراحة مع النفس، كانت تلك هي رؤيته التي ميزته والتي جعلته أحد الأركان المهمة لبناء وتطوير القدرة العسكرية المصرية بعد هزيمة يونيو.

ولد الجمسي في التاسع من سبتمبر من عام 1921 بمحافظة المنوفية، في أسرة كبيرة العدد فكان الوحيد من بين أخوته الذي حصل على تعليم نظامي، فنال شهادة البكالوريا من مدرسة المساعي المشكورة بشبين الكوم في سن سبعة عشر عاما، ثم التحق بالكلية الحربية عام 1937، وتخرج عام 1939، ليبدأ حياته العسكرية ضابطا في سلاح الفرسان، ويتدرج في المناصب ليصبح أحد القادة العسكريين المعدودين الذين شاركوا في حروب مصر الحديثة بدءا من حرب فلسطين عام 1948 مرورا بالعدوان الثلاثي 1956 وحرب اليمن 1962، ثم حرب الاستنزاف وأخيرا حرب أكتوبر 1973، هذا التراكم من الخبرات الميدانية والأكاديمية جعله يمتلك رؤية استراتيجية عميقة، تم صقلها بالعلوم الحديثة حيث شارك في عدة بعثات علمية إلى الاتحاد السوفيتي وأمريكا، وأسهم في التعليم في مدرسة المخابرات.

بدأ هذا المشوار من الخبرات منذ تعيينه ضابطا في الصحراء الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية التي اعتبر نفسه مراقبا فيها واكتسب من هذه المراقبة خبراته الحقيقية الأولى التي سجل كثيرا منها في كشكول الحرب الذي احتفظ به وكان نواة لمذكراته فيما بعد، وهي العادة التي لم يتخل عنها في كل الكروب التي خاضها والتي أسهمت في دقة تقديراته وصحتها في حرب أكتوبر.

فقد كانت قمّة إنجازاته ودوره التاريخي مرتبطة بحرب أكتوبر، حيث شغل منصب رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، وفي هذا الموقع الحساس، كان الجمسي هو العقل المُخطط لعملية "بدر"، التي أصبحت لاحقا خطة العبور وتحطيم خط بارليف، وقد أدار التجهيز والتخطيط الاستراتيجي بكفاءة فائقة، معتمدا على السرية والدقة، وهو ما أسهم بشكل مباشر في تحقيق عنصر المفاجأة الاستراتيجية.

لعل الإنجاز الأبرز الذي يُحسب له بشكل خاص هو "كشف الجمسي"، فقبل ساعات قليلة من بدء الهجوم في السادس من أكتوبر، قدم الجمسي تقديره الاستراتيجي الذي أكد فيه أن العدو لا يتوقع هجوما في هذا التوقيت، مما منح القيادة السياسية والعسكرية الثقة الكاملة في المضي قدما بالخطة، مع الوثوق بمعلوماته التي قدمها عن اتجاه الشمس وسرعة تيار مياه قناة السويس وغيرها من معلومات أسهمت في تحديد ساعة العبور وبدء الهجوم.

وفي أثناء الحرب، اضطلع الجمسي بمسئولية إدارة العمليات العسكرية مباشرة من غرفة العمليات الرئيسية، وتولى لاحقا منصب رئيس الأركان، وبعد نهاية المعارك، برز دوره السياسي والدبلوماسي بصفته ممثل مصر الأول في المفاوضات العسكرية لفك الاشتباك، فقد كان هو من وقع اتفاقية الفصل الأول للقوات عند "الكيلو 101"، مما جعله رجل المرحلة العسكرية والسياسية على حد سواء.

بعد الحرب، تم تعيينه وزيرا للحربية، ثم نائبا لرئيس الوزراء، ثم مستشارا عسكريا للرئيس السادات، ليُصبح المشير محمد عبد الغني الجمسي أحد القادة القلائل الذين جمعوا بين التخطيط الاستراتيجي العسكري رفيع المستوى وبين خوض غمار التفاوض السياسي المباشر، وليكون آخر القواد الذين حملوا لقب وزير حربية مصر قبل أن يتغير المسمى إلى وزير الدفاع.

توفي المشير الجمسي في عام 2003، لكن تاريخه يمثل نموذجا للقائد العسكري الذي يجمع بين العلم والتجربة الميدانية، مما جعل أثره على العدو واضحا حين أطلقت عليه جولدا مائير لقب الجنرال النحيف المخيف.

إن معرفة سيرته ليست مجرد استذكار لـ"رجل أكتوبر"، بل هي ترسيخ لأهمية التخطيط المحكم، والقيادة الرصينة، والقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة تحت أصعب الظروف، إنه درس اجتماع الإرادة مع الرؤية والعلم وصولا إلى نجاح ربما عده البعض مستحيلا.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب