ماذا لو لم يُوقِد السنوار فتيل الطوفان؟ غالب الظنّ أن نتنياهو لم يكُن ليبقى على مقعده طيلة الفترة الماضية.
وحتى لو استدرك القائد الحماسى المغوار على خطيّته، هو أو غيره، وقرّر بعد الهُدنة الأولى فى نوفمبر قبل الماضى، أن يُطلق الرهائن دفعة واحدة، ويُعيد الولاية على غزّة للسلطة الوطنية ومُنظّمة التحرير، مشمولةً بإعلانٍ عن إلقاء السلاح وتفكيك هياكل الحركة العسكرية. ربما لم يكن الاحتلال ليتوقف؛ لكن لائحة الضحايا والخسائر لم تكُن لتستطيل إلى ما هى عليه اليوم!
أُهدِى سفّاح تل أبيب ذريعته الكُبرى بـ"الطوفان"، ومضى من وقتها تحت ظلِّ الذرائع؛ وما يمنعه اليوم من تجديد الحرب بعد استخلاص أسره؛ ولو بإملاء أمريكى، كان سيمنعه من الاحتيال لو استُوفِى الشرط نفسه مُسبقًا.
مُشكلة الحرب الأخيرة أنها محصورة فى المُفاضلة بين السيئ والأسوأ. لحظة نشوة واحدة فى صباح السابع من أكتوبر؛ ثم انقضى كل شىء بعدها، وصُودِرَت خرائط الميدان من صاحب القرار، وارتدّت المُبادأة عليه جحيمًا وانتكاسات مُتوالية، فيما تكفّل هو بحَصر نفسه فى زاوية ضيّقة بالإنكار والاستكبار والتعالى على المُراجعة والتقويم؛ لأنه يُغلّب الحركى على الوطنى، ويضع الأيديولوجيا واعتبارات المحاور والأحلاف فوق فلسطين وقضيتها وتعقيداتها الوجودية، والأبدية غالبًا.
وعلى المُغرمين بالشعارات الكُبرى، وبتديين الصراع أو إكسابه غلافًا قوميًّا لا يخلو من النزعة الامبراطورية العتيقة، الانصراف إلى مُدارسة ماضينا البعيد، واستذكار أن روائح المجد التى يحكّون أنوفهم لاستعادتها، بُنِيَت على الغلبة ورُسِمَت حدودها بحدِّ السيف، من الأناضول وبلاد فارس إلى أعماق آسيا الوسطى، ومن الشام والعراق إلى أطراف الجزيرة العربية، وحتى أفريقيا وما وراءها فى جنوب إسبانيا، أو الجنة الأندلسية التى يبكيها البكّاؤون إلى اليوم.
إنه قانون العالم الذى لم يخلع بدائيّته الأُولى، ولم يتحرّر من أَسْرها بعد.
إمّا أن تكون قويًّا فتفرض إرادتك على الغير، أو ذكيًّا فتنجو من مكائده. أما الضعف والغباء فيجب ألا يجتمعا معًا؛ وإن حدث فلا يلومَنّ أحد إلا نفسه!
والمنطقة ما تزال نائمة على حرير الماضى، وما أوقظتها الأشواك التى تتقلّب عليها عقودًا بعد سقوط العثمانية المريضة، ومثلها قبلها. ولأنها لم تُنجز الانتقال المطلوب على مستوى الوعى؛ فما تزال مشدودة بين قطبين مُتنافرين: غنائية تتوهّم البطولات وتكتفى بالأوهام عن تحقيقها، وعقلانية تُطعَن من داخلها؛ فلا يلتقيها العدو إلا نازفة تلفظ أنفاسها، أو مُعتلّة تجهل عِلّاتها ولا تجِدُّ فى التداوى وطلب الشفاء. وبينهما الولادة المُتعسّرة لفكرة الدولة الوطنية، فى مجال تتسلّط عليه ثقافة الميليشيا وميراث الإمارات/ الدويلات المُتناحرة.
ومأساة غزّة ليست بعيدة من التأصيل التاريخى والسياسى للمحنة العمومية؛ ذلك أن فلسطين قُطِعت من الشام الذى كان يتفسّخ وينقسم على نفسه، وما يزال وارثوها مُغرمون بتجزئة المُجزّأ ماديا ومعنويًّا؛ أكان بانفكاك الكُلّ الوطنى إلى جماعات وتيّارات مُتناحرة، أو خروج الواحدة من عباءة الأُخرى كحال الجهاد مع حماس، وصولاً إلى الشكل الصارخ فى الانقلاب وعزل القطاع عن الضفة الغربية.
خسائر الغزّيين من فِعل الأعداء والأشقاء، أمّا مكاسبهم فحصّلوها بدمائهم. أُجبِروا على الاثنتين، وفى كلتيهما إدانة للمُحتلّ والمُختلّ على السواء. ما يسلب الغُزاة أى هامش لادعاء النصر والافتخار به، ويَحُول بين المُقامرين وشهوة التربّح من الفاجعة، أو نسبة ما كان من يقظة الضمير وغضبة الغاضبين فى عواصم الدنيا لأنفسهم.
ذلك أن الأغلبية هناك لا يختلفون فى رفض حماس كما يرفضون نتنياهو، والاعترافات بالدولة الفلسطينية أتت مُتضمّنة إعفاءها من عبء الحركة، فضلا على أن التداعى لإصلاح الأعطاب وإعمار الخراب صار مشروطًا بتغيير المُعادلة التى فرضها اليمين المُتطرّف من الناحيتين على الجغرافيا والديموغرافيا، من بعد أوسلو وإلى اليوم.
خسر الضدّان؛ وليست كل الخسائر سواء طبعا. وربح المنكوبون ربحًا بطعم الهزيمة، وعليهم أن يُنفقوا أعمارًا وطاقات لا حصر لها؛ لمُجرّد العودة إلى ما كانوا عليه قبل استخفاف المُستخفين، واستسهالهم القفز بهم فى النار. وأخطر ما يتعرّض له الفلسطينيون الآن؛ أن يُخطئوا فى قراءة الإشارات ومضامينها، أو يُفوّتوا الوصفة المثالية للتعاطى معها والانتفاع بها إلى أقصى مدى متاح. وآخر ما يحتاج فضاء النكبة الجديدة إليه؛ أن ينزلق إلى الاختلاف والجدل السخيف فى مسألة النصر.
لا يُمكن توصيف حال حماس بالانتصار؛ إلا لو كانت تعتبر نفسها ميليشيا من دون ظهير، ولا تعنيها فلسطين بمحمولها الوطنى المُغيَّب، وحامليها من بشرٍ وحجر. والصهاينة لم يُهزَموا؛ إلا لأن الحروب لا تُحسَم فى ساحاتها فقط، وأهم من القدرة عليها أن تعرف كيف تُنهيها، والميقات المُناسب للانسحاب منها أو الانتقال بها إلى السياسة.
وعليه؛ فالاحتلال مُتقدِّم والمقاومة مُتراجعة؛ لكن المدنيين العُزّل وحدهم صامدون، وبصمودهم يخسر الأول، وبإعادة تطبيع حياتهم تتعرّى الثانية.
ما من شَكٍّ فى انحياز خطّة ترامب. لقد تدخلت الولايات المتحدة لإنقاذ إسرائيل؛ لا من خطرٍ حالٍّ يحيق بها، أو من العجز عن معركةٍ تفوّقت فيها منذ الرصاصة الافتتاحية، ولكن من نفسها أوّلا وأخيرًا. تُرِكَ نتنياهو يُفكّر ويُقرّر ويقود بمفرده، وعندما استشعرت واشنطن أنه صار عبئًا عليها وعلى تل أبيب، مدّت يدها لتُمسِك بالمِقوَد وتُحدد المسارات.
قبل سنة واحدة وقف زعيم الليكود خطيبًا فى الكونجرس الأمريكى، وحظى بالتصفيق وقوفًا من أغلبية الأعضاء لنحو 80 مرّة أو يزيد. لكن السردية المُغَذّاة بالدم البرىء تفوقت على الدعايات وماكينة العلاقات العامة وغَسل السمعة؛ حتى اضطرّ سيد البيت الأبيض مؤخرا للقول إن الدولة العبرية تخسر معنويًّا، وتتراجع فى الرمزية والمكانة، وأنه ما رأى المُشرّعين فى الكابيتول على خلاف معها وعليها كحالهم الآن.
قضت المصالح بأن تضع واشنطن نقطة فى آخر السطر، مصلحتها المباشرة أوّلاً؛ ثم مصلحة الحليفة التى ساقها ائتلاف اليمين المُتطرّف إلى هاويةٍ لم تعرفها سابقًا.
ليست أوّل مرّة تُمارس فيها الإبادة؛ لكنها الأولى التى تُتَّهَم بها صراحةً، ويتجنّد ضدها طيف عريض من الأصدقاء قبل الأعداء.
عزّز الطوفان سلبية الصورة الحماسية فى الخارج؛ لكن غريم الحركة استنزف رصيده سريعًا، فانتقل العالم من رمادية "حق الدفاع عن النفس"، إلى سوداوية الإدانة والرفض الكاملين.
فُرِضَت الرؤية الأمريكية غصبًا على نتنياهو؛ لكنّ قطاعًا عريضًا من الإسرائليين كانوا مُتّفقين أيضًا فى التشخيص والعلاج. ومأزق حماس أنها لا تعترف، ولا تُتيح هامشًا لأن يُرشدها الآخرون بما يغيب عنها. ربما لهذا استُعين بأنقرة لتكون وسيطًا فى الفاصل الأخير؛ لأنها آخر رُعاتها الثِقَال؛ بعدما تهشّم محور المُمانَعة وانزوت طهران فى رُكن مُظلم تلعق جراحها، وتُفتّش عن مَخرجٍ من أزماتها الخاصة.
ويتبقى أن تُقرّ الحركة بحقيقة أنها فى حاجة ماسّة للإنقاذ من نفسها.. أمّا إن تغلّبت عليها شهوة الانتحار ومُقايضة الخاص بالعام؛ فليكُن إنقاذ القضية من تخيُّلاتها المشحونة أيديولوجيًّا، والطائرة فى فراغٍ هيولى مُضلِّلٍ، ولا يُلامس حقائق الأرض.
لقد تبدّى مُبكّرًا أن الاحتلال يخوض المواجهة بمنطق غير ما تعتمده الفصائل. أقامت فى الماضى، أو الحاضر على أحسن الافتراضات؛ فيما كان يتطلّع إلى المُستقبل وينسج معالمه وفق خطة واضحة على كل الجبهات.
لا عودة إلى الردع بصيغته القديمة، ولا مجال لمُساكنة محور المُمانَعة وطوق ميليشياته الخانق. الجدار الحديدى يتقاعد من مهمّة الدفاع؛ ليُفسح الطريق للضربات الاستباقية الكاسحة، بديلاً عن "جزّ العُشب" على فترات مُتقطعة، ولن تكون "عقيدة الضاحية" التى طُبِّقَت فى حرب العام 2006 مع الحزب تعقيبًا على بادئةٍ يُقرّرها الآخرون؛ لكنها ستصير عنوانًا عريضًا ودائمًا لكل المراحل المُقبلة، حسابًا على النوايا لا الأفعال، دون انتظار الفعل أصلا، ودون الحاجة إلى ذرائع أو مُبرِّرات.
كان التوازن بين الطرفين مُختلًّا من الأساس، وزاد اختلالاً بإرادة حماس التى لم تُشرك فيها أحدا على الإطلاق؛ لا من بقية المكونات السياسية، أو الشارع المَعنىِّ بالمواجهة مع الاحتلال وتكاليفها، ولا من القوى الإقليمية التى تعرف حدود الصراع وتكتوى بناره، وبإمكانها أن تلعب أدوارًا حيوية وأكثر إفادة؛ لو وُضِعَت فى الأجواء ودقائق المشهد الفصائلى، وجرى التنسيق معها قبل القرار أو بعده.
والحال؛ أن الواقع انعكاسٌ لميزان القوى الحالى، بانكساره العظيم ومَيله الحاد إلى جانبٍ على حساب الآخر، وذلك فى السياسة والحرب معًا، أى فى التفاوض وبنود خطة ترامب، مثلما فى الاتفاق والانتهاكات والشروط النهائية المُرشَّحة للإنفاذ.
وحماس معدومة الخيارات تقريبًا؛ لأنها دخلت إلى الطوفان من دون أجندة سياسية، وعندما فُرِضَ عليها الخروج منه اكتشفت أنَّ المعادلة محصورةٌ تقريبا فى شِقِّها العسكرى. إذ تفتقد لشرعية تمثيل القضية، تأسيسًا على الانقسام الذى سارت فيه اختياريًّا، ولأنها مرفوضة من الخارج وموصومة لدى أغلب قُواه بالإرهاب.
أى أنها تحمّلت أعباء الميدان كاملة، بجانب ما حمّلته لبيئتها بالطبع، ولا مكان لها على طاولة التسوية، فيما تُصرُّ على أن تُناكف السلطةَ الوطنية، وترفض أن تكون بديلاً عنها فى لَملَمة الفوضى؛ ما يُعرّى القطاع عمليًّا من مقاومته الخشنة، ولا يُلبسه رداء الدبلوماسية التى باتت خياره الوحيد للنجاة، ثمّ الاستدراك المُثمر والفعّال على المغامرين وفداحة ما أنزلوه بالمشروع التحرُّرى.
وليس من قَبيل الإقامة فى الماضى، أن يُسأَل الحماسيِّون عن الشرارة التى أشعلوها فى بيئةٍ مُعبَّأة بالبارود والزيت، أو لماذا تركوا قيادَهم لدى يحيى السنوار؛ ليُفجّر فيهم لغما لا معنى من ورائه سوى اليأس وانعدام الرؤية، وربما الرغبة الشخصية فى الثأر لنفسه عن سنوات القمع والتغييب وراء أسوار المُعتقلات. ومسائل الأوطان يجب ألا تكون عُرضة لهوى الأفراد، ولا أن تُؤخَذ بالظنّ والتخمين.
ومعلومٌ أن السلاح ليس غاية فى ذاته؛ بقدر ما هو وسيلة لحراسة الحياة أو إغنائها. وكما يقول أهل الاستراتيجية فالحرب صورة أخرى للسياسة، ولا يُعرَفُ حقيقةً ما دار فى ذهن الرجل من أهداف عندما أطلق عناصره قفزًا على أسوار الغلاف، وهل كان يسعى إلى التحرير الكامل فعلاً كما قيل باكرًا، أو تبييض السجون مع التدنِّى فى المطالب، وأخيرا الانحطاط فى الآمال لمُجرّد وَقف النار، وارتضاء أوضاع أسوأ بما لا يُقاس بأى وجه على ما قبل السابع من أكتوبر.
فكأنَّ الواقعة كلَّها كانت نِزالاً فى قفص مُغلَق، بدعوةٍ تطوّعية من مُسنٍّ خائر القُوى ومكشوف الظهر، لوحشٍ كاسر، عَفىٍّ ومدعوم ومُسلَّح حتى الأسنان.
وغاية التمهيد الطويل السابق، والوصول به إلى تلك النقطة؛ أنَّ الحركة عجزت تمامًا عن قراءة المُقدِّمات واستشراف النتائج، وفى براحٍ مُطلَق تملّكت مفاتيحَه كاملة، وكان لها زمام المبادرة فيه.
وبمَد الخطوط على استقامتها؛ فمن غير المنطقى أو المُتوَقَّع أن تُحسِنَ الرؤية تحت سحابة الغبار، أو تُفكِّر بأريحية وتجرُّدٍ وعقل بارد، بعد كلِّ ما طالها من بطشٍ وما حصّلته من خسارات، ناهيك عن أن تُجيد اللعب تحت الضغط، أو تُصيب فى اتخاذ القرار الذى أخطأته فى ظروف أفضل كثيرًا.
والاحتمال الذى يعفى الحركة من الاتهام بالغباء والضلالات؛ أنها تقصّدت ما وقع بالفعل طيلة السنتين الماضيتين.
بمعنى أنها ربما تطلَّعت لإرباك المنطقة وإدخالها فى مُواجهةٍ مُوسَّعة، أو إعادة الكَرّة وتكرار تجربة المُقايضة بألفٍ على واحد، كما فى صفقة شاليط التى حرّرت السنوار نفسه، وخليفته المُحتمل توفيق أبو نعيم؛ ولكن كان معلوما لديها من البداية أنَّ الأمور قد تسير على وتيرة مُغايرة؛ فيُستَنفَر الاحتلالُ من أثر الصفعة القاسية، ويعيث فى القطاع وأهله هدمًا وتقتيلا، لتجد فرصتها للاستثمار فى الدم وتوظيفه دعائيًّا؛ بما يُعزِّز مركزها المعنوىَّ بالعاطفة لدى المُؤيِّدين، ويخصم من هالة إسرائيل أمام العالم.
حدث الثانى وغاب الأوّل؛ لأن رصيدها تآكل داخل القطاع وخارجه. وبقدر ما يَشى هذا التصوّر بوَعى مُخَطِّطى الطوفان وقَصديّة أفعالهم؛ فإنه قد يعفيهم من شُبهة العشوائية والمُقامرة فعلاً؛ لكنه يُطوّقهم باتهامات الابتذال والترخُّص، وبعَدَم الأمانة إزاء قواعدهم والقطاع وعموم فلسطين.
كان نتنياهو يُكبّل الحركة بالحرب؛ لكن ترامب قرّر أن يُكبّلها بالسلام. أُعِدّت خطّته لتأخذ منها كل شىء تقريبًا، وتضعها فى مواجهة بيئتها وداعميها ومُحيطها المباشر قبل الآخرين جميعًا.
افتكاك الأسرى يسلب الاحتلال ذريعته، ويُعزّز رؤية واشنطن الساعية لوقف الحرب. بعدها سيكون على الحماسيّين مواصلة بقيّة المراحل إذعانًا، أو الوقوع بين احتمالات أسوأ من بعضها: التلويح بالقتال مُجدّدًا، أو الاصطدام مع الوسطاء والضامنين بعد تدويل النزاع، وأخيرًا الظهور بمظهر المُعطّل للتعافى وإعادة الإعمار، مع ما يستجلبه عليها ذلك من نقمة الغزّيين.
تقول الخطّة صراحة فى بندها السابع عشر؛ إنها ستتحرك بغض النظر عن موقف الطرف الآخر. ونصًّا: "إذا أخرت حماس أو رفضت الاقتراح؛ فسيستمر الاتفاق والمساعدات فى المناطق الخالية التى تنتقل من السيطرة الإسرائيلية إلى القوة الدولية". وهو ما أعاد صهر الرئيس وكبير مستشاريه، جاريد كوشنر، تأكيده فى مؤتمر من داخل مركز التنسيق الأمريكى لمُراقبة الاتفاق، بالتشديد على أنه "لن تُخَصّص أى أموال لإعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة حماس... والمناقشات جارية بشأن إعمار مناطق سيطرة الجيش الإسرائيلى فى القطاع".
والإفادة؛ أن على الفصائل أن تلتزم ببقية البنود على صعوبتها، كى يتيسّر الانتقال بين المراحل وصولاً إلى الانسحاب الكامل، مع إحلال بديل فلسطينى مؤقت لحين تأهيل السلطة الوطنية وعودتها للقطاع الذى طردتها حماس منه. ما يغنى عن العودة للحرب؛ بل وعن الصدام مع الحركة بشأن السلاح؛ اكتفاءً بتركها مُتسيّدة على أكوام الردم؛ بما لا يُجمّد فرص الحلحلة ومُغادرة الانسداد فحسب؛ بل يُؤبِّد مفاعيل الطوفان لتكون نكبة دائمة ومنصّة لإزاحة الديموغرافيا التى عجزت عنها إسرائيل بقصفها المساحىّ العميم.
إنقاذ حماس من نفسها يتطلّب رَدّها عن الانزلاق فى الخيارات المُغرية، وتجريعها كأس التعقُّل والموضوعية بالإقناع أو سواه. إذ البديل أن تتحوّل عبئًا بأكبر مِمّا هى عليه، وإن لم تصطدم بالقوّة الدولية؛ فالأخطر أن يقع الصدام مع شعبها، ويتطوّر الانقسام إلى انفصام كامل، ووصفة رديئة للحرب الأهلية.
ومن سؤال المُقدّمة؛ فإن ما كان عُرضة للخلاف قبل سنتين لم يعُد كذلك. الافتتان بالذات ضخّم الطوفان فى عيون داعميه، وأعماهم عن استشراف تداعياته، وشغّب على العُقلاء الذين انتقدوا وحذّروا واقترحوا سُبل الفكاك من الفخ. ولا مجال اليوم للجدل فيما صار مُوقّعًا على الأرض هَدمًا وأشلاء ومخاطر داهمة.
عرّضت حماس نفسها لامتحان يفوق طاقتها، وقدّمت الغزيين قربانا لنزواتها، وأجبرتهم على ما يضرّهم ولا ينفع قضيتهم. وواجبها أن تعفى فلسطين من كُلفة السباحة فى بِركة الدم أو الزحف بين أكوام الردم إلى المجهول، وأن تجتهد مع المُخلصين لضمان عبورها ذاك المحكّ بأقل قدر من الجراح، وأكبر فرصة للتداوى واستئناف نضالها بوصفة أنضج. بعض الخدوش البسيطة قد تنتهى إلى قُرَح عضال، ولا يكون لها علاج سوى البَتر؛ قبل أن يستفحل الداء، أو تنتقل عدواه إلى سائر الأعضاء.
الحال ليست ورديّة على الإطلاق، وما خاب فى الماضى ولوّث الحاضر؛ لا يصح الإصرار عليه فى المستقبل، ولا مُكافأة العدوّ بمنحه ما يُحبّ ويرضى. انزعاجه لا يُكافئ موت الأبرياء ودمار بيوتهم، واتّفاق خطّة العلاج مع بعض مطالبه؛ لا يُبرّر التهرُّب منها وإنكار فائدتها. المهم أن تعيش فلسطين؛ لا أن تذوب فى بعض أطيافها. الإنقاذ فاتحته كبح القاتل؛ لكن أهم عناصر استدامته ألا يظل المُغامر على غيّه، ولا أن تُترَك ثغرة يُنفَذ منها لإعادة إنتاج القديم، أو لتقويض البنيان الجديد لاحقًا.