يعيش المتحف المصري الكبير حالة من الحراك الدؤوب استعدادًا لافتتاحه التاريخي في 1 نوفمبر 2025، في احتفال عالمي سيشهده قادة ورؤساء من مختلف دول العالم، إنه الحدث الذى سيضع مصر فى صدارة الخريطة الثقافية العالمية، ليس فقط بحكم عظمة ما يحتويه من أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، بل لأنه أول متحف فى التاريخ يجمع مجموعة الملك الذهبي توت عنخ آمون كاملة لأول مرة منذ اكتشاف مقبرته.
وخلال جولة خاصة لـ "اليوم السابع" داخل مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير، كان المشهد أقرب إلى ورشة زمنية تعيد للحياة ما خبأه التاريخ لآلاف السنين، حيث يعمل نحو 150 مرممًا فى صمت وخبرة على صيانة وترميم كنوز الحضارة المصرية القديمة، مستعينين بأحدث التقنيات العالمية، في مركز يعد اليوم الأكبر والأكثر تطورًا من نوعه في الشرق الأوسط، بل نواة لمؤسسة إقليمية علمية تعنى بحماية التراث الإنساني.
في هذا الحوار، يكشف الدكتور حسين كمال، مدير عام مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير، عن أسرار هذا الصرح العلمي الفريد، ومراحل العمل الدقيقة التي سبقت عرض القطع الأثرية للعالم، وكيف تحول المركز إلى مدرسة عالمية في علوم الترميم والصيانة الوقائية.. إلى نص الحوار..

أحمد منصور والدكتور حسين كمال
بداية.. ما المخطط الذى انطلق منه إنشاء مركز الترميم داخل المتحف المصرى الكبير؟
منذ البداية، كان الهدف من إنشاء المركز أن يكون مركزًا إقليميًا في منطقة الشرق الأوسط، ليس مجرد مركز أو قسم لترميم الآثار المختارة للمتحف المصرى الكبير، ولهذا كان فى بداية تأسيس المركز تقسيمه لعدة معامل متخصصة لترميم كل أنواع صيانة الآثار، والصيانة كلمة عامة تتضمن ترميم الآثار داخل معامل الترميم الدقيق، وهى عملية صيانة علاجية بمعنى حال وجود أو ظهور مظاهر تلف على قطعة أثرية بالفعل وهنا يتم التدخل لعلاج تلك المظاهر، مثل الشروخ أو انفصال فى الطبقات وغيرها، وهذا يحدث مع التقادم الزمنى.
وهناك معامل أخرى لصيانة الوقائية وهنا نتعامل مع عوامل التلف في الأثر قبل أن تتحول لمظاهر تلف، ونستطيع أن نسيطر على عوامل التلف التي تؤدى لمظاهر أثرية، وهو ما يترتب عليه عدم حدوث مظاهر التلف في المستقبل، وهو الاتجاه العالمى، ولهذا يوجد لدينا 5 معامل للصيانة الوقائية، إلى جانب النوع الثالث من الصيانة وهى استخدام الفحوص والتحاليل والدراسات في الكشف عن مظاهر التلف التي لم تظهر بالعين المجردة، وفى الوقت نفسه للعمل على كشف تقنية الصناعة أو ما وراء الأثر، والتي من خلالها تسطيع توفير معلومات عن القطع الأثرية محل الفحص، وتلك المعلومات مهمة في معرفة تاريخ وسر تلك القطع، ولهذا تم تأسيس مركز الترميم للحفاظ التراث الثقافي المصري ويكون مركز إقليمي في منطقة الشرق الوسط ويغطى كافة أنواع الصيانة للأثر في مكان واحد، وهو أحد نقاط التميز لمركز ترميم الآثار بالمتحف المصرى الكبير.
كم عدد المعامل التى يضمها المركز؟
يتكون مركز الترميم من 19 معملا، 6 معامل للصيانة العلاجية، و5 للصيانة الوقائية، و8 معامل للفحص والتحليل، كل معمل منها يتعامل مع نوع محدد من المواد الأثرية مثل الخشب، المعادن، النسيج، أو البردي، بما يضمن معالجة دقيقة تحترم خصوصية كل قطعة.
ما مدى اهتمامكم بتوثيق عمليات الترميم التى تجرى على القطع الأثرية؟
توثيق التدخلات بشكل عام جزء هام جدا في عملية الصيانة، فنحن عانينا كثيرًا في فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات لعدم وجود كتالوج للتدخلات أو التعامل مع القطع الأثرية، فكان دائما التوثيق عقب الاكتشاف فقط، ثم بعد ذلك تنقل إلى معامل أو متاحف، ولا يوجد دليل واحد على أى تدخل حدث وقت الاكتشاف أو بعد أعمال استخراج القطع، وهو ما جعل أمامنا تحديا كبيرا، فنحن داخل المدرسة التي تم تأسيسها عبر مركز الترميم بالمتحف الكبير، نقوم بعمل توثيق دقيق للتدخلات، فمن وقت دخول القطع الأثرية للمعمل يتم عمل توثيق دقيق بالتصوير الفوتوغرافي والفيديو بحيث يكون لدينا نموذج كامل لكيفية التعامل مع القطع الأثرية، ومن الممكن أن يتم استخدام المادة التى وفرناها في التدريب أيضًا للأجيال المقبلة، حيث إن دورنا في المستقبل هو نشر المعلومات، التي تم اكتسابها من آلاف القطع الأثرية داخل مركز الترميم، وهذا جزء يستخدم كما ذكرنا في التدريب إلى جانب وجود وثيقة مع القطع الأثرية تحدد مدى التدخلات التي تمت على القطع نفسها من وقت دخولها مركز الترميم.
ما أبرز القطع الأثرية التى واجهتم صعوبات في ترميمها؟
كل قطعة أثرية نعتبرها من وجهة نظر الترميم حالة خاصة وهناك حالات تحتاج إلى إجراءات بسيطة فى علاجها وصيانتها، وهناك حالات تحتاج إلى تفكير وتدخل بعد التفكير، فدائما هناك خطة عمل، فكل قطعة تدخل معامل من معامل الترميم الستة يقوم الأخصائى الذى يقوم بالعمل بإعداد خطة تمهيدًا لمناقشتها مع رئيس معمله ثم بعد ذلك يتم مناقشتها على شكل واسع حال أنها قطعة بها مشاكل كثيرة، ونبدأ في وضع خطوات للعلاج، ولكن في النهائية لا توجد مشكلة دون حل.
وهناك عدد كبير من القطع الأثرية التى أخذت تفكير ودراسة وفحص قبل التدخل للترميم فترة زمنية أكثر من فترة الترميم نفسها مثل بعض قطع النسيج التى كانت متفحمة والتى كانت من المفترض أن تعرض كما هى من وقت اكتشاف المقبرة، مثل قطع خاصة بالملك توت عنخ آمون التي تركت كما هي من وقت الاكتشاف، والتي وضع عليها المرمم المصاحب لهوارد كارتر مكتشف المقبرة طبعة من الشمع بحث يثبتها على حالتها كما وجدت.
هل كان يوجد على تلك القطع نقوش؟
بالطبع كان بعضها يحمل نقوشا وهى عبارة عن معلومات وهذه المعلومات مهمة وبالتالي هناك قرارات اتخذنها نحو بعض القطع عقب دراسة حالتها بأننا نقوم بفردها، وبالفعل وبعد دراسة طويلة استطعنا أن ننجح في ذلك، لأن الأساس في عرض مجموعة الملك الذهبى توت عنخ آمون أن يتم عرض كامل المجموعة في مكان واحد منذ الاكتشاف وكان لدينا الوقت والامكانيات لعمل ذلك، والخلاصة أن هناك عدد من القطع كانت صعبة وتحدينا الزمن، ولكن في النهاية مبادئ الترميم واحد في الفكر وراء عمليات الترميم تحترم المواثيق الدولية ونحافظ على الخصوصية للمدرسة المصرية جدا، أهمها أن أقل تدخل ممكن هو أفضل ترميم ممكن، لكي نحافظ على المادة الأثرية بأصالتها وننقلها للأجيال القادمة بحالة ثابته فمن الممكن أن يكون هناك تطور في المستقبل لمواد الترميم فالتدخلات الزائدة تمنع تدخل أي فرد في المستقبل بأى مواد أخرى، ولهذا نحاول تثبيت حالة القطع.
ماذا عن متابعة القطع الأثرية التى سيتم عرضها وأيضا ما يتم وضعها داخل المخازن؟
جميع القطع، سواء المعروضة أو الموجودة بالمخازن، تخضع لبرامج صيانة وقائية ودورية، فالقطع المعروضة في قاعة العرض والخزنة تخضع لبرامج صيانة وقائية وصيانة دورية، ومعظم القطع الأثرية المخزنة سيكون هناك قاعات عرض مؤقت من الممكن أن يتم عرض قطع من المخزن بشكل دوري بها، وبالتالي سيكون هناك صيانة وقائية دورية لكل القطع ليس المعروض فقط بل الموجود داخل مخازن المتحف الكبير.
كم يبلغ عدد المرممين العاملين داخل المركز؟
يعمل بالمركز 150 مرممًا مصريًا من مختلف التخصصات، تمكنوا من إنجاز أعمال الترميم لآلاف القطع الأثرية خلال السنوات الماضية، بينهم نخبة من الخبراء الذين تلقوا تدريبات داخل وخارج مصر، ما جعلهم نموذجًا مشرفًا فى مجال الترميم عالميًا.
هل يمتد دور المركز إلى التعاون مع مؤسسات أو متاحف خارج مصر؟
من البداية تم التخطيط لمركز الترميم على ألا يكون هدفه استقبال وترميم القطع الأثرية المختارة للعرض داخل المتحف المصري الكبير فقط، لأنه بالطبع أن البنية التحتية بمركز الترميم تم تأسيسها على أسس أن يكون مؤسسة علمية لها دور في منطقة الشرق الأوسط وفى العالم أجمع، فى مجال الحفاظ على التراث الثقافى، ولهذا وضعنا استراتيجية تم وضعها لمركز الترميم منذ سنوات طويلة، حتى يكون مركزا دوليا للتدريب وهو أحد أهداف المركز، بأننا نستطيع نقل الخبرات التي تم اكتسابها من السنوات الماضية من خلال التعامل الفعلي مع القطع الأثرية، من تدريب تم داخل وخارج مصر، ومن خلال التعامل مع معدات وتكنولوجيا حديثة داخل مركز الترميم، ليتم نقله للعاملين في مجال الترميم للآثار في مصر وخارج مصر، إضافة إلى ذلك نحن مؤسسة للبحث العلمي، فلقد نشرنا حوالى 160 بحثا علميا خلال الفترة الماضية، في مجلات دولية، إلى جانب مشاركة جميع الأخصائيين داخل المركز في مؤتمرات دولية خارج مصر، كما أننا مركز لتقديم دعم فنى لدول الشرق الأوسط في مجال ترميم الآثار أو الخدمات المتحفية، وكل ذلك وغيره بجانب العمل الأساسي الحفاظ على القطع الأثرية داخل المتحف المصري الكبير، فلدينا معامل مختصة في تعامل مع القطع الأثرية في المخازن وتطبيق الصيانة الوقائية للقطع المعروضة، بالإضافة أننا نستطيع أن نستقبل قطع أثرية من خارج مصر وارسال خبراء للتعامل مع أي آثار خارج مصر.
وفى النهاية حديثنا مع الدكتور حسين كمال، مدير عام مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير، نرى أن مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير يظل القلب النابض لهذا الصرح الحضاري الفريد من نوعه، حيث تصاغ هناك بلغة العلم والصبر والمهارة قصة جديدة من قصص المجد المصري، ليقف المتحف عند افتتاحه شاهدًا على عبقرية الماضي والحاضر معًا.