النار مطمورة تحت الرماد؛ لكنها على الأرجح لن تتأجج مجددا، أقله بالصورة التى كانت عليها طيلة الشهور الماضية. وليس الافتراض هنا عن نزعة حمائمية تُستشَف لا سمح الله من سلوك نتنياهو وحكومته، أو عن ثقة لا ظل لها من الواقع فى مقاربة حماس للحظة الراهنة؛ ولكن لأن القرار لم يعد فى عُهدة المتحاربين على خريطة قطاع غزة، وكلاهما مُسيّر اليوم فيما يخص العناوين العريضة، ولا خيرة له سوى فى الهوامش والتفاصيل التى قد تصلح لإرجاء السلام، لكنها لا تكفى لإعادة إحياء الحرب.
تُدفع التوازنات المُستجدة فى القطاع من خارجه. وفيما كانت مواقف الإقليم والعالم فى أغلبها منحازة ضد الإبادة منذ أمد بعيد؛ فالمتغير الأكبر يعود صراحة إلى رغبة البيت الأبيض فى عصره الجديد، وإعادة تكييف نظرته للجولة الحالية من الصراع، بما لا يضر بالاستراتيجيات الأمريكية القائمة إزاء المنطقة، ولا يُضيّع إرث ترامب الذى يسعى لوصل الحلقات بين ولايتيه الأولى والثانية؛ وتحديدا مسار الاتفاقات الإبراهيمية، وفكرة السلام الاقتصادى، وتخفيض رُتبة القضية من الوجود أو الحدود إلى المساكنة السائلة، انحيازا للثابتة الأصيلة لدى واشنطن عن إدارة الأزمة بدلا من حلها؛ إنما بما يتناسب مع المتغيرات الطارئة، وطموحات ترسيم الفضاء الجيوساسى بخطوط براجماتية ومصلحية، بعيدا من عبء الماضى الطويل، ومن سطوة الأيديولوجيا الملازمة للنكبة الفلسطينية منذ سطرها الافتتاحى.
لقد ذهب طرفا الحرب إلى التهدئة اضطرارا، وعن غير رغبة أو اقتناع بالشروط الموضوعة على الطاولة. فالاحتلال يفقد زخم الحشد والتعبئة الجماعية على هدف التغيير الشامل، وتضيع من يديه فرصة الاعتذار عن خطأ شارون فى «فك الارتباط»، أو حلم الإزاحة الديموغرافية للخلاص من عبء الغزيين أو تأطيره.
والحماسيون التصقت ظهورهم بالجدران المتهدمة، وما عادوا قادرين على مواصلة القتال أو الانسحاب من الموaاجهة، بينما تتداعى عليهم الخسائر المادية والمعنوية، وتتآكل حاضنتهم بما يتهدد مشروعهم فى أقل حظ ممكن له من البقاء. ومن سياق الانسداد سالف الذكر؛ أُجبر المتقدم ميدانيا على إيقاف محركاته، وأبدى المتراجع قبولا مبدئيا لتجرع كأس السم؛ على أن يبحث لاحقا عن المراوغة فيه أو التماس ترياقه الشافى.
تتقدم الآمال على الأحوال لدى الطرفين؛ لكنهما مُلزمان بالسير وفق الخطة الواردة من واشنطن، بعدما تُرِك لهما الأمر شهورا فما حسمه أحدهما ولا أقر له الآخر بالأفضلية والسبق.
وعليه؛ فإن المناوشات الواقعة على نقاط التماس، والتى كانت متوقعة أصلا؛ لن تغير شيئا فى معالم الطريق التى سيمضى بها الوسطاء والضامنون إلى آخرها، بالرغم من كل المنغصات وأكوام الحصى والغبار.
ذلك أنه ما من شىء يستدعى عودة الغزاة بالنار والبارود إلى بيئة أحرقوها تماما، ولا أفق للفصائل أن تُحوّط على سطوتها القديمة؛ فيما يتعين عليها التنحى لإطلاق مسار التعافى وإعادة الإعمار، وسيقع على عاتقها عبء التعطيل أمام جمهورها، وإن نجحت فى المماطلة فستختنق عمليا بالتجمد وانعدام الخيارات وغياب القدرة على لملمة فوضى الطوفان وإعادة تطبيع الحياة فى القطاع.
لم تنقطع خروقات إسرائيل لبنود الاتفاق، ولن تتوقف عن تكرارها. وبقدر الاستهجان الطبيعى لمحاولات تطويق الصفقة والانفلات من التزاماتها فيها؛ فإن ألاعيبها لن تفضى إلى تقويض الترتيبات المتفق عليها؛ ولو تجاوبت معها حماس وبقية الفصائل ضمن نطاق الغضب المشروع أو «التخادم الضمنى» المعتاد.
ما يعنى أنه لا وجه للقلق الذى استشرى منذ صباح الأحد الماضى، وبعد تصاعد حال التسخين والخشونة حوالىّ الخط الأصفر فى رفح، أكان الباعث عليه استدراج الاحتلال للمقاومة، أم خطأ حسابات الأخيرة فى نشاطها المحموم لإعادة تثبيت سلطتها، ومطاردة الخصوم والمناوئين فى الداخل المعقم أو عند الثغور الهشة والمفتوحة لكل المتصارعين.
لا معلومة نهائية وقاطعة بشأن التفاصيل الدقيقة؛ إنما الخلاصة أن شرارة غير واضحة المنشأ تسببت فى إحماء الجبهة جنوبا، وتولّد عنها نشاط عسكرى تسبب فى وقوع عدد من الضحايا المدنيين.
والاحتمال أن عناصر القوى الأمنية التابعة للحركة كانت تتقفى أثر بعض الميليشيات المتمردة والمتعاونة مع الاحتلال، فوقع الخطأ قصدا أو عفوا؛ لكنه لم يتجاوز نطاقه المحدود بالرغم من حدة الصدام، وسقوط ضابط ومجند فضلا عن عدة إصابات؛ بحسب ما أعلن الجيش الإسرائيلى.
كان لافتا أن وزارة الخارجية الأمريكية أصدرت بيانا استباقيا قبل يوم من الأحداث. زعمت فيه أن لديها معلومات تُرجّح إقدام حماس على خرق الهدنة وتتبع المدنيين.
وبالنظر إلى أن أعمال المطاردة الأمنية قائمة فى القطاع أصلا منذ إبرام الاتفاق، وتُتّهم أجهزة الحركة بالاعتداء على عدد من العشائر العائلات، والتسبب فى وقوع عشرات القتلى والإصابات على مدى الأسبوعين الماضيين؛ فالغالب أن ماركو روبيو وفريقه كانوا يقصدون تحركا من نوع آخر؛ وربما أن الهدف تلك المرة يتجه إلى ميليشيا ياسر أبو شباب المتمركزة فى رفح.
ووقوع المحظور يحمل ضمن دلالاته أن الضامن الأمريكى لم يجد ما يُوجب عليه التدخل لكبح العملية، وكل ما أراده أن يُسلط الأضواء الكاشفة عليها، ويُبرّر الرد الإسرائيلى التالى لها بعدما يصّاعد أزيز الرصاص على خط وقف النار.
والإفادة هنا؛ أنه لا مانع من اشتباك الغزيين فيما بينهم، وأن تل أبيب لا تنشغل بمصائر المتعاونين معها طوال فترة الحرب، وفى أحسن الافتراضات تتقبل الإجهاز عليها لإغلاق دفاتر المرحلة الماضية بكل أسرارها وخباياها المشينة، وفى أسوأها أنها ربما تتطلع لإذكاء الخلافات البينية داخل البيئة الواحدة، وتعبيد الدرب نحو وصفة الحرب الأهلية التى تعفيها من امتشاق البنادق أولا، ومن أعباء السلام ثانيا ولأجل غير مُسمّى.
ولا يغيب عن الاحتمالات أن الذين تخابروا مع العدو يستشرفون مآلاتهم السوداء من البعيد، ويعرفون عن اكتمال الاتفاق سيضعهم تحت رحمة الطرفين على السواء، لتتلاقى إرادتهما معا على الخلاص منهم بتهمة الخيانة أو لانقضاء الدور وانعدام الفائدة. وبهذا؛ يصح افتراض أن القلقين من تلك الميليشيات لا يتمنون شيئا أكثر من إفساد الصفقة، ودفع طرفيها إلى تجديد الحرب ما استطاعوا لهذا سبيلا.
وهنا؛ لنُعد قليلا إلى الوراء. عندما استشرت حال العنف فى مناطق سيطرة حماس، وعلّق عليها ترامب بأنهم مُنحو ضوءا أخضر لإنهاء الفوضى وتثبيت الأوضاع الأمنية.
ومع منطقية الكلام ظاهرا؛ فإنه ينطوى على فخ لا يخطئه إلا الأغبياء حصرا، وليس ضعيفى البصر ومكفوفى البصيرة.
إذ إن الحركة فى أشد حالاتها هشاشة، وأحوج ما تكون إلى استعادة حاضنتها وترميم جسورها المقطوعة مع بقية الأطياف، وآخر ما يخدمها اليوم، وبغض النظر عن موقعها من التسويات الانتقالية ومصيرها النهائى فيها، أن تُوضَع فى مواجهة مع بيئة سائلة ومذبوحة إلى الوريد، وليس لديها ما تخسره أو تبكى عليه؛ بل على العكس تمتلئ بكل صنوف الغضب والنزعات الثأرية ممن كانوا سببا فى نكبتها.
وإغراء الفصائل بالآمنين فى المناطق الواقعة تحت سيطرتها، كان مقدمة طبيعية لاستدراجهم إلى حيز الميليشيات المتعاونة عند الخط الفاصل، ومع اتساع نطاق الاشتباك والضرب فى كل الاتجاهات؛ لن يتوقف الناس طويلا للفرز بين الحالات، وستتعمق صورة الوحش الكاسر ومنطقه فى تصفية الحسابات، وأنه يقدم نفسه ومصالحه على الجميع، وحتى على المأساة وأولوياتها الموجبة بالتعقل والمداواة.
ولن يطول غموض اللعبة؛ إن استعدنا بيان الخارجية الأمريكية سابق الإشارة، ثم وضعناه فى مُقابلة تصريح ترامب الأخير على متن طائرته الرئاسية، عندما سُئل عن أحداث رفع؛ فقال إن الاتفاق قائم كما هو، وحماس غير متورّطة فى الخروقات، ولكنهم بعض المُتمردين.
فإمّا كانت وزارته تعرف المعلومة ومنحتها سياقًا مُضلّلاً؛ أو أنه يُغطّى على ورطة الحركة انطلاقا من كونها لا تُزعجه، ولا تتصادم مع أولوياته المرحلية على الأقل. فكأنه يُمرّر نقاط الاختناق؛ ولو انطوت على مُلاحظات، لرغبة فى العبور بالصفقة إلى مُنتهاها.
والسابقة الأبرز عندما أمهل الحماسيين عِدّة أيام لقبول خطّته المقترحة للسلام، وعندما أصدر الوفد المفاوض بيانه بالقبول، عموميًّا وغير مشمول بإقرارات واضحة، بل على طريقة «نعم؛ ولكن»، سارع إلى احتضان الردّ باستحسان غير مُتوقّع، واستباق ما يعرفه بالتأكيد عن نتنياهو الذى لم يكن ليُفوّت فرصة إفشال المفاوضات؛ على عادته المكرورة فى كل الجولات السابقة.
ليس فى إمكان الحركة أن تُجفف مُستنقعات الطوفان؛ بينما الحرب مُعلّقة على الاحتمالات حتى الآن، وأهمّها ألا تكون هى نفسها موجودة بين ورثة اليوم التالى وترتيباته الجديد.
وتلك المُعضلة تستوجب التوقّف والبحث المُتجرّد فى تناقضاتها؛ ذلك أن تهيئتها للمجال الأمنى الآن تتنافى مع التزاماتها المطلوبة بعد ساعات، فضلا على أنها تُعمّق حال الشقاق والتناحُر وتُصعّب مهمّة المُعالجين الوطنيين والدوليين فى مرحلة الانتقال.
ولا يُمكن افتراض أنها تسعى لتطهير غزّة قبل أن تترك زمامها؛ لأنها ما اهتمّت بذلك وهى تخوض بها حربًا كاسرةً، ومن دون أية حسابات عاقلة أو تصوّرات عن أُفقها السياسى المرغوب والمُحتَمَل.
لن يسقط الاتفاق؛ لأن رُعاته استنفدوا كل طاقتهم ومخزونهم من الصبر والقدرة على الاحتمال، وتأكّد أن الأصوليتين المُتناحرتين لا يملكان وصفة للحل، بل ولا للتعقيد القابل للاستدامة دون انقلابات غير مأمونة، أو تكاليف باهظة على الطرفين.
ولا أرجم بالغيب قطعًا؛ كما لا أُنكر أن المخاطر قائمة دومًا، والصهاينة لا عهد لهم، ولا نهاية لمُراوغاتهم واحتيالهم ودأبهم فى الانقضاض على كل التفاهمات؛ لكن الحليف الأمريكى يضىء لهم مصابيحه الحمراء، وفى خاطر نتنياهو أن يعتصر المزايا الموعود بها بالتهدئة، أو يُعلّق جريرة الانقلاب على إرادة ترامب فى رقبة حماس.
وصل وفد الحركة للقاهرة قبل يومين، وفى التفاصيل أنهم يبحثون تنفيذ اتفاق شرم الشيخ، وقد يتّسع المجال لجولة أولى من حوار الفصائل، بجانب البحث فى المرحلة الثانية من صفقة إنهاء الحرب.
بيد أنه يتعيّن العِلم بأنه لا شىء من عالمهم القديم يقوم على ساقين فى الحاضر: الأرض غير الأرض، والتوازنات اختلّت وأُعيد تركيبها على رافعة مائلة، حُيِّد السلاح وقتيًّا على الأقل وما تزال السياسة عاجزة عن التقدّم، والإقليم يُغادر زمن المُمانَعة وشعاراتها الضخمة شكلاً والخاوية فى المضمون، وما عاد يتّسع لثقافة الميليشيات المُتسلّطة على بلدانها، أو الواضعة للدويلة فوق رأس الدولة.
أربك «طوفان السنوار» استراتيجية إسرائيل الأمنية، وأعاد تحريرها على وجه مُغاير تمامًا. لم تعُد نظرية جابوتنسكى عن «الجدار الحديدى» كافية وحدها، ولا فكرة الردع بمعناها العتيق؛ ذلك أنها بطبيعتها لا تُختَبَر كفاءتها إلا فى وقت سقوطها.
وبديل الصهاينة بعد هدية السابع من أكتوبر، إعادة ترسيم الخرائط والجيوسياسة، وتوسعة المجال الحيوى بالرقابة اللصيقة أو الوجود المباشر، كما فى احتلال بضع نقاط من وراء حدود لبنان أو السيطرة المادية والأمنية على أغلب الجنوب السورى.
لن يعود الاحتلال إلى منطق التوازنات القَلِقَة، ولا «قواعد الاشتباك» التى عاش حسن نصر الله يتغنّى بها طويلا.
الردع لم يعُد حالة نفسيّة خالصة؛ بل سلوك عملانى يُفرَض بالقوّة وتُسيّجه النار. ما يعنى الانتقال من زمن المناوشة و«جزّ العشب» على فواصل مُتقطّعة؛ إلى الاستباق والإرعاب وإحباط المُهدِّدات فى مهدها. وبالتبعية لا صمت على تعاظم إمكانات حماس، أو تمرير حقائب الدولارات من مطارات إسرائيل.
باختصار؛ لا فُرصة للحركة أن تظل حاكمة للقطاع، ولا أن تُمنّى النفس بإعادة عقارب الساعات للوراء، وإرساء رؤوس كبارٍ مع الخارج الحليف؛ وقد انكسر الهلال الشيعى نفسه فى خاصرته الهشّة وأعزّ بيئاته ودفاعاته المُتقدّمة.
ما يزال إيقاع الحماسيِّين بطيئًا وأقل انسجاما مع الواقع، واستشعارا لثِقَل اللحظة ومُقتضياتها. كان واجبًا أن يبدأ الحوار الوطنى قبل أن تُفرَض شروط التسوية. وأن يُخضَع الطوفان من فاتحته إلى اليوم للمراجعة والفحص واستخلاص العِبَر، وأن يُسلِّم الذين أوقدوا شرارته بأنهم احترقوا بها، ولعبوا فى مفاتيح الصراع بعشوائية غيّرت تركيبته وتوازناته تمامًا؛ فصارت مواجهتها اليوم أصعب مِمّا كانت فى الأمس.
إنه زمن جديد؛ لا مجال لمُجابهته بالعادات والتوهمات القديمة، ولا للإبحار فيه أصلا قبل الوعى به واستيعابه بعُمق وإتقان. ومن أسفٍ؛ أن كل ما يتداعى إلى الآن، قولاً وفعلاً وسياسة وتوزيعًا للأدوار بين الفصائل، وداخل كل فصيل على حِدَة، ينتمى إلى ماضٍ غادر دون أن يلحظه المُقيمون فيه، والمؤكّد وما يتعامون عنه اختيارًا؛ أنه لن يعود، ولن يزيدهم الاتصال به إلا انفصالا عن القضية بحاضرها النكبوىّ المرهون لإرادات خارجية، ومستقبلها الهيولىّ المُفخّخ بالأيديولوجيا والانقسامات البينية.