حسين السيد يكتب: مع عبدالله النديم فى مسيرته

السبت، 18 أكتوبر 2025 07:00 م
حسين السيد يكتب: مع عبدالله النديم فى مسيرته عبد الله النديم

مرت ذكرى وفاة الثائر والخطيب والكاتب والشاعر عبدالله النديم منذ أيام قلائل؛ إذ توفى فى العاشر من أكتوبر عام 1896، وحرى بنا أن ندرس ونحلل طبيعة هذه الشخصية الفريدة العجيبة وأسباب تفردها، وهذا من أقل القليل نوفيه له، فقد ضحى بحياته من أجل الدفاع عن مصر والنهوض بها، وتوفى فى أرض غريبة؛ حيث دفن بمدفن يحيى أفندى فى "باشكتاش" التركية، ولم يشهد دفنه أحد من أهله.

عندما تعرض لمحنة بعد هزيمة العرابيين وأصبح مطلوبا للسلطات، أكرمه المصريون وردوا إليه بعضا من جميله عليهم فحفظوه بعيدا عن الأعين التى رُصِدت للقبض عليه؛ إذ كان المحرض الأول على قتال الإنجليز وأعوانهم، كما كان خطيب الثورة العرابية ولسان حالهم والمعبر عن آمالهم، والداعية الأكبر لهم فى ربوع مصر كافة، ولم يستطع الإنجليز ولا أتباعهم من الخونة مدة تسع سنوات كاملة القبض على النديم.

ولد عبد الله بن مصباح بن إبراهيم بالإسكندرية فى يوم عيد الأضحى الموافق العاشر من ديسمبر سنة 1845، وثمة بعض الكتابات تذهب إلى أنه ولد سنة 1843، لكن الأول هو الأرجح؛ حيث هناك شبه إجماع عليه من مصادر عدة.
أما والده "مصباح" فهو من مواليد محافظة الشرقية، فقد ولد بقرية "الطيبة" التابعة للزقازيق، وهاجر إلى الإسكندرية للعمل نجارًا بدار الصناعة "الترسانة" التى أنشأها محمد على سنة 1831 لبناء سفن الأسطول المصرى، لكنه سُرِّح من وظيفته بعد صدور فرمان 1841 الذى حدَّ من نفوذ مصر وتطلعها لأن تكون من الدول الكبرى، فتم تحجيمها بهذا الفرمان. ولم يعد "مصباح" إلى قريته بالشرقية، فآثر الاستقرار بالإسكندرية ليهرب من الفقر المدقع الذى يعيش فيه أهله بعد أن جرب حلاوة العيش بالمدينة، وانصرف عن النجارة وافتتح مخبزا فى حى "المنشية"، ولمَّا اطمأن أن لديه القدرة والاستعداد للزواج تزوج، وأنجب لنا ابنه عبدالله.
يذكر عبدالله النديم فى صحيفة "الأستاذ" أنه فى الأصل ينتسب إلى السلالة النبوية الشريفة، فهو إدريسى حسنى النسب من جهة أبيه، وينفى بعضهم أن يكون من هذه الدوحة النبوية، فنقل العلامة أحمد تيمور باشا فى كتابه "تراجم أعيان القرن الثالث عشر" أن بعض مَن عرفوه ينكرون هذا النسب، وكذلك الدكتور عمر الدسوقى فى كتابه "الأدب الحديث"؛ حيث يرى أن ضعة نسبه دفعته إلى ادعاء هذا النسب الشريف، لكن ترى الدكتورة نفوسة زكريا سعيد أن النديم لم يكن فى حاجة إلى التستر وراء النسب والأحساب لتدعيم مكانته، فقد اكتسب لنفسه من فضل يغنيه عن هذا الادعاء.
ظهر نبوغ عبدالله مبكرا، فاستطاع حفظ القرآن ولم يتجاوز التاسعة من عمره، ما شجع والده على إلحاقه بجامع الشيخ إبراهيم باشا، وهو صورة مصغرة من الدراسة بالأزهر الشريف بالإسكندرية، لكنه لم يحقق شيئا ذا بال، بسبب طريقة التدريس العقيمة وجمود العقلية المسيطرة على هذا التعليم، فانصرف عن الدراسة بالجامع وانتقل إلى نوع آخر مما يحبه ويهواه، وهو مجالس الأدب التى كان يتردد عليها الشعراء والزجالون والأدباء، فالتقطت أذنه كل ما سمعت ووعته الذاكرة وخزنته بطريقة باهرة، ولم ينفق عليه والده فاضطر إلى تعلم فن الإشارات التغرافية، وعمل بمكتب التلغرافات ببنها، ثم انتقل إلى القصر العالى الذى تسكن به أم الخديوى إسماعيل وذلك بمنطقة "جاردن سيتى"، وهو ما جعله يغشى مجالس الأدب بالقاهرة، ويعرِّفه الشيخ أحمد وهبى أحد المولعين بالشعر، الناظمين له، بمحمود سامى البارودى وعبدالله باشا فكرى ومحمود صفوت الساعاتى والشيخ أحمد الزرقانى ومحمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر وعبدالله بك حافظ، فكان تلغرافيا بالنهار يغشى مجالس الأدب ليلا. وكان عمله بالقصر قد جعله يطَّلع على حياة القصور الفارهة وما تعج به من النعيم والترف، فيما يرفل الشعب فى الشقاء والفقر، لكنه لم يستمر فى القصر كثيرا فسرعان ما يزلُّ قلمه ما يجلب عليه غضب خليل أغا (كبير أغوات القصر) الذى يطرده شر طردة، فيأمر الخدم بضربه ضربا مبرحا.
وتضيق عليه الدنيا فيما هى واسعة على الآخرين، ويمهتن التدريس مهنة له ليقتات منها، فيدرِّس إلى أولاد عمدة من عمد الدقهلية، ويختلف مع العمدة حول الأجر؛ لأن العمدة يريد ألا يعطيه أجرا فى مقابل مسكنه ومأكله، ويتركه النديم بعد أن يهجوه هجاء لاذعا، ويفتح دكانا برعاية أحد الموسرين ويلتف حوله الأدباء والشعراء والزجالون، ويهمل دكانه لانغماسه فى حياة الأدب، ما يعنى إفلاسه. ويتجه عبدالله النديم إلى طنطا ويقابل "شاهين كنج" مفتش الوجه البحرى، وكان المفتش يحب منادمة الأدباء والظرفاء، فيعجب بعبدالله إعجابا كبيرا، وما لبث أن يصبح له نديما، ومن ثم يشتهر عبدالله بلقب النديم، ويعقد "شاهين" مجلسا خاصا أو مناظرة بين النديم وكبار الأدباتية، إن ظفروا به فلهم عشرة جنيهات مكافأة، وإن هو من ظفر فسيجلدهم المفتش عشرين جلدة، ويظفر النديم به وكأنه الشاعر جرير يظفر بالشعراء ويشهد صراعهم الواحد تلو الآخر، ونقل العلامة أحمد تيمور باشا بعضا من هذه المناظرة، فارجع إليها إن شئت فى كتابه تراجم القرن الثالث عشر.
يتعرف إلى جمال الدين الأفغانى، ويحضر دروسه فى الفلسفة والاجتماع والأدب ويسمع نقده لأوضاع مصر الاجتماعية وأسباب ضعفها وسبل إصلاحها، ويعود إلى الإسكندرية وينشئ الجمعية الخيرية الإسلامية بمساعدة أثرياء المدينة، وكانت هذه الجمعية هى أول جمعية إسلامية أُسست فى القُطر المصرى، وكانت ترمى إلى غرض واحد، هو تربية الناشئة وبث روح المعارف فيهم لترقية الأفكار وتطهير الأخلاق من دنس الجهالة، كما يذكر جورجى زيدان فى كتابه "تراجم مشاهير الشرق فى القرن التاسع عشر"، وتنشئ هذه الجمعية مدرسة لتعليم أبناء الفقراء والأيتام، ويدرس لهم النديم فن الخطابة ومادة الأدب العربى بها، ويمثل مع تلاميذه روايتيه المشهورتين باسم "الوطن" و"العرب" بملهى زيزينيا بالإسكندرية، وقد حضر الخديوى توفيق العرض واستحسنه. لكنه لا يستمر فى الجمعية، فيدسُّ له ويستقيل من إدارتها.
وينشئ جريدة "التنكيت والتبكيت"، ويصدر العدد الأول منها فى 6 يونيو 1881، ويتهافت الناس على شرائها، وتنفد الجريدة فور صدورها، وينضم إلى الثورة العرابية منذ بدايتها، ويقنعه الزعيم أحمد عرابى بضرورة تغيير اسم جريدته، فيختار لها اسم "الطائف" تيمنا باسم بالمدينة التى بالحجاز، ولتطوف المدن والقرى كما جابت "جوائب" أحمد فاريس الشدياق البلاد، ويصدر العدد الأول من "الطائف" فى 20 نوفمبر 1881. ويقول جورجى زيدان إن "الطائف" كانت سياسية محضة، بلغت من الشهرة ما لم تبلغه جريدة قبلها من التأثير على الأذهان، ثم اغتصبها منه أمراء الجند أثناء الثورة، ولم يدَعوا له منها غير الاسم، فكانوا ينشئون فيها ما يشاءون دون أن يَقدر على رد واحدٍ منهم، حتى انطفأت جمرة تلك الثورة فاختفى.
بعد فشل الثورة العرابية يُقبض على بعض زعماء الثورة ويسلم بعضهم الآخر نفسه إلى السلطات، أما النديم فيختفى، كأنه فص ملح وذاب، وكانت له قدرة بارعة على التخفى، فلما أعيتهم الحيلة حكموا عليه غيابيا بالنفى مدة حياته من القطر المصرى. ومن آيات تفننه فى الاختفاء أنه فى البداية يذهب إلى "بولاق" ويستخفى عند صديق له وفىٍّ أيامًا حتى يخف عنه الطلب، فيخرج وقد لبس "زعبوطًا" أحمر، ويعتم بعمامة حمراء وربط عينيه بمنديل، ويطيل لحيته، ويمسك عكازًا طويلًا، ويدَّعى أنه من مشايخ الطرق، وينزل فى سفينة مع خادمه "حسين" إلى بنها، فلم يفطن له أحد، كما يذكر أحمد أمين فى كتابه "من زعماء الإصلاح".
إن قصة اختفائه تسع سنوات لهى من العجب العجاب، ولهى من الخوارق والأساطير، وتستحق أن تكون رواية أو مسلسلا، إنها تشبه ما لاقاه البطل الإغريقى أوديسيوس فى رحلة العودة إلى وطنه "إيثاكا" بعد انتهاء حرب طروادة، وقد استغرقت هذه الرحلة عشرين سنة، وظلت زوجه "بينيلوبى" منتظرة إياه رافضة كل الخطاب، لتعطينا درسًا عظيمًا فى الوفاء. أقول إن النديم استخدم كل الحيل للهروب من العيون التى تترصده، كأن يكون من الصوفية، فيلبس لبسهم ويقوم بأداء حركاتهم بحيث لا يشك أحد أنه من غير الصوفيين، أو يدعى أنه من الأقطار البعيدة والبلاد النائية، ويتكلم بلسان تلك البلاد التى ادعى أنه واحد منها، وأوضح لنا أحمد أمين أسباب نجاحه فى هذا الاستخفاء، فقال:" وساعد على نجاحه فى هذا الاستخفاء أمور، منها: مهارته فى حيله، وإتقانه لما يدعى، فإذا ادعى أنه مغربى تكلم مغربى محكم، أو مدنى فكذلك ادعى مرة — وهو فى القرشية — أنه عالم يمنى، وذاعت شهرته فى العلم والأدب حتى بلغت القاهرة، فأرسل إليه رياض باشا "سعد زغلول" ليسأله عن مثل ورد ذكره فى بعض الجرائد ولم يفهم معناه، فقابله على أنه عالم يمنى وفسر له".
أما على الحديدى صاحب كتاب "عبدالله النديم خطيب الوطنية" فإنه يذهب إلى أن نجاحه فى الاختفاء يعود إلى أنه لم يترك نفسه تنهشها ضباع الفراغ فقد شغل نفسه بالتأليف، فألف عشرين كتابا بين صغير وكبير. وكذلك أمله فى أن تثور الأمة على الاحتلال وتقذف به إلى البحار، ثم تدعو عرابى ليقودها إلى الحرية واسترداد مكانتها بين الأمم، بالإضافة إلى مروءة الأهالى الذين حموا الطريد الذى نزل بهم.
فى النهاية تقبض عليه السلطات بمساعدة جاسوس لها اسمه "حسن الفرارجى" الذى يرشد البوليس إلى مكانه طمعا فى المكافأة التى رصدت للإمساك به، وكان مقدارها ألف جنيه، وهو مبلغ خيالى فى تلك الآونة، لكن لسوء حظه لم يأخذها لفوات أوانها، ويحكم عليه بالنفى خارج القطر المصرى، ويختار يافا الفلسطينية مقرا له، ويعفو عنه الخديوى عباس حلمى الثانى بعد أن تسلم الحكم بعد وفاة والده الخديوى توفيق، ويعود النديم إلى القاهرة، ويحن إلى عالم الصحافة ميدانه المفضل، فيطلب تصريحا لجريدة "الأستاذ" باسم أخيه عبدالفتاح النديم، وتخرج الجريدة للنور فى 23 أغسطس سنة 1892. ويبين جورجى زيدان المكانة التى وصلت إليها الجريدة فيقول:"تنال من الشهرة والانتشار فى شهور ما لم تنله سواها بأعوام، وكان لها تأثير شديد فى أفكار الأمة على اختلاف نِحَلها". ويعود إلى سيرته الأولى وهى مهاجمة الإنجليز الذين كانوا على غير وفاق مع الخديوى الشاب، لكنهم هم أصحاب السلطة وبيدهم الأمر، فيوعزوا إلى الخديوى بنفيه مرة أخرى، ويخرج الشعب لوداع النديم، ويعود مرة ثانية إلى يافا، شريطة أن يكف عن الكتابة فى كل ما يتعلق بسياسة مصر، وتجرى عليه الحكومة المصرية مبلغ خمسة وعشرين جنيها شهريا ليدبر أمره. ويشى به الأوغاد بأنه يطعن هذه المرة فى سياسة السلطان العثمانى، فيأمر بإبعاده عن يافا وعن كل أراضى الدولة العثمانية، ومرة أخرى تضيق عليه الأرض، فليس له مكان يلجأ إليه إن أراد العيش إلا النفى خارج حدود أملاك الخلافة العثمانية، ويذهب إلى الإسكندرية ويقابل الغازى مختار باشا الذى يساعده على السفر إلى الآستانة ليكون بجوار أستاذه جمال الدين الأفغانى، ويرحب بالموافقة على العيش بالآستانة، وتوافق له السلطات بأن يعيش بالآسانة ليكون تحت عينها، وكأنه فى سجن كبير أو قفص كبير، كما هو عهدها بالأحرار وعلى رأسهم جمال الدين الأفغانى. ويلتقى النديم أستاذَه مرة أخرى، ويزداد إعجاب الأفغانى به، حتى إنه ليصرَّح فى عدة مجالس بأنه ما رأى مثل النديم طول حياته فى توقُّد الذهن، وصفاء القريحة، وشدة العارضة، ووضوح الدليل، ووضع الألفاظ وضعًا محكمًا بإزاء معانيها إن خطب أو كتب. ويعينه السلطان مفتشا للمطبوعات بالباب العالى بمرتب قدره خمسة وأربعون جنيها بخلاف خمسة وعشرين جنيها قد خصصتها له حكومة مصر، وينفق المبلغ على المحتاجين ولا يتبقى له إلا القليل يقيم به أوده فحسب.
وكالعادة يظل الثائر ثائرا حتى لو كان فى بلاد غير بلاده، فيدخل فى عراك مع الشيخ أبى الهدى الصيادى الذى كانت له الحظوة العالية والمكانة الرفيعة لدى السلطان عبدالحميد وينازله النديم، ويؤلف فيه كتابا سماه "المسامير"، كله هجاء مقذع فى الصيادى، ويحاول أبو الهدى بمعاونة السلطان البحث عن هذا الكتاب، لكنه لم يجده، فقد هرَّبه رجل اسمه "جورج كوتشى" إلى مصر وينشر بها. ويجدُّ النديم فى أن يكون سفيرا للخديوى عباس الثانى، فيسعى إلى أن يزوج إحدى بنات السلطان عبدالحميد إلى الخديوى، وكادت تنجح المهمة لولا تدخل أبى الهدى، فصور للسلطان أنه بهذا الزواج ينقل الخلافة من تركيا إلى مصر إذا أنجبت الابنة طفلا للخديوى، ويرفض السلطان هذه الزيجة.
يمرض النديم بسبب ما لاقاه فى حياته، خاصة إبان اختفائه مدة تسع سنوات بعيدا عن السلطات، فيصاب بمرض السل وتشتد عليه العلة، ولهذا لم يعش له ولد، فقد ماتوا جميعا فى حياته، ويطلب النديم أن يرى أمه وأخاه وهو فى مرض الموت، وعندما يسافران إليه لا يجدانه حيًّا وإنما قد واراه الثرى بمدفن يحيى أفندى فى "باشكتاش"، ووجدَا متاعه وأثاثه وكل شىء له قد نُهِب، ويدلهما الأفغانى على مكان مقبرته، وهناك تجلس الأم وابنها يبكيان النديم، ويغادران إلى مصر وليس فى يدهما إلا الحزن والأسى. ويأمر السلطان بأن يحتفل بجنازته احتفالا كبيرا، فتسير أمام نعشه فرقتان من الجيش، وفرقة من الشرطة، وتلامذة المكتب السلطانى، وعدة من الوجوه والكبراء والعلماء يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد ظافر شيخ السلطان، والسيد عبد الرحمن الجزولى، كما يذكر جورجى زيدان.
ويعترف العقاد فى "حياة قلم" أنه ليس من تلامذة مدرسة النديم، ولا يشعر بأن الرجل قدوته المختارة بين أمثلة النبوغ التى يتمناها، أو بين الشخصيات المثالية التى يجلها ويحب أن ينتمى إليها، رغم أنه يعترف أيضا أن بينهما متشابهات كثيرة، مثل أنه قد تعلم صناعة التلغراف وعمل بها مثل النديم، واشتغل بالتدريس فى مدرسة خيرية كما اشتغل النديم، وطارده البوليس إبان الحرب العالمية الأولى كما طارد البوليس النديم عقيب الثورة العرابية.
يذهب العقاد إلى أن من أسباب عدم اختياره قدوة له أنه يراه ينزع كثيرا أو قليلا إلى شىء من التهريج، وأنه نشأ – العقاد – فى بيئة محافظة حيث كان أبواه محافظين أشد المحافظة على سمت الوقار واللياقة. لكن العقاد لا يبخس الرجل حقه فيقرُّ أنه أستاذ مدرسة فى الصحافة والدعوة الوطنية، وكان كل من نشأ بعده بقليل، واحدا من اثنين: إما تلميذ يقتدى به، وإما خصم يبغضه وينحى عليه. ويشهد له العقاد فى كتابه "شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضى" بأنه: كان حركة لا تهدأ، وكان من رجال العمل ورجال القلم والقرطاس، وكان يخطب ويكتب وينظم الشعر والزجل ويؤلف الروايات المسرحية التی لها أبطال من فصحاء العرب أو بطال من عامة المصريين، وكان يعلم وينشئ المدارس.
وما أظن أن رفض العقاد اختيار النديم قدوة له إلا لأنه قد خالط الأدباتية واحتك بهم، وثمة فرق كبير بين الأديب والأدباتية، فالأول صاحب رسالة أما الآخر فهو عالة، الأول موهوب ودارس وقارئ والآخر يجيد الفهلوة واللعب بالألفاظ، الأول لا يرتزق من أدبه والآخر يستجدى الناس، الأول أنيق فى حديثه وملبسه والآخر أقرب إلى المهرج أو البهلوان، ويعطينا أحمد أمين تعريفا لطائفة الأدباتية فيقول: هم طائفة من الشحاذين يستجدون بأدبهم العامى وطلاقة لسانهم فى الشعر، وحضور بديهتهم، عرفوا بالإلحاح فى الطلب، فإذا رددتهم أى رد أخذوا كلمتك على البديهة، وصاغوا منها شعرًا يدل على استمرارهم فى طلبهم، واستغواء ممدوحهم، وقد جمعوا إلى طلاقة لسانهم وحضور بديهتهم منظرهم المضحك فى ملبسهم وحركاتهم، فطبلة تحت الإبط، وحركات يدور معها رز العمامة كأنه نحلة، وتحريك لعضلات وجوههم كأنهم قردة، وسموا "أدباتية" جمع "أدباتى" وهى لفظ سخرية لأديب".
فربما لاحتكاكه بهم ودخوله فى مساجلات معهم وكتاباته التى فى جزء منها باللغة العامية جعلت العقاد لا يختاره قدوة له.
يرى الدكتور محمد مصطفى هدارة بأن عبدالله النديم شخصية فريدة فى القرن التاسع عشر، وذكر خمسة أسباب لتفردها، السبب الأول أنه عاش حياته بالعرض وليس بالطول فهى لم تزد على واحد وخمسين سنة ولكنه كان فى خلالها ملء السمع والأبصار فى مصر والعالم العربى والإسلامى، وكان شوكة فى حلوق الظالمين والمستبدين والمستعمرين يحاولون نزعها. والسبب الثانى موسوعية معارف عبدالله النديم، فهو ملمٌّ بين العلوم الإسلامية والآداب العربية والتاريخ والسياسة واللغة والبلاغة والمعتقدات والعلوم الاجتماعية. والسبب الثالث تنوع المهام التى أنيطت به فهو أديب يكتب على الطريقة التقليدية والطريقة العصرية وشاعر وصحفى وسياسى ومعلم وتاجر وعامل تلغراف. والسبب الرابع قدرته على الاختفاء مدة تسع سنوات عن أعين السلطات الحاكمة التى رصدت ألف جنيه لمحاولة القبض عليه. والسبب الخامس قدرته الهائلة على التأليف رغم عدم استقراره فى مكان.
لهذا لا ينكر عليه العقاد أنه كان أعجب نموذج من نماذج الشخصيات فى تاريخ الأدب المصرى الحديث، ولا أنك تبحث عن مثيل له بين ذوى الأدوار المعددة الذين تنجبهم طلائع النهضات فى عالم الأدب والثقافة فلا تظفر له بمثيل.
والحق أن عبدالله النديم من أعظم الشخصيات فى القرن التاسع عشر، وشخصية جديرة بأن ننحنى لها إجلالا وتعظيما، وهو النموذج المثالى للإنسان المصرى، فلم ينحنِ لأحد ولم يهادن أحدا، كان ثائرا على الظلم والفساد والاحتلال والانحلال، لم ييأس قط طوال حياته، حتى بعد احتلال مصر ظل يكافح الإنجليز، ولم تنل منه هزيمة الثورة العرابية، وظل يدافع عن الثورة العرابية ولم يتبرأ منها كما فعل الأوغاد، وعندما يشتد الخلاف بين الرفاق فى المنفى يراسلهم النديم ويطالبهم بالائتلاف، انظر "عوامل النجاح فى الاختفاء" من كتاب على الحديدى "عبدالله النديم خطيب الوطنية"، وهذا عبدالرحمن الرافعى يقول عنه فى كتابه "شعراء الوطنية": "وفى الحق أن النديم هو الزعيم الوحيد بين الزعماء العرابيين الذى استمر فى جهاده ضد الإنجليز ونضاله عن مصر فى عهد الاحتلال، وتلك لعمرى ميزة كبرى جديرة بأن تُحيط اسمه بهالة من المجد والخلود"، وقبل مماته يدخل فى صراع مع أبى الهدى الصيادى، ويؤلف فيه كتابا بعنوان "المسامير"، فحياته كانت كلها جهادا ووفاء للأصدقاء ومثابرة.
لا شك أن شخصية النديم تغرى أى باحث أو دارس بالكتابة عنه، فهو لم يكن فردا واحدا وإنما كان مجموع عدة أفراد، فهو أديب بارع وخطيب مفوه وصحفى ماهر وسياسى داهية وعامل بسيط ومحارب شجاع ومسرحى كبير ومعلم رائع ووطنى مخلص وزجال قدير وأستاذ فى فن الاختفاء.. كل هذا يغريك بالكتابة عنه، ولهذا كثرت الكتابات والمؤلفات عنه وتعددت، ولا أستطيع إحصاء كل ما كتب عنه. رحم الله الأستاذ عبدالله النديم.

 

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة