لا أحد يُدانى أهل غزة فى فرحتهم بوقف الحرب إلا مصر وشعبها؛ ليس لأنهم كانوا رعاة الاتفاق بعد شهور طويلة من المماطلة فحسب، ولكن للوجيعة الحقيقية التى مسّت شغاف القلوب هنا، وطبيعة الدور والرسالة اللذين تحملها أم الدنيا على عاتقها تجاه فلسطين وقضيتها العادلة، وما يمتد بينهما من رباط غليظ أوله نُصرة المظلوم وآخره حراسة الأمن القومى، وكلاهما لا يقبل التهاون أو التفريط.
ما جرى فى شرم الشيخ استثنائى بكل المقاييس، ويُسجّل جهود المخلصين من رجال مصر ومؤسساتها بأحرف من نور. وإذا كان عامل التغير هبّت رياحه من واشنطن؛ فإنّ لنسيم وادى النيل المُتزن فضلاً كبيرًا فى تصويب رؤية الإدارة الأمريكية، ودفعها نحو خيارات أكثر تعقلا وموازنة بين المصالح المتضادة.
ما سمح مع الوقت بتعديل الملامح العريضة لرؤية الرئيس ترامب من الحسم الخشن إلى التسوية السياسية الناعمة، ومن الريفييرا الشرقية إلى إعمار غزة لأهلها، وشطب مفردة التهجير من قاموس التداول الآن وفى أى مدى قريب. ويتبقى استكمال الصفقة لإخراج القطاع من حفرة الدم، وتعبيد طريقه لمعانقة الضفة الغربية سياسيا، والتوصل إلى أجندة وطنية تتخطّى رواسب الطوفان وتداعياته، وتُعيد صياغة أجندة التحرر الفلسطينية تحت مظلة الإجماع.
ويجب ألا تأخذنا نشوة الإنجاز فى شرم الشيخ من واقع الحال؛ ألا وهو أن الاشتباك أُدير بشروط طرفيه المباشرين حتى اللحظة الأخيرة، وإشارة الحل جاءت من البيت الأبيض عندما اقتضت المصالح والحسابات المعقدة؛ ما يجعل مصر شريكا فى الانفراجة وغير مسؤولة عمّا قد يتأتى بعدها من تعقيدات.
ستواصل الاشتغال بجهد من دون شك؛ لكن المفاتيح الأساسية لدى الإدارة الأمريكية، وتتحدد فاعليتها بمقدار ما يلمسه نتنياهو من جدية الحليف، وهل التحول فى موقفه آنى وتكتيكى، أم مبدئى واستراتيجى؛ لا سيما مع ما عُرف عنه من مزاجية وتقلّب، قد ينجح رئيس حكومة الاحتلال فى استغلالهما لصالح التهرب من بعض الالتزامات، أو الالتفاف عليها بالإرجاء أو التبديل.
نجحت مصر فى المهمة المُعجّلة، وتواكب بقية المراحل وتتشارك فيها بإخلاص وصفاء نية؛ إنما يتعين على الفصائل أن تصغى لتقديرات الموقف المعمقة من جانب الحزام العربى اللصيق، وأن تبقى واشنطن راعية لخطة ترويض اليمين المتطرف فى إسرائيل، وقطع الطريق عليه قبل أية محاولة للعب فى تركيبة التسوية وآجالها.
مع ضرورة ضبط الخطة وفق مراحل محددة بمواقيت، وإغنائها بآلية للمتابعة والرقابة، وأهداف قابلة للقياس، ومنظومة ثواب وعقاب مجرّدة إزاء الخصمين، والأهم قدر من المرونة يُراعى هشاشة البيئة الغزية، وأزماتها العميقة المخلخلة لبنية الاجتماع والإدارة فيها، وبما يتجاوب إيجابيا مع الحاجات المتوقعة لتكييف الشروط أو إعادة صياغتها بموضوعية وعقلانية.
مرت المرحلة الأسهل على الإطلاق، وتتبقى الأصعب شكلا وفى المضمون، وبما لا يقاس بسابقتها من أى وجه.
لقد ضجر الحماسيون أنفسهم من ورقة الأسرى، وصارت عبئا عليهم لجهة الحفاظ على أرواح الباقين منهم، ومعرفة أنهم ذريعة يقتفيها الاحتلال ولن يتوقف عن غطرسته العسكرية طالما ظلوا فى حوزنهم. أما السلطة فلم يزهدوها رغم كل ما حاق بهم، وأنزلوه على بيئتهم جرّاء سوء الإدارة منذ انقلاب العام 2007، وبدرجة أكبر بعد السابع من أكتوبر وتداعياته الثقيلة.
كما أن السلاح بالنسبة لهم شرط وجود، وضمانة للعودة إلى المشهد تحت ستار السياسة والتوافق، أو إفساد محاولات تنحيتهم جانبا عندما تقتضى الظروف. وبين التمسُّك من جانبهم، والتشدد من نتنياهو، وما طرحته البنود العشرين فى خطة ترامب، لا يُمكن أن يُؤخذ أى تصور من الثلاثة على عواهنه، ويتطلب الرشد وصدق المسعى أن يُبحث عن طريق رابعة مختلفة، أو تمزج بين الثلاثة بمسموحات وقيود محسوبة بدقة وإتقان.
ومهمة الرئيس ترامب مع مصر أن يُثبّتوا قاعدة التوافق التى أرستها جولة شرم الشيخ، ويرسموا معالم الجولات التالية وصولا إلى الخروج بالقطاع من أتون النار، دون إبقاء ذيول يتعلق بها نتنياهو فى رغبته الأثيرة للنجاة بنفسه على حساب الجميع، أو المغامرة بتجميد العملية وتقزيمها لتصير هدنة أمنية معلقة فى الفراغ.
صحيح أنها ستعفى الغزيين من كلفة الدم الباهظة، لكنها لن تضمن لهم وقتها مسارا سليما للتعافى وإعادة الإعمار وتعبيد أفق سياسى يقود إلى الدولة المستقلة، أو يُبقيها صالحة للتداول وقادرة على الاستفادة من اليقظة وموجة الاعترافات الدولية. إنه الشق الأكثر حيوية فى الخطة؛ لأنه يتصل ببناء الثقة والقدرة على إنجاز لغة مشتركة تُبشّر بأن ما كان لن يتكرر على الأقل فى القريب.
لا تملك مصر ما تقدمه لترامب من إغراءات اقتصادية؛ لكنها الطرف الوحيد القادر على أن يُدخله التاريخ من أوسع أبوابه؛ أو لنقُل عدم إخراجه منه، وإعانته على بناء إرث سياسى إن لم يتوجه بجائزة نوبل فى العام المقبل؛ فستبقى صلاحيته فى الحد الأدنى إلى ما بعد مغادرته للمنصب.
ليكون الرجل الذى عوّلت عليه إسرائيل فى تصفية القضية الفلسطينية؛ لكنه أبقاها على قيد الحياة، وأعاد الكرة إلى قواها الوطنية ليخوضوا امتحان الجدارة تحت سقف المسؤولية والالتزام. وعندما يحل على شرم الشيخ أو القاهرة؛ سيوثق أول سطر فى كتابه الذى سيُكمل معه ما تبقى من الولاية، وسيبقى على رفوف التاريخ أو يزاح عنها، بقدر ما سيُضاف إليه أو يُشطب منه لاحقا.
الزيارة، وورشة شرم الشيخ من قبلها، رسالتا تأكيد لحقيقة أن مصر الرقم الأصعب فى المنطقة، وبقدر ما يصعب أن تجدها طرفا فى تعقيد الملفات الإقليمية، يستحيل أن تنفك العُقد إلا بحضورها، تأسيسا على المكانة والدور والإرث التاريخى، وعلى أن لواء الفاعل الجيوساسى الأول ما يزال معقودا لها، وربما سيظل لأمد أطول من خيالات الطامحين والطامعين والمناوئين أيضا.
إنها رمانة ميزان المنطقة، الكبيرة على الكبار والصغار. تَحكم حتى لو من الصفوف المتأخرة، وعندما يحين الأوان تأخذ بزمام الأمر الذي يعجز عنه الآخرون، تُحكم قبضتها عليه، وتتقدم منفردة إلى الموقع الذى لا يملؤه سواها.
اشتعل الفتيل وغالبا لن ينطفئ؛ لكن السؤال هل يتخذه البعض نبراسا ويسيرون في ضوئه، أم يتجمدون فى مكانهم لحين أن ينفد أو تنفجر قنبلته فيهم.
وعبء الإجابة للأسف يقع على كاهل حماس والفصائل الرديفة؛ لأنها انتدبت نفسها لمهمة أكبر منها، وفى ميقات غير مناسب أو محسوب، ويتعيّن عليها سداد التكاليف الاضطرارية لصالح بيئتها والقضية، وعدم تفويت الفرصة مهما بدت ضاغطة أو غير مثالية.
لقد تحركت واشنطن تحت ضغط الكلفة وغياب الأفق، ومسيس الحاجة إلى فكّ طوق العزلة من عنق إسرائيل. وعندما يتحرر الأسرى لن يعود لدى المقاومة ما تُناطح به أو تُقايض عليه، وقد تُحسب الرخاوة فى الوفاء ببقية الشروط من قبيل الانقلاب على الصفقة، أو يتخذها نتنياهو ذريعة للانفضاض عن الملأ.
وذلك؛ بعدما يُقنع الولايات المتحدة أنه أنجز ما عليه، ويطلب ما له بموجب الخطة التى أقرتها حكومته، وتتحدث صراحة عن تنحية حماس ونزع سلاحها، وعن هيئة دولية يرأسها ترامب، وتنبع منها شرعية الإدارة المدنية غير الفصائلية. وهُنا نعود لواشنطن مجددا، والمرونة التى يتوجب عليها أن تتحلى بها فى مقاربة النقاط الصعبة والعالقة.
ليس من مصلحة فلسطين أن تتحلل حماس بطريقة عشوائية؛ قد تُحيلها إلى فصائل وتيارات متنازعة فيما بينها ومع الآخرين، وليس لفائدة الحركة نفسها أن تبقى على صورتها القديمة، ناهيك عن إضرار ذلك بالقضية الوطنية ومستقبلها القريب.
ويبدو أن مصر الوحيدة التى تنطلق من تصور ناضج ومتوازن بين المسألتين؛ إن كان لجهة إبعاد الإدارة القديمة عن المشهد، أو وجوبية إشراك الجميع فى صياغة ملامح المرحلة المقبلة.
وهو ما يتطلب مؤتمرا وطنيا، سترعاه القاهرة قريبا، إنما يتوجب أن يكون تحت عنوان السلطة الوطنية، وليس بين فصائل تتلاقى من نقطة الصفر، وتضحى بغطاء الشرعية الذى يتوافر لمنظمة التحرير دون غيرها، وينبغى الانطلاق منه والبناء عليه، والتمتع بأعلى درجات الصراحة والمكاشفة وتبادل الانتقادات؛ على شرط أن يخرج الجميع متفقين على الخطوط الإنقاذية العريضة.
ولا خلاف على أن السلطة الوطنية ليست على قدر اللحظة، وفى حاجة ماسّة إلى الإصلاح والتأهيل. وخطة ترامب نفسها تتحدث عن متطلبات يتعين استيفاؤها؛ قبل أن تحل بديلا للإدارة الانتقالية المؤقتة فى القطاع.
إنما فى المقابل لا يمكن غض الطرف عن خطايا حماس أيضا، وحاجتها للمراجعة والتقويم، وهو ما يُحتمَل أن يواجه عائقا حقيقيا على طريق تصفية الإحن والرواسب القديمة؛ بدءا من المكابرة فى الانقلاب حتى الآن وبعد نحو عقدين من وقوعه، ووصولا إلى التمسّك بسردية النصر ودعايات "الطوفان المجيد" بعد كل ما أنزله بالأبرياء، ومن دون إشارة واحدة إلى أنه خطاب تثبيت وتوازن نفسى لقواعد الحركة، وليس رواية يُراد تعميمها وفرضها قهرا على المختلفين.
قبل يومين انسحب القيادى البارز موسى أبو مرزوق من هواء إحدى القنوات؛ لأنه سُئل بأدب جم: علامَ كان الطوفان بعد كل ما تسبب فيه وانتهى إليه من تنازلات؟ هاج وماج وتجاوز فى حق السائل، ثم خرج من الكادر وأطفأ الكاميرا. بالتزامن كانت مجموعات وحدة السهم تشتبك مع أربع عائلات كُبرى فى أنحاء القطاع، منها المجايدة ودغمش، وبعض تلك العواقل مُمثّلون فى هيكلية الحركة وبين ساستها ومقاتليها.
ولا يُمكن الآن استدعاء تراث السنوار مع وحدة "مجد"، واستسهال اتهام الجميع بالعمالة أو الاستثمار فى الحرب؛ لمجرد تبليعهم رؤية النصر أو إجبارهم على التسليم بهزيمتهم وحدهم دون الفصائل. ولا من المنطقى أن ينجو الناس من مقتلة المحتل، ليُقتلوا على أيدى المقاومين؛ فكأن السلاح يصر أن يكون وبالا عليهم وعنوانا لنكبتهم فى الحرب والسلم أيضا.
تحتاج حماس لقراءة الواقع من الأرض لا عبر خيالات القادة ومحفوظاتهم، ومعرفة أن منسوب الغضب فى القطاع على أشدّه، وربما يساوى بعض المنكوبين بين الصهاينة والقساميين؛ جرّاء ما عانوه من الشد والجذب بين الطرفين.
ولا سبيل غير التواضع أمام المأساة، وعدم الاستكبار على غضبة الغاضبين أو استنكار أن يجأروا بالشكوى وآهات التوجّع؛ والحل فى الإقرار بأن السنتين ما كانتا مواجهة بين مقاتلين من الجانبين؛ بل مجنزرة ثقيلة تطيح ببيوت الناس وتفرم أجسادهم.
وضرورة اللحظة أن يتحلى القادة بشجاعة الاعتذار عن الخطأ، ويعملوا على احتواء البيئة المتشظية والمنقسمة على نفسها؛ بدلا من التهرب من الأسئلة السهلة بترقية مستوى البطش والتطويع بالقوة؛ بينما ستحمل الأيام المقبلة ما هو أصعب منها ولا جواب عنه بالفعل.
والتحسُّب لمخاطر الاحتيال المعتاد من جانب الصهاينة؛ يجب ألا يصرف النظر عن الخطر الأقرب والأكثر فداحة؛ أن يتفشى التخوين بين الغزيين، ويقع بينهم الانقسام على الانقسام؛ فتؤول الأوضاع إلى جُزر منفصلة ومتعادية، تُوفر السياق الطبيعى الذى تنشأ منها الصدامات الأهلية، التى إن كانت أسوأ تداعياتها أن تتطور إلى حرب كاملة الأوصاف؛ فإن ما لا يقل سوءا أن تتجمد فى صورة عداوات مكتومة، وارتياب متبادل يُلقى الجميع فى أحضان المجهول أو المتربص بهم، ويُطيل أمد التداوى وإعادة بناء ما هدّمته شهور العدوان ماديا ومعنويا.
كان بإمكان أبو مرزوق أو غيره من القيادات إنهاء الجدل مبكرا بجملة واحدة؛ أن يقول إننا مارسنا حقنا المشروع فى المقاومة المسلحة؛ لكننا نعتذر لجمهورنا عن خطأ الحسابات، ولا نتهرب من مسؤوليتنا عما حاق بهم قبل الطوفان وبعده، مع العلم بأن العدو من طبائعه انتهاز الفرص، وما قصّر فى التقتيل بذريعة أو من دونها.
ويُكمِل العاقل؛ لو صحّ الظن بوجوده: لكننا نُقرّ بأننا منحناه ذريعة ما كان يتمنّاها، وأنقذته من أزمة داخلية كانت تتطور وتهدد ائتلافه، وفتحنا له طريق الإجهاز على محور الممانعة، وإعادة ترسيم المنطقة جيوسياسيا، وإرهاق الحاضنة العربية بتقلبات حادة ما كان وقتها ولا سياقها فى مناخ دولى غير مستقر، وموسم انتقال سياسى دخلته الولايات المتحدة وستكون فيه مضطرة للوقوف بجانب حليفتها بكل السبل والإمكانات؛ لكننا بعيدا من كل حسابات الخارج وتعقيداته نتواضع أمام أهلنا؛ لأنهم سددوا أكبر الأثمان وأغلاها، ولأننا كنا حكومتهم المعنية بأمانهم، لا تضييعم أو المقامرة بهم وبالقطاع والقضية.
جملة لن تقولها حماس؛ لأنها لا تجد نفسها ملزمة أمام بيئتها من الأساس، وتتموضع على هامة فلسطين وفوق شواغلها الوجودية. وهذا تحديدا أكثر ما يقلق بشأن ترتيبات خطة ترامب ومراحلها اللاحقة؛ إذ لا يُعرَف كيف يفكر الرجل، ولا إلى أية درجة من المناكفة سيحتفظ بمرونتها، أو عند أية نقطة قد ينقلب على التعهدات ويطلق يد حليفه المجنون.
وفى غياب المعرفة بهامش الحركة الأمريكى؛ لا بديل عن الوضوح المطلق على الجبهة الفلسطينية، بما لا يمنع الضغط والمساومة قطعا؛ ولكن على شرط التحلى بالليونة الكاملة، والقدرة على قراءة الإشارات فى وقتها، والتعاطى معها بأنسب الطرق التى لا تُبدد ما تحقق بالفعل على محورى وقف الحرب وإلغاء هدف التهجير، ولا تهدد بتشديد الشروط وتضييق خناقها فيما سيتبقى من إجراءات تتعلق بها مآلات غزة، ولا يضير إسرائيل أن تتجمد أو تتباطأ.
أشرت فى مقال سابق إلى أن الخطة بُنِيَت لإلصاق ظهر الفصائل بالحائط، بمعنى استخلاص الرهائن بما لا يُبقى لها شيئا تفاوض عليه، ومن بعدها ستكون عودة الحرب مساوية لتثبيت توازنات الميدان الراهنة؛ لأنها تعنى أن الحركة ستظل عاجزة عن تغيير المعادلات بالقوة، مع وقوفها عقبة فى طويق تغييرها بالسياسة، فيما يُسيطر الاحتلال على أكثر من نصف القطاع، وفى أقصى تراجعاته سيحتفظ بشريط حدودى يقتطع ما لا يقل عن 20 كيلو مترا من مساحته.
وبعدها تصبح مسألة الإعمار والأمن رهينة توافقات إقليمية ودولية، بعدما ينتقل الصراع من صورته الثنائية، إلى شراكة تقف فيها حماس فى وجه أصدقائها والعالم. وهذا أفضل ما كان يُمكن التوصل إليه؛ لكنه يظل نتاج الطوفان بالأساس، وما بعده من إدارة غير كفؤة لمنازلة غير متكافئة طيلة العامين الماضيين.
أجادت مصر فى اختيار شرم الشيخ؛ ولعلّها ذهبت لهذا عن قراءة مُسبقة للظرف، ورغبة فى أن تكون مدينة السلام حاضنة القمّة المُرتقبة لتوقيع الاتفاق، بما تختزنه من دلالات عميقة؛ كونها هى نفسها واحدة من ثمار السلام.
وحلول الرئيس ترامب يتّصل بأنها خطّته طبعًا؛ لكن دعوة الرئيس السيسى له قبل الإعلان عن التوصّل للصفقة؛ إنما كانت تنبع من رؤية تتقصّد توفير الضمانة الأمريكية جسدًا ورمزًا، وهو ما يمتدّ إلى بقيّة المدعوين؛ لتوسيع حزام الضامنين لوقف الحرب شرقا وغربًا.
نجحت مصر بالصبر والمُثابرة، وانتصرت غزّة الجريحة على إسرائيل وحماس معًا، وما انكسرت القضية ولو بدت آمال الدولة أبعد من السابق. الأولى ربحت فى التكتيك وخسرت فى الاستراتيجية، وتضرّرت على صعيد الصورة والمكانة والعزلة الدولية، والثانية هُزِمَت لكنها ما تزال واقفة على قدميها، ويجب أن يكون وقوفها عونًا لفلسطين على تجاوز محنتها، وليس عقبةً فى طريق انتشالها من وهدة الضياع.
كل الاحتمالات واردة؛ لكن الغالب أن ترامب لن يسمح لنتنياهو باستئناف الحرب، وقد انقضت ذريعة الرهائن وفقدت صلاحيتها.
أما مسألة السلاح ففارق التجميد فيها عن النزع ضئيل عمليًّا، ولو ظّل مهما على صعيد الرمزيّة، وما بعد تفعيل الصيغة الأمنية الجديدة لن يكون كما قبلها، وسيُعجز الاحتلال والفصائل عن خرج الجدار الإقليمى والدولى العريض، الذى اتّسع بلقاء الرئيس الأمريكى ثمانى دول عربية وإسلامية على هامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة فى الشهر الماضى، وتُوسّعه مصر باستجلاب نُخبة من العواصم الكبرى بين حضور توقيع الاتفاق وضامنى إنفاذه بالكامل فى خطوطه العريضة؛ وإن أُخضِعَت التفاصيل لشىء من الضبط والتحرير.
الحركة مدعوّة للفهم وإحسان التصرف، وأن تلوذ بالتنحى المحسوب بديلاً عن البروز المُستفز أو المُعطّل. نجاح الصفقة يُعيد غزة لأقل مِمّا قبل الطوفان؛ لكن فشلها يُبقيها فى الجحيم، ولا فارق أن يكون نارًا متأججة أو يكون بردًا زمهريرا.
ومع الارتياح البارد لموسم المٌساءلة الذى ينتظر نتنياهو؛ فإن حماس على موعدٍ مع ما يُشبهه. وإذا كان يُلام على تقويتها لسنواتٍ طوال، فإنها تُلام على المُهادنة فالصدام وخطأ إدارته.
المهم ألّا تُستَدرج لفخّ الاستعراض وتصريف فائض القوّة الكسيرة على ضعفاء غزة؛ فإذا فُهِم تشدُّدها مع العدو الجانى لأى باعث وطنى أو أيديولوجى؛ فلا يُفهَم إتيانه مع الضحايا.
الاعتذار مَنجى، وبلسمة الجراح واجب، وإخلاص الوجه للمنكوبين يفرضُ اجتراح الخيارات الصعبة؛ ولو انطوت على تضحية بالذات والمصالح الخاصة.
ترامب لديه ثلاث سنوات، وخلالها قد لا يكون نتنياهو موجودا. إنما الرهان على تقطيع الوقت قد يُهدد بتسييل الخُطة زمانًا ومكانًا، وتذويب الإيجابيات فى السلبيات. يجب الدفع نحو تفعيلها كاملة، وبآجال مُحدّدة، وانتهاز فرصة اللحظة المواتية أمريكيًّا لتصويب ما قد يتعذّر لاحقًا، لا سيما أن أربعة أخماس الإسرائيليين يرفضون فكرة الدولة الفلسطينية، ولا يُعارضون الإبادة وقضم الأرض وإعادة هندستها ديموغرافيا.
والأهم التخلّى عن دعايات إحياء القضية وإيقاد ضمير العالم؛ إذ لم تُولَد فلسطين مع حماس، ولن تموت بدونها، الصراع اختُزِل من وجهه السياسى ليصير مسألة إنسانية، والعالم كان يعرف قبل الطوفان، وتعاطفه ينصرف إلى العُزّل والأطفال، ومن طبعه أنه يبرُد سريعًا، وقد لا نجد له أثرًا فى الأسابيع المُقبلة.
قمة شرم الشيخ فاتحة إنقاذ غزة، وفرصة لانتشال القضية بكاملها لو أُحسِن استغلالها. التجاوب مع ترامب تحت صفة "صانع السلام" سيُلزمه بما كان مُتحرّرًا منه، ولو عبرت القضية تلك المرحلة الصعبة وشديدة اليمينية من دون تهجير أو ضمّ للضفة الغربية؛ فقد ربحت الكثير، أو بالحد الأدنى تجنّبت ما لا طاقة لها به من خسائر كاسرة.
قد يرى البعض التسوية هشّة نسبيًّا؛ لكنها ليست هشاشة التدرج المرحلى، إنما الصدقيّة التى لم تُختبَر بعُمق بحد، وتحتاج مزيدًا من البحث والنقاش لبناء الثقة، وترويض خيالات الصهيونية المُنفلتة، بالتوازى مع إنزال الفصائل على أرض الواقع؛ لترى المأساة بعيدًا من فوائض التعبئة والشعارات.
تجمع مصر العالم للاحتفال، وتضعه أمام مسؤولياته أيضًا؛ أما أعلامها المُهيمنة على فضاء غزّة؛ ففيها الردّ الشافى على كل ما قِيل سابقًا، واستباقيًّا على ما سيُقال؛ لو لا قدّر الله أفلح الساعون لإفساد القفزة الواسعة إلى الأمام/ الأمان.
اتفاق شرم الشيخ فرصة لإعفاء القضية من كُلفة المُغامرات، وقمّتها حُجّة على المُتحاربين والضامنين سواء بسواء. وقد أقلع القطار من سيناء، على مرمى حجر من ميدان الصراع؛ وواجب الجميع أن يتكاتفوا فى حراسته حتى المحطّة الأخير.