للّه قوم بحفظ الدين قد قاموا
وبالعلومِ ونشرِ الفضلِ قد هاموا
راموا العلا فسعوا فى كلِّ مكرمةٍ
حتى أتموا بفضل الله ما راموا
وخيرُ مطعمِهم علمٌ ومعرفةٌ
وعن لذيذ الغذاء الكل قد صاموا
ما أجمل هذا الابتهال للشيخ محمد الطوخى الذى كان يذاع عبر إذاعة القرآن الكريم وخاصة مساء كل سبت فى برنامج "سيرة ومسيرة"! كان هذا الابتهال حافزا ودافعا ليعمل الإنسان بجد واجتهاد، ويسعى إلى أن يكون فى مكانة عالية.
ومع الأيام والاطلاع والبحث عرفت أن هذا الابتهال ما هو إلا قصيدة للشيخ أحمد الحملاوى فى مدح الإمام الشافعى رضى الله عنه، والقصيدة من الشعر المطبوع الذى لا تكلف فيه ولا صنعة، فهى دفقة خرجت من أعماق الشاعر، ويستلذ القارئ بحفظها وبالاستشهاد بأبياتها، وكأنك أمام المتنبى أو أبى العلاء المعرى، فانظر مثلا إلى هذا البيت:
لا فخر إلا لأهل العلم إذ بهم
بين الورى ثبتت للشرع أقدام
فلا يفخر أحد بماله أو نسبه أو وظيفته، إنما الفخر لذوى العلم، ثم يبين بعد ذلك لماذا يستحقون هذا الفخر، واستخدم أسلوب القصر للدلالة على أن الفخر مقرون بالعلم.
لم أعرف الشيخ أحمد الحملاوى إلا من خلال كتابه "شذا العرف فى فن الصرف"، وهو من أروع الكتب فى علم الصرف؛ لإيجازه وعرضه القواعد دون تعريج على الخلافات بين النحاة، وكلمة "الشذا" تعنى قوة الرائحة، أما "العَرْف" فهو الرائحة الطيبة، هكذا كان يفسرها أستاذنا المرحوم دكتور محمد على سلامة الذى عرضت عليه الكتاب، وقد أخبرنى – رحمه الله- أنه ينتسب إلى قريتى "ميت حمل"، ثم ذكر لى بعض المعلومات عنه.
تكاد تكون المعلومات الوافية عن حياة الشيخ أحمد الحملاوى شحيحة، وترجم له على باشا مبارك فى خططه التوفيقية ترجمة مقتضبة، وقد يكون هذا راجعا إلى أن شيخنا لم يبزغ نجمه بعدُ، فقد كان شابا؛ إذ انتهى على مبارك من خططه سنة 1889، والشيخ الحملاوى كان فى الثالثة والثلاثين من عمره، ويعنى هذا أن على مبارك قد سمع عن شيخنا وعن نبوغه قبل أن يصل إلى تلك السن، فمن الجائز أنه ترجم له وكان شيخنا فى عمر الثلاثين، تحتها بقليل أو تجاوزها بقليل أيضا، وربما ترجم له نظرا لالتحاقه بمدرسة دار العلوم، وهذا ما لا أرجحه؛ فمن الصعب أن يكون الالتحاق بدار العلوم سببا كافيا للترجمة عن الشخص، وإنما يكون التفوق والنبوغ والإشادة والثناء الحسن من دواعى أسباب الترجمة.
ترجم له أيضا الزركلى فى الجزء الأول من الأعلام تحت عنوان "الحملاوى"، كما ترجم له عمر رضا كحالة فى "معجم المؤلفين"، كما تُرجم له فى "تقويم دار العلوم" وهى ترجمة ملمة بشىءٍ من حياته، وسأنقل بعضًا منها فى نهاية المقال.
تعد مقدمة المحقق الثبت "مصطفى السقا"، الأستاذ بجامعة القاهرة، لكتابه الأشهر "شذا العرف فى فن الصرف"، هى الترجمة الوافية لحياة شيخنا الحملاوى، ومن هذه المقدمة اعتمد عليها كل من تعرض لحياة الشيخ، وكل من نشر كتبه وخاصة الشذا، ولا غرو فى ذلك، فقد كان الأستاذ السقا تلميذا من تلامذته، وفيًّا له، فكتب سيرته وأنصفه وأعطاه ما يستحقه من إشادة وثناء.
ولد الشيخ أحمد الحملاوى فى قرية تسمى "منية حمل" التى تعرف الآن باسم "ميت حمل" بمركز بلبيس، وذلك فى سنة 1856 م، واسمه: أحمد بن محمد بن أحمد الحملاوى. وقد صرح الشيخ الحملاوى بأنه ينتمى إلى السلالة العلوية، فقال فى مطلع قصيدة:
حاشى أضام ولى بالمصطفى نسبُ
نعم الحبيب ونعم الجاه والحسبُ
ومن ذلك أيضا هذان البيتان:
على أعتابكم ألقيت حملى
فأضحت لى كرامتكم أنيسه
وكيف يضام محسوبٌ عليكم
أنى لرحاب سيدتى نفيسه
ذكر على مبارك أنه قد "تربى فى حجر والده، وقرأ القرآن بها، وقدم إلى الأزهر فحفظ المتون وجود القرآن الشريف، وتلقى كثيرا من العلوم الشرعية والأدبية عن أفاضل عصره، ثم دخل مدرسة دار العلوم، وتلقى الفنون المقررة قراءتها فيها"، هذا هو كل ما أثبته عنه على مبارك فى الجزء التاسع من موسوعته.
أما عن قرية "ميت حمل" فتقع غرب مدينة بلبيس، وكان بها جامع عتيق بناه الظاهر بيبرس وسط القرية، ويعرف باسم الجامع الكبير، وقد صليت فيه مرارا وتكرارا وأنا صغير، وكان آية فى البناء محكم الوضع كما يقول على مبارك فى الجزء التاسع، لكنه للأسف هدمته وزارة الأوقاف، ولم يتبق منه إلا اسمه فقط، ولم نستطع أن نحافظ عليه كمعلم من معالم القرية، فلم تبال وزارة الآثار به، كما بها عدة أضرحة لأولياء الله الصالحين منها ضريح الشيخ سيدى على الغيطى، وضريح الشيخ محمد السقيم، وضريخ الشيخ محمد أبى شريفة. وفى الجزء السادس عشر من الخطط التوفيقية نجد أن القرية فى القرن التاسع عشر كانت تكثر بها الجنائن والنخيل والأشجار، وحرصت على إثبات المصدر بالتحديد؛ لأننى لم أرَ منذ صغرى هذه الجناين والنخيل والأشجار التى ذكرها على مبارك.
استطاع الشيخ الحملاوى أن يحصل على إجازة التدريس من دار العلوم سنة (1888)، كما نال شهادة "العالمية" من جامعة الأزهر الشريف بعدها بعشر سنوات، وهو بذلك أول من جمع بين "العالمية" وإجازة دار العلوم، واشتغل فترة بالمحاماة فى المحاكم الشرعية.
والمتتبع لحياة الشيخ الحملاوى سيكتشف أنه رجل خُلِق للعلم وعاش له، فهو دائما مطلبه الذى يبتغيه، ويؤكد أن على الإنسان أن يفخر بعلمه وليس بالجاه أو المال، وتجد هذا منتشرا فى كثير من أشعاره، ومن ذلك قوله:
الفخر بالعلم لا بالجاه والمال
والمجدُ بالجدِّ لا بالجَدِّ والخالِ
فى المال والجاه أسباب الغرور ومن
يعتز بالأهل كالمُغترِّ بالآل
ولكنَّ العلم لا ينفك صاحبه
مُعَظَّم القدْر في حلٍّ وترحالِ
ومن أجل حبه للعلم، لم يكتف بشهادة واحدة قط، فكان يكفيه مثلا حفظ القرآن الكريم فى صغره، لكنه شد الرحال إلى الأزهر الشريف مع والده، والتمس العلم هناك، ثم التحق بدار العلوم، ونال إجازة التدريس منها، واشتغل معلما فى المدارس الابتدائية التابعة لوزارة المعارف، ثم ترك التدريس وعمل محاميا فى المحاكم الشرعية كما قلنا من قبل، ولم يقف عند هذا الحد؛ بل سعى لنيل شهادة "العالمية" من الأزهر الشريف ونالها، ثم أسند إليه الأزهر مهام تدريس التاريخ والرياضيات لطلابه.
ونظرا لجمعه بين مناهج دار العلوم الحديثة ومناهج الأزهر التقليدية، أسندت إليه نظارة مدرسة عثمان باشا ماهر، وهى مدرسة تؤهل الملتحقون بها لدار العلوم، أو مدرسة القضاء الشرعى، أو الأزهر، واستمر ناظرا للمدرسة ربع قرن، أسدى خدمة جليلة للجيل الذى تولى المهمة بعد ذلك، ومات رحمه الله فى 26 يوليو 1932.
وصف الأستاذ مصطفى السقا الشيخ الحملاوى، فقال:"كان ذا بسطة فى الجسم، ووجاهة ووسامة فى الهيئة والوجه، مع حسن ذوق واعتناء بالزى، فكانت رؤيته تملأ العين جلالة، والنفس مهابة، ومنح قوة في الصوت واللسان، فكان حسن الإعراب والبيان، يحرص على العربية دائما، لا يشوب كلامه شائبة من عامية أو لكنة، أو عى أو حصر، وإنما ينساب حديثه فى النفس انسياب النهر المتدفق فى رزانة ووقار، وكان حسن العرض للكلام، جيّد الإنشاد للشعر، لا يمل حديثه وإن طال، ولا يسأم إنشاده وإن بلغت قصائده المئتين من الأبيات فى بعض الأحيان".
وتؤكد صورة الشيخ أنه فعلا بهذه الصفات الذى ذكرها الأستاذ السقا، من القسامة والوسامة والبسطة فى الجسم مع اهتمام بالزى، فكان حقا يملأ النفس مهابة.
ألمَّ الشيخ بجميع علوم عصره، وذلك راجع إلى دراسته بالأزهر، والتحاقه بدار العلوم، ومن ثم كان على دراية تامة بعلوم الدين من تفسير وحديث وفقه، وبعلوم اللسان من لغة ونحو وصرف وبلاغة، وبالمعارف التى اكتسبها من دار العلوم، من الرياضيات التى درسها للطلاب، والتاريخ والجغرافيا والخطابة..
يذكر الأستاذ مصطفى السقا أن "النحو والصرف واللغة والشعر الميدان المحبب إليه، يجول فيها فيتمتع ويتتبع أقوال الأوائل والأواخر، فلا يكتفى ولا يشبع. ويظهر لى أنه كان معجبا بابن هشام الأنصارى من النحاة المصريين (708 - 761هـ) وبما جمع شرحه لألفية ابن مالك الموسوم "بأوضح المسالك، إلى ألفية ابن مالك".
أما عن مؤلفاته فهى ليست كثيرة، وقد يرجع ذلك إلى أنه من رجال ذلك الزمن الذين آثروا الإصلاح والتعليم وتخريج الأجيال، فلم يكونوا مشغولين بتأليف الكتب، وإنما كل ما تبقى منهم هو محاضرات أو مقالات ثم جمعت بعد ذلك، مثل الشيخ عبدالعزيز جاويش وأحمد لطفى السيد وغيرهما.
على أن للشيخ الحملاوى عددا من المؤلفات، وهى: "شذا العرف فى فن الصرف"، و"زهر الربيع فى المعانى والبيان والبديع"، و"مَورِد الصَّفا فى سيرة المصطفى"، و"قواعد التأييد فى عقائد التوحيد" هذا الكتاب هو رسالة صغيرة، ذكر فى مقدمتها أن شيخ الأزهر على الببلاوى هو من كلفه بوضعها فى علم التوحيد، و"ديوان شعر".
ولكتابه "شذا العرف فى فن الصرف" شهرة واسعة كما قلت، وقد ظهرت الطبعة الأولى منه فى عام 1894، وهو يمتاز بالخلاصة دون الدخول فى تفاصيل علم الصرف، ويبتعد عن جدل النحاة والاختلافات بين البصريين والكوفيين ما يرهق الطلاب والمتلقين. وهو إن كان صغير الحجم لكنه جم الفوائد نظرا لكونه مركزا ومكثفا بالمعلومات، وقد سد ثغرة كبيرة فى المكتبة النحوية، فأغلب الكتب والمؤلفات فى هذا المجال تتعرض للنحو، وقليلة هى الكتب التى تتناول علم الصرف. وأدى هذا الكتاب خدمة جليلة لكثير من الأجيال، ومازال يطبع مرارا وتكرارا داخل مصر وخارجها، ومن هذا المنطلق أنقل ما قالته مجلة الهلال سنة 1954 بحق هذا الكتاب، وقد طبعته مكتبة مصطفى البابى الحلبى، وقدم لهذه الطبعة الأستاذ مصطفى السقا، وهى الطبعة العاشرة له آنذاك، فقالت المجلة:"ولهذا الكتاب فضل كبير على الذين تعلموا علم الصرف فى الخمسين سنة الأخيرة؛ إذ كانت الكتب التى تناولت هذا العلم مؤلفة على الطريقة القديمة التى يصعب تناولها فجاء الشيخ الحملاوى وألف هذا الكتاب بأسلوب جديد، فأصبح هذا العلم فى متناول الجيل الجديد، ويسَّر للمتعلمين كل صعب، بل فتح فتحا جديدا فى هذا العلم الدقيق الذى يحتاج إلى عناية في التحصيل. فكان للأستاذ الحملاوى الفضل الكبير فى تقريب قواعده وتيسير أبوابه. ولقد تخرج على هذا الكتاب طوائف عديدة من أبناء اللغة العربية فى الأزهر ودار العلوم وسائر المعاهد العربية فى الشرق".
وللشيخ تلاميذ أكملوا المسيرة بعده، وله من دار العلوم تلاميذ أمثال الشيخ عبدالعزيز جاويش وهو من أبرز رجال الحركة الوطنية بمصر فى النصف الأول من القرن العشرين، وله أثر كبير فى حياة طه حسين.
ومن تلاميذه أيضا محمد عاطف بركات باشا الذى كان له أكبر الأثر فى حياة أحمد أمين، ومحمد الخضرى بك الذى ورد اسمه فى كتاب الأيام لطه حسين، وحسن منصور أحد أساتذة دار العلوم وصديق الشيخ عبدالعزيز جاويش، والشيخ الجليل أحمد الإسكندرى الذى كان من الرعيل الأول لمجمع اللغة العربية.
أما تلاميذه من مدرسة عثمان ماهر باشا فكانوا أعلاما أيضا، ومنهم: أمين الخولى، ومصطفى السقا، ومهدى علام، وغيرهم.
لمحات من حياة الشيخ:
1- تخرج الشيخ سنة 1888 فى دار العلوم، وعيِّن مدرسا بمدرسة المبتديان الناصرية الابتدائية، ورقى إلى مدرسة المنصورة الثانوية، ودخل مسابقة دار العلوم لاختيار أستاذ للغة العربية بها، وكان أول الفائزين.
2- ترك وزارة المعارف سنة 1898، وعمل بالمحاماة، والتحق بالأزهر الشريف ونال شهادة العالمية، ولعله أول أستاذ نال الشهادتين: دار العلوم، والأزهر الشريف. واشتغل بالتدريس بالأزهر، وكان أول من فكر فى بعث قسم الوعظ والإرشاد.
3- أسندت إليه نظارة مدرسة عثمان ماهر باشا فى سنة 1902، ولبث بها خمسة وعشرين عاما، حيث تركها سنة 1928 طلبا للراحة.
4- توفى فى السادس والعشرين من شهر يوليو سنة 1932، أى فى المدة بين وفاة الشاعرين الكبيرين حافظ إبراهيم وأحمد شوقى.
حسين السيد يكتب: الشيخ أحمد الحملاوى .. ابن قرية ميت حمل
السبت، 11 أكتوبر 2025 07:00 م
أحمد الحملاوي