حازم حسين

ثيوقراطية تتخفى فى مصافحة.. إشارات موجبة للقلق فى مشهد الجولانى وبيربوك

الإثنين، 06 يناير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

توقَّف كثيرون أمام مشهد الجولانى وأنالينا بيربوك. الوزيرةُ الألمانيَّةُ وصلت دمشق مع نظيرها الفرنسىِّ جان نويل بارو، مُوفَدَيْن عن الاتحاد الأوروبىِّ، ولم يُصافحْها قائدُ الشام الجديد، لمحاذير أخلاقيَّة على ما يبدو.


ومن جانبِها، حسمَتْ الوزيرةُ حالةَ الجدل سريعًا، بتأكيد أنها لم تَكُن تتوقَّعُ المُصافحةَ من الإدارة الانتقاليَّة كعادة تلك اللقاءات الدبلوماسيَّة، مُشدِّدة على أنهم سيُواصلون دعم البلاد، إذا تحرَّكت نحو مستقبلٍ سِلمىٍّ مُنفتح، لكنهم لن يدعموا أىَّ اتجاهٍ نحو الأسلمة.


يبدو الأمرُ شَكلانيًّا للغاية، وقد ينظرُ البعضُ لإثارته أو الإطناب فيه على أنهما من قَبيل التزَيُّد، وتغليب المظهر على الجوهر، والحقّ أنَّ المسألةَ مُركَّبةٌ تركيبًا عميقًا، وليس من السهل حَسمُها بعبارةٍ من قاموس الاستهجان أو بالتلطِّى وراء الحرية الشخصية.


لا يُمكنُ استبعاد الذات الفرديَّة تمامًا فى سياق المسؤولية العامة، كما لا يُمكن اختزالُ علاقات الدُّوَل فى الصيغة البائسة لرجلٍ أُصولىٍّ مع امرأةٍ أجنبيَّةٍ سافرة.


يحقُّ للجولانى من دون شَكٍّ أن يُدير علاقاته بالطريقة المُريحة له، وكما يتوافقُ مع مُعتقداته الخاصة، إنما يليقُ بسوريا أيضًا أن تكون بلدًا طبيعيًّا، وأن تتعامل مع الآخرين بانفتاحٍ كامل، ومن دون حساسيات تحتكمُ لأُمورٍ فوق سياسيَّة، وقد تضرُّ الدولة فى كيانها الاعتبارىِّ، بأكثر مِمَّا تفيدُ المُنتدَبين عنها فى صِفاتِهم الشخصية، أى أنَّ للمُوظَّف العمومىِّ أن يصكَّ معاييرَه كيفما أراد، وللوظيفة مُقتضياتها أيضًا، ولا ينبغى الخلطُ بينهما، ولا أن يتكبَّد أحدُهما أعباء الآخر، لو كانت تفوقُ طاقتَه وقُدرتَه على الاحتمال والمُواءمة.


لقد اختار أنْ يكون فى موقعه الراهن، ولم يَفرِضْه عليه أحد، وهو يُقدِّم نفسَه حاكمًا لا شيخَ جامعٍ، بإمكانه أن يعيش حياةً خاصة عاليةَ الأسوار لو أراد، وعليه أن يستوفى شروطَ الاعتماد والأهليّة للمهمَّة المدنيّة، طالما أنه راغبٌ فيها أو طامعٌ فيما تُوفِّره من مزايا.


المسافةُ بين الجولانى والشرع قد تكون قصيرةً للغاية، فكلاهما نفسُ الشخص فى النهاية، والتغيُّر ربما لا يتجاوز الإطارَ الظاهر فى الملبس والهيئة ولغة الخطاب، أمَّا المَرجعيَّةُ العميقة فالمُؤكَّد أنها لم تتبدَّل بين يومٍ وليلة، وقد لا تتبدَّل أبدًا.
والحال أنَّ استبدالَ الاسم لم يُنجِز وظيفتَه المطلوبة، إذ كان الواجب أن يصير عنوانًا على القطيعة الكاملة مع السياق الميليشاوىِّ السابق بعُنفِه وتطرُّفه، واقترابًا حثيثًا من الدولة بمنطقِها وأُصولها المرعيّة، وإلى اللحظة لا يبدو أنَّ الخطوة كانت أكثر من قفزةٍ فى المكان، بغَرض نَفض الميراث الثقيل عن كاهله، والتهرُّب من الوَصْم بالإرهاب والإدانة على الماضى، ولم تَكُن تعبيرًا عن خلاصٍ حقيقىٍّ من صُورتِه القديمة، ودخولٍ جادٍّ فى السياق الجديد، بما يُرتِّبه من مهامّ والتزامات.


يصلحُ الموقف على ضآلته الظاهرة لإثارة قضايا أكبر، تخصُّ حدودَ الوَصل والانقطاع بين الدُّوَل وقياداتها، وهل تصطبغ الأنظمةُ بهُويّات عناصرها، أم تصبغُهم بألوانها النابعة من تركيبة البلدان وتاريخها وتطلُّعاتها: الدولة مُقابل الجماعة، والمَأسَسةُ فى مُواجهة الشموليَّة والفردانيَّة، وتديين المجال العام أو تمدينه، والأهمّ حدود الباقى والعارض، وما يظل مُستقرًّا فى الإدارة، إزاء ما يتبدَّل بإحلال أشخاصٍ بدلاً عن آخرين.


المُنازعةُ مع الحقبة البَعثيَّة بُنِيَت على حاجاتٍ ضرورية، وعلى مظالم عميقةٍ تخصُّ الحقوقَ والحريات وغيرهما من أساسيَّات المُواطَنة القويمة الصالحة، إنما جوهر الصراعات كُلِّها أنَّ النظامَ اختزلَ الدولةَ فى صورته، وحوَّل الشامَ من جغرافيا راسخةٍ ولها ذاكرةٌ عريضةُ الطَّيف، إلى ظلٍّ خافتٍ تحبسه الأَبديَّةُ الأَسَديَّة، ولا يكتسبُ معناه إلَّا من لسانَى حافظ وبشّار.


ليست القضيَّة أن تكون مَدنيًّا أو أُصوليًّا بقَدر ما أن تكون قادرًا على استيعاب أنَّ العالم لا يبدأ من قناعاتك، ولا ينتهى عند رغباتك الخاصة، وأنه مَهما كُنتَ مُخلِصًا وأمينًا، فلن تكون أكثر من فاصلٍ عابر فى الزمن الوطنىِّ الطويل، وعليك أن تنسجِمَ مع مُقتضياته، لا أن تُطوِّعَه بما يُناسب تصوّراتك، أو تقمعَه عن الحركة على إيقاع الحياة.


سوريا بإمكانها أن تُصافِحَ النساء، بل عليها أن تفعل، وهذا ليس من باب الوقوف على سفاسف الأُمور، أو تبسيط الموضوعات الكُبرى وابتسارِها فى مُشاجراتٍ صغيرة. الجولانى وبيربوك صورتان عن بَلدَين يسعيان لبناء علاقةٍ جديدة، والهاجسُ الجنسىُّ الذى يمنعُ الرجلَ من المُبادرة بمَدّ يده، إنما يُعبِّر فى عُمقِه عن رفضٍ للمنظومة الثقافية التى أوفَدَت المرأة، وعن خصومةٍ أكثر إزعاجًا مع النوع، أكان غربيًّا أم عربيًّا.


ما حدث مع السيدة الأوروبية سينسحِبُ بالضرورة على نظيرتها السورية، والمصافحةُ ذاتُها مُجرَّد تفصيلٍ عارض، إنما النظرُ للنساء جميعًا باعتبارهن فِتنةً مُتأجِّجةً، يُثيرُ الهواجسَ بالضرورة فيما يتَّصل بمستقبل العلاقات الاجتماعي، وإذا كانت الظروفُ الاضطراريَّةُ قد وضعته فى مواجهةِ المبعوثة الألمانيَّة، فلعلّه يُجفِّف كلَّ الفُرَص التى تسمح بتكرار المشهد داخليًّا.


ستكون المرأةُ على الهامش كما هى اليوم، إذ اختار واحدةً فقط لمهمَّةٍ مُؤطَّرةٍ بطابعٍ جِندَرى، ولم تتَّسع الحكومةُ الجديدة لغيرها من ذوات الكفاءة والاقتدار، سيتجنّب بالضرورة كلَّ المسارات المُؤدِّية إلى المُصافحات، أو إلى أوضاعٍ طبيعيَّةٍ لمسؤول يجتمعُ مع معاونيه، بينما يُحرِّفُ المسألةَ فى وَعيِه من لقاء عملٍ، إلى خُلوةٍ غير شرعيَّة.


ومدارُ الانتقاد لا يُمكنُ إطلاقًا أن ينصرفَ إلى القناعات، له دِينُه كغيره من البشر، حتى لو كان يُصادرُ من الآخرين أديانَهم فى السابق أو اللاحق، إنما البحثُ فى مسألة الخَلطِ بين الدولة والفرد، وفى تعميم الاختيارات الذاتيّة على الكيان الاعتبارىِّ، بحيث يتَّخذ هيئةً لا تُناسِبُه بالكُلّية، كما لا تُعبِّر عنه فى أىِّ وجهٍ من الوجوه، حتى لو كان «الجولانى» مُنتخَبًا من الأغلبيَّة السورية، فليس له أن يتجاوز على ميراث البلد وتقاليده المُؤسَّسيّة، وعلى هُويَّته وسواء علاقاته مع العالم.


لكن لنَدَع الخلاف فى تلك النقطة إلى ما بعد الانتخابات، لأنه اليوم لا يُعبِّر عن الإرادة الشعبية أصلاً، بل عن ظرفٍ استثنائىٍّ وضعَه على رأس السلطة بقوّة السلاح، وغيَّب غابةَ الرُّؤى والأصوات الوطنيَّة لصالح تيَّارٍ وحيد، ومن الخطأ أن يتصرَّف الأخيرُ باعتباره حازَ الوطنَ من أطرافه، أو أنَّ له الحقَّ فى قَولبَتِه وتحديد مساراته فى السياسة والاجتماع.
وخطرُ الوضع القائم، أنه لن ينحصِرَ فى نطاق قَبض الذراع هُنا أو مُطالبةِ امرأةٍ بإرخاء طرحةٍ على شعرها هُناك، إذ لا ضمانةَ من أنَّ المرجعيَّة الحاكمةَ لتلك السفاسف، لن تمتدّ آثارُها عَمليًّا لغيرِها من الأُسس الركينة، أو لن تصير قاعدةً عامّة تُطَبَّق على مسائل الهيكلة السياسية الجديدة، من أوَّل الحوار والحكومة الانتقالية، وإلى الدستور وطبيعة النظام الانتخابىِّ، وتكافؤ المُرشَّحين المُستقبليين لدى القانون، وأمام الحاكم المؤقَّت من موقع الإشراف على إنتاج الأبنية الدائمة.
أطال «الجولانى» مُهلةَ الخروج من الاستثناء إلى الحياة الطبيعية لتصيرَ أربعَ سنوات، على ما قال فى حواره مع قناة العربية، والعِبرةُ ليست بمحطّة الوصول بعد الفاصل الطويل، بل بالمسار المُعتمَد على تلك الطريق الطويلة، وكيف تُدارُ يَوميَّاتُ الدولة والناس خلالها، والضمانات التى تَكفلُ للعوام ألَّا يكونوا عُراةً أمام السلطة، وتمنعُ الأخيرةَ من فَرض رُؤاها على المجموع، وتثبيتها بقوّة المُؤسَّسات الانتقاليّة التى تحتكرها، تمهيدًا لتأبيدِها بنصوصٍ تُسرَقُ بالمُخاتلة أو الانتقائيَّة والتسرُّب البطىء.


إنها مُباراة من دون قواعد، وحتى الملعب ليس مُحدَّدًا على وجه دقيق. سوريا مُقطَّعة من الشمال والجنوب، والراعى العثمانى يُملى على إدارتها، ومن ورائه رقابة أمريكية، وإملاء صهيونى على واشنطن نفسها، ومطلوب من الشعب الطالع زحفا من المأساة، أن يتصدَّى لكل هؤلاء، ويُنافح عن ثراء تركيبته، ويُحبط مخططات ابتلاعها، بينما لا دستور ولا قانون ولا مؤسَّسات طبيعية، وينفرد القائد باختيار شركائه على طاولة الحوار، ناقلاً إياها من صِفة الوطنية الكفؤة والمُجرَّدة، إلى حلبةٍ مُلاكمة أو تفاوضٍ بين حُكَّام ومحكومين.


سيمضى الشوامُ فى رحلةٍ فضفاضة للغاية، دون أُطُرٍ عريضة أو ركائز ثابتة، ودون ضمانات من أى نوعٍ، أو رعايةٍ جاهزة للرقابة وقادرة على التقويم. البلدُ سائلٌ كأنَّه نُطفةٌ تبحثُ عن الرَّحم التى ستُولَدُ منها، والقُوى المَدنيَّة هَشّةٌ ومُتشَظِّيةٌ وتنقسمُ على ذاتها: تُخدِّرها الأحلام الورديّة، وتُثقل خُطاها رواسب التنكيل الطويل.


نشوةُ الخلاص من النظام البائد تأخذُ الألباب، وطموحات المستقبل تُسوِّغ للبعض تمريرَ الحاضر على أيَّة صِفَةٍ كان، وفى مناخٍ كهذا يُمكنُ أن تتضخَّمَ البُثور الصغيرة لتصير أورامًا سرطانيّة ضخمةً، وتتثبَّتُ الهوامشُ التى يُمَنّى الناسُ أنفسَهم بتغييرها، بما يمنعُهم من مُقاربتِها أو النظر فيها لاحقًا.


أُخِذَت الجَرَّةُ بشَرخٍ فيها، وخُلِطَ قصدًا أو اعتباطًا بين الدولة والنظام، كما فعل البعثيِّون طوال تجربتهم البائسة، إذ فجأة مُسِحَتْ ذاكرةُ سوريا وتراثُها النظامىُّ، وأُبِيْدَت كلُّ التفاصيل بما كان عارضًا منها أو مُقيمًا. كأنَّ البلدَ يُولَدُ من الصفر، ولا يحملُ من ماضيه إلَّا مواجع الأسد، وبطولة الجولانى فى إطاحته.


وهكذا أُزيح بروتوكول الرئاسة فى جُملة الإطاحات، وما أُحِلَّ بديلٌ عنه، بالضبط كحال العَقْد الاجتماعىِّ والدستور والجيش والجهاز التنفيذىِّ والأحزاب والمجتمع المدنى، وكلّ الأُصول التى لا تتناسَبُ مع ثقافة الصاعدين الجُدد، وقد تكون عقبةً فى طريق مشروعهم الجديد، بالمُعلَن من قبل المُضمَر.


والقائدُ إذ تخلَّى مُؤخَّرًا عن لحيته الشعثاء، فقد استبقَها بخَلع العمامة والجلباب، وارتداء ملابس الحرب المُموَّهة لسنوات. يتحرُّكُ الرجل بين الثوابت الشَّكلانِيّة بخِفّةٍ يُحسَد عليها، حتى أنه صار يتشبَّه بالغرب الكافر فى زيّه وربطات عُنقه، ويتحدَّث فى تحكيم ما دون شرع الله، ويتقبَّلُ ولو نَظريًّا أن يَسوسَ الناسُ أنفُسَهم والعياذ بالله، ويُؤطِّروا نظامَهم كما شاءوا، وأن يتواضَعوا على نصوصٍ عُليا تحكمُ الحياة، وتُرتِّب حظوظ الظواهر كُلّها فى المجال العام، بما فيها الدين ذاته.. فعلامَ يَغلّ كفَّه عن امرأةٍ زائرة؟!


سيرةُ الجولانى تَنُمُّ عن شخصيَّةٍ براجماتيّة، بل ربما تقتربُ من الميكافيليَّة فى أردأ معانيها، ولعلّها التقيّة، لقد استبدلَ مُبايعة البغدادى ببَيعة الزرقاوى، ثمَّ خلعهما معًا لصالح الظواهرى، ثمَّ استقلّ بمشروعه الخاص من دون إمامٍ أصلاً. تبدَّل من الإرهاب للثورة، ومن الجهادية العالمية لحظيرة الوطن، وخاصمَ النظامَ على تبعيتِه للصفويَّة الشيعية، بينما كان يأكلُ على مائدة العثمانيَّة، وما زال.


أغلبُ الظنّ أنه ذاهبٌ إلى أىِّ خيارٍ يُبقيه فى الحُكم، وما يتحفَّظُ عليه الآن أقربُ للمُواءمة الظرفيَّة مع مُحيطه اللصيق. انطفأت الحربُ الأَهليَّةُ وما زال البلدُ مَشاعًا، ولا ظهيرَ للعبور الدائم نحو رأس السلطة، إلَّا من قناة هيئة تحرير الشام والميليشيات الرديفة. وعليه التزاماتٌ تجاه القواعد شديدة الأُصوليَّة والتطرُّف، ولكلِّ مقامٍ مقالٍ فى ميقاتٍ معلوم.


القصدُ، أنه ما زال عاريًا أمام الدولة، ويحتاج لعَونٍ وثيق من أجل بنائها على مزاجِه الشخصىِّ، أو بما يسمحُ بتثبيت دعائم مشروعه كما يتصوّره. سيكون عليه أن يُرضِى المُقاتلين إلى أن يُتَمِّمَ معمارَ النظام، ثمَّ يدفعهم إلى التقاعُد مُختارين أو مُضطرّين، ومعنويًّا أو ماديًّا: بالإطاحة الخشنة خارج المشهد، أو بالاستئناس والترويض الناعم فى المبادئ والأفكار. وما أراه شخصيًّا أنه يُمرِّرُ الوقت على الحُلفاء والمُناوئين، ويتلاعَبُ بكلِّ الأطراف، لأجل ابتلاعهم جميعًا عندما تحين الفرصة.


إنْ صَحَّتْ الانتهازيَّةُ فى حَقِّ الرجل، أو كان ينطلقُ من قناعاتٍ حقيقية راسخة، فكلاهما يُمهِّد لمرحلةٍ رماديَّة فى المواقف والخيارات، ويفتحُ الباب على احتمالاتٍ لا تقلُّ سوءًا عن بعضها، إلى أىِّ مدىً سيكون قادرًا على احتواء الصَّخَب الأُصولىِّ المُحيط به، وما حدود استيعابه للسياق الجديد وقدرته على التجاوب معه، وهل يُضطَرُّ لاستباق المراحل تغليبًا لحاضنةٍ على أُخرى، أم يصطدم بالحاضنتين فى لحظةٍ مُتزامنة.


ما تزالُ التناقضات خَفيَّةً تمامًا، وصورةُ الوزيرة الألمانية حدثٌ عابر، وتنقضى مفاعيلُه بانتهاء المُقابلة وصدور بيانها الإعلامىِّ. أمَّا الامتحانُ الصعب فيتأتَّى من داخل الورشة الوطنية، وعندما يلتئمُ الحوارُ، ويُصار إلى اشتباكٍ عميقٍ بين كلِّ المُكوِّنات، على ما يخصُّ الهُويَّة الجامعة، والمَرجعيَّات العُليا، ومسائل الولاية والقضاء وتمثيل النساء، وغيرها من الخلافيَّات.


ما إنْ تُثار عناوين المَدنيَّة وتحكيم الدستور سينتفضُ الأُصوليِّون، وكُلَّما سِيقَت أفكارُ الرجعيَّة إلى الطاولة ستتأجَّجُ البيئة العلمانية بطَبعِها، على معناها الأليف من تسامُحٍ وتعايُشٍ ومساواة كاملة بين الأديان والطوائف. ومهارةُ «الجولانى» وقتَها قد لا تُسعفه فى إقناع الطرفين، ولا فى انتشال بطاقة زعامته المأمولة من محرقة الصراعات الهُويَّاتية غير القابلة للحَسْم.


وإذا كان عبورُه من الإرهاب إلى السياسة قد احتاج لحربٍ أهليَّةٍ وثلاث عشرة سنة، وتركَه رغم المشوار الطويل وتكاليفه الباهظة أمامَ الرَّفض الاستعراضى لمُصافحةِ امرأةٍ أو التقاط صورةٍ مع غيرها، فإنَّ المدى الذى يحتاجُه لترميم تلك الشقوق ربما يفوقُ السنوات الأربع التى حدَّدَها للانتقال، ما يعنى أنه سيُنجِزُ الدستورَ بالعَقليَّة البائسة نفسِها، أو سيسعى لإرجائه إلى أن تكتمل خطّة التطويع، أكان لأتباعه أم للمجتمع بكامله.


الكوامنُ الفِكريَّةُ تظهرُ فى الفَروع أكثرَ من الأُصول، وثقافة الإسلاميين تُجيزُ لهم الكذب والاحتيال والمُداراة على مُسمَّى المعاريض، فإذا لم يَكُن «الجولانى» قادرًا فى وقتِه الراهن على المُجاهرة بما يُضمره لسوريا، وما يتصوَّرُه عن علاقة نظامِه المُنتَظَر بالإقليم والعالم، فإنَّ فى وِسعِه أن يُمارِسَ صيرورته الأخلاقيَّة ويُوطِّدَ العُهودَ مع السماء باللحية والمرأة والتجبُّر على الأقليَّات.


يُثبِّت قلوب الأتباع، أو يصون طُهرانيَّته العَقَديَّة، لكنه فى أحسن الظروف يعيشُ بأكثر من شخصيَّة، ويرقص على أحبالٍ مُتباعِدة.. وهو إذ يسعى لتسويق ذاتِه بمنطق الاحتياج والمواءمة، يبدو أنه يعيشُ صراعًا نفسيًّا خانقًا، حتى لَتَنفَلِتَ منه الإشاراتُ عن غير قصدٍ بين وقتٍ وآخر.


المصافحةُ ابنةُ سياقٍ فكرىٍّ مُغلَق على ذاتِه، ولا حاجةَ لتأويلها أو البحث عن دلالات لها على عين الحاضر، وفى مُتناولنا كامل المُدوَّنة المُنشئة لتلك التصوُّرات. إنها تعبيرٌ عن رفضٍ لحضور النساء فى المجال العام، وانتقاصٍ من إنسانيتهنّ، بما يترتَّبُ عليه من خصمٍ فى ميزان الأهليَّة والمُواطَنة.


وعناوين الولاء والبراء وأنه لا ولاية لكافرٍ على مُسلمٍ تتدفَّقُ كلُّها من مشكاةٍ واحدة، فكأنَّ تركيبةَ حكومة البشير اليومَ بمثابة البُشرى بمَا بعدها من حكوماتٍ، إذ لا دُرزىّ ولا مسيحىّ أو شيعىّ، مع تعقيدٍ مُضافٍ يُجنِّبُ الكُرد والتركمان وغيرهم لصالح عرب الداخل، وإخوة الدين من وراء الحدود، فكأنها طائفيَّةُ العَلَويِّين ممزوجةٌ بقوميَّة البَعث، بمقادير الأُمَميَّة الدينيّة، وداخل إناء الحَنبليَّة فى أشدِّ صُوَرِها انغلاقًا ونَفيًا للآخر.


السوريون يقظون قطعًا، ولن يُفرِّطوا فى أحلامهم ما استطاعوا لهذا سبيلاً، لكنهم كانوا الأضعف فى زمن البعث، وما زالوا ضُعفاء مع الجولانى، والرجل إنْ لم يَكُن أقلعَ عن أُصوليّته فعلاً، فإنَّ أحلامه لن تنسجم بالضرورة مع بيئته الواسعة.


لعلّه يطمحُ لإنتاج فردوسٍ دينىٍّ يُجسِّد أوهامَه عن الخلافة، عثمانيَّةً كانت أم بشعارٍ آخر. قد يتعثَّر قطعًا، لكنَّ نزواته لن تكون خفيفةَ الوطء، وستُكبِّد الشامَ تكاليف لا يحتملُها اليومَ أو فى مُستقبله القريب.


إنها الثيوقراطيّة التى تتخفَّى فى مُصافحةٍ عابرة، وتُخبَّئ إشاراتٍ يتعيَّن قراءتها على معنى الاستفاقة والمُراقبة، لا للتخوين أو التشغيب على مسار الانتقال، إنما لتفعيل المُضادّات المَدنيَّة بما يستدركُ على القيادة، ويُروِّض نزوعَها الرجعىِّ، ويُصعِّب عليها الابتلاع لو أرادته.


إنَّ بعضَ النار من مُستصغَر الشَّرَر، وقد بدأ الإخوان فى مصر من الانفتاح ومزاعم أنها «مُشاركة لا مُغالبة»، ثم أورثونا سنواتٍ من الإرهاب المُستطير، والخُمينى ثار على بطشٍ فأنتج أضعافَه، والحقبةُ الأفغانيَّةُ الحالية بدأت من مدرسةٍ، وآلت إلى سجنٍ كبير.


لا سوابقَ لتجارب أُصوليّةٍ نجحت فى الحُكم، وبين أن يَؤول لعلمانيَّةٍ تُشبه رُعاتَه فى الأناضول، أو يتجسَّد مُستقبلُه على حاضر هبة الله أخوند زاده وخامنئى وأشباههما، يبقى الحَسمُ مُعلَّقًا على ألَّا يُفوِّت الناسُ الإشارات مهما بدت صغيرةً، وألَّا يتهاونوا فى صدِّ الهجمات مهما تضاءلت.


كفُّ الجولانى التى غُلَّت قبل يومين مع وزيرةٍ زائرة، قد تمتدُّ لاحقًا لتأخُذَ البَيعةَ من الناس قهرًا، واستعجالُ القلق راهنًا قد يُجنِّب البلد «عقودَ الإذعان» لعقودٍ مُقبلة من عُمره المديد. قبل ثمانية قرون تقريبًا، وقعت دمشق فى قبضة المغول بخطأ نُخبتها، وقد أعدّوا خرائط المدينة لتيمور لنك، وأمَّنهم فصدّقوه، والثيوقراطيّةُ ناعمةٌ فى أوَّلها، لكنها فيما بعد تتوحَّش كالغُزاة الخارجيين وأكثر.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة