لم يكن أحمد عدوية حالة مصرية خالصة فقط وإنما تعبير عن حالة عالمية عامة لعالم ما بعد الحداثة واستحداث ثقافة جماهيرية جديدة متمردة على القيود والحدود الفنية والأخلاقية والجمالية ظهرت فيما بعد منتصف الستينيات أو نهايتها فى الولايات المتحدة الأمريكية والصين وفرنسا وأوروبا عموما، ومصر الدولة الأكثر تأثيرا فنيا فى المنطقة.
ففى أحداث مايو عام 1968 فى فرنسا أو ما يسمى بالثورة الثقافية، ظهر جيل جديد فى أوروبا أكثر جنوحا نحو المادة، ولم يجد كبار الفلاسفة والكتاب تفسيرا لما حدث، ووصفها البعض مثل الفيلسوف والروائى والمفكر والناقد الفرنسى أندريه مالرو، بأنها ثورة بلا سبب- كما يرصد الأديب المصرى رضا ناير فى مقال له- أنها ثورة الشباب اللا عقلانية، فقد كانت مهرجاناً شبه تمردى لأخلاقيات جديدة ضد العالم القديم، من أجل تغيير العادات والعلاقات العاطفية والحرية الفردية. وكما قال مالرو:"كانت تاريخاً نرقصه على أنغام موسيقى الروك، بوصفها ثورة ثقافية بالصلصة الغربية الناعمة، ثورة بروليتارية من دون بروليتاريين ولا ثورة، بوصفها مُنقذاً للمراهقين القادمين من ازدهار المواليد بعد الحرب العالمية الثانية، بوصفه واقع الموضة بين الشعر الطويل، والتنورات القصيرة (المينى جيب).
ومن هنا بدأت عملية التحرر من قيود وحدود الفن الأخلاقية والجمالية وتزايدت معدلات الإباحية والعنف، ثم جاوزتهما عملية التحرر، إذ أصبحت تحرراً من أى قيود أو معايير، حتى أن الفنان «أندى وارهول» الرسام الأمريكى المشهور، الذى كان يوقع فى منتصف الستينيات على علب القمامة وعلب الحساء القديمة، فتتحول بقدرة قادر إلى أعمال فنية تباع بآلاف الدولارات.
وبشَّرَ بولادة فن ديمقراطى جديد بوسعه أن يُذيب الجُدُر الغليظة بين الثقافة العليا وثقافة الجماهير. ما يدعو إليه ماير -وآخرون- هنا يُشير إلى تغير كلى فى مفهوم الفن وفى تصور الجَمال.
فى فيلم الكيف نشاهد الفنان الراحل محمود عبد العزيز يطلب من أحد الشعراء أن يكتب له كلمات لأغنية لينتجها، فلما وجدها أغنية جادة رفضها بشدة، طالباً منه أن يكتب له أغنية أخرى، لأن الناس لا تريد ذلك، وكانت تعليماته للشاعر قصيرة واضحة محددة: «أريد كلمات تافهة يا سيدى».
ويرى «وولتر أرمبرست» أستاذ الدراسات الشرق أوسطية الحديثة فى كلية سانت أنتونى بجامعة أكسفورد ومؤلف كتاب " الثقافة الجماهيرية والحداثة فى مصر"، أن ظهور أحمد عدوية يأتى فى إطار الحداثة، فالأغنية التى شهرته فى بداية السبعينيات كانت «السح الدح إمبو»، فعبارة «السح الدح» يستخدمها الأطفال فى الريف لدعوة الخراف للعراك، أمّا «إمبو» فيستخدمها الأطفال لطلب الماء، والأغنية لا علاقة لها لا بالماء، ولا بالخراف التى تتعارك. لذلك فإن عدوية توجه للجماهير بدون «إكسسوارات جذب» من تلك التى كانت تقدمها الأصوات المعتادة.
من هنا يرى الرسام الأمريكى روبرت راوشنبرج، أن عالم الفن الشعبى هو «عالم الفن المتسع»، فى حين يرى عالم الاجتماع الأمريكى الدكتور «دانيال بيل» أن انحلال سلطة الثقافة العليا فى الذوق الثقافى منذ الستينيات واستبدالها بالذوق العامي، لا يُمكن النظر إليه إلا بوصفه رمزاً للمتع الغبية فى الاستهلاك الرأسمالى -أو ما سمى فى مصر الانفتاح- ويقول هويسينز: لقد أصبح هذا اللون الآن هو المرادف لأسلوب الحياة الجديد للجيل الحالي؛ أى أسلوب الحياة الذى انقلب على السلطة، وأراد التحرُّر من معايير المجتمع، وكان من نتائج ذلك تسليع الفن وهو ما حاول الحداثيُّون تجنُّبه، ولكن ما بعد الحداثة استطاعت أن تمدَّ سلطة السوق على سلسلة طويلة من المنتجات الثقافية، ومن ضمنها الفن المشتمل على إنتاج تافه لا يهدف لشيء. وهو ما يشير إلى ما أصبح الآن يعرف بـ «أغانى المهرجانات».
فقد غدت الشركات الكبرى هى المُوجّه الرئيسى للفن بكل المقاييس، وليست معايير وقيم علم الجمال الذى كان أحد علوم الفلسفة، وخرج منها على يد الفلاسفة الوضعيين مثل المؤلف الموسيقى «ليونارد ماير» الذى أعلن نهاية عصر النهضة بميلاد فن جديد لا يهدف إلى شيء، سوى تجسيد عالم الآلة أو المادة، فيما غاب عالم الموسيقى الذى يقدم -والدين- تفسيراً لوجود الإنسان والكون، فالفن المنفصل عن القيمة مثل «السح الدح إمبو» يساوى الدين بلا أعباء أخلاقية، وذلك لأن الإنسان لم يعد مركز الكون، بينما أكّد الإسلام أنه مركز الكون.
وفى المسح الاجتماعى الذى أجراه المركز القومى للبحوث الاجتماعية نهاية الثمانينيات، يُقسِّم المؤرخ الموسيقى «فرج العنتري» الغناء فى السبعينيات إلى ثلاثة روافد رئيسية:
الرافد الأول يضم فئة «المتمسكين»، وهم أولئك الذين تمسكوا بالألحان العربية التراثية فى صورة من صور التمسك بالهوية التى تعرضت لشكل من أشكال التحلل مع نكسة 1967.، الرافد الثانى تعبر عنه الفئة التى صدمتها النكسة ولجأت إلى استلهام وسماع الألحان الغربية، تعبيراً عن حالة من حالات الاغتراب.، الرافد الثالث عبر عن اغترابه بدعم أغنيات عدوية والترويج لها.
ويرى الناقد الفنى سيد محمود، أن أحمد عدوية ظهر فى نهاية الستينيات فى وقت كانت جميع الظروف مهيأة لتمرد شامل على دولة الغناء السائدة ورموزها من أقطاب الأغنية العاطفية الكلاسيكية بموضوعاتها التقليدية، فى ظل ظروف هزيمة 1967.
وكان من الطبيعى أن يولد أكثر من رد فعل موسيقى على النكسة، فظهرت تجارب مع فرق الغناء الجماعى قدمها الراحل محمد نوح بغرض كسر نجومية الصوت الفرد. كما انتشرت فرق الفرانكو آراب مثل «البيتى شا»، و«البلاك كاتس»، وغيرها استجابة لتمرد شرائح الطبقة الوسطى العليا.
فى حين ولدت ظاهرة أخرى تمثل الثنائى الشهير أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، لتحظى بدعم معنوى واسع من قبل الطلاب والمثقفين. لكن اعتبارا من منتصف السبعينيات، أصبح أحمد عدوية، هو العنوان الأهم للغناء الشعبى غير الرسمى وهو غناء يختلف عما قدمه محمد عبدالمطلب ومحمد رشدى وغيرهما وكان له جمهور فى الشارع، لكنه لم يكن ممثلا فى وسائل الإعلام ويعانى من التهميش.
وقد حاول عدوية فى بداياته الالتحاق بالإذاعة، لكن لجانها رفضته بسبب محتوى أغنياته، التى كانت تعبر عن فئات جديدة نشأت فى ظل الانفتاح الاقتصادى ووجدت الكثير من فرص الصعود الاجتماعى رغم ضعف ثقافتها، ومن ثم فقد اعتمدته ممثلا لها بعد أن مست كلمات أغنياته طموحهم فى «بنت السلطان».
ولذلك ينظر بعض النقاد إلى عدوية كصوت مقاوم لأنظمة الاعتراف الرسمى، فهو لم يستمد نجاحه من الجهاز الرسمى «ماسبيرو» بل من سهولة انتشار صوته مع الوسيط الجديد الذى تزامن انتشاره مع ظهوره، وهو «شريط الكاسيت».
ويصف الناقد الموسيقى محمد قابيل، نجاح عدوية بأنه أول من ألقى حجرا على «مبنى ماسبيرو»، كما ساهم فى تأكيد حضور صناعة «الكاسيت».
والشاهد أن نجاحه مثل نقلة فى آليات الاعتراف بالصوت الغنائى فى مصر، فبعد أن كان «ميكروفون» الإذاعة وشاشات التليفزيون هما بوابة الشهرة لأى صوت، فإن نجاح عدوية حطم هذا اليقين وأصبحت شهرته مستمدة من منع إذاعة أغنياته، وبالتالى أوجد «شرعية المنع» التى استفادت منها الاصوات التى جاءت بعده.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة