حازم حسين

إصلاح بطىء وابتلاع مُتعجّل.. تفاعل سوريا السياسى بين تعديل المناهج وإرجاء الحوار

الأحد، 05 يناير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كان يُفترَضُ أن نُعاين أمسِ انطلاقَ الحوار الوطنىِّ السورى، وتكون تَتمَّةُ جولته الأُولى اليومَ؛ على ما صرَّحت مصادرُ من داخل الإدارة الجديدة أو وثيقة الصلة بها.

أُرجِئ الانطلاقُ أسبوعين تقريبًا بحسب بعض التخمينات، وتحدَّث مسؤولُ اللجنة التحضيرية لوسائل الإعلام، مُبرِّرًا الالتجاء لدعوة المُشاركين بصفاتِهم الفردية لا الكيانيَّة، وتجاوزَ التنظيمات السياسية والثورية فى الخارج، باعتبار حضورِها بالعناوين النظاميَّة ظُلمًا فادحًا للداخل، وقد حُرِمَ طويلاً من ترتيب صفوفه والانخراط فى فعاليَّات حركيَّة وأيديولوجيَّة مُتماسكة.

لكنَّ الرجُلَ لم يُقدِّم تصوُّرًا واضحًا عن آليَّة الاختيار، ولا طبيعة الورشة المُقترَحَة، وصيغة المَأسَسة المُعتمَدَة للطاولة الحوارية، وكيف تُستخلَصُ المُخرَجَات فيها، وبرنامج التعاطى لاحقًا مع تلك الإفادات، بالتفعيل أو التطوير. مُجرَّد أفكار وعناوين عريضة، وأطروحة نظريَّة خالية من أُطُرِ الضبط والتطبيق.

لم يُطلَبْ من الإدارة الانتقاليَّة مَوعدٌ مُحدَّد، ولا ألزمَها أحدٌ بصيغةٍ مُعيَّنة فى الشكل والمضمون. اقترَحَتْ بمُفردِها، ثمَّ تراجعت من تلقاء نفسِها أيضًا. والإرجاءُ يَنطوى على احتمالِ إخفاقها فى إقناع المُشاركين بما عرضَته عنوانًا وتنظيمًا، أو عجزِها عن تمريره من قناة الحُلفاء وشبكة الفصائل المُرتبطة بالسلطة الحالية.
وفى مناخِ السيولة الراهنة، لا يُنتَظَرُ أن يذهبَ الناسُ إلى الحوار باتِّفاقٍ مُسبَق؛ بل إنه ينبعُ أصلاً من فكرة الاختلاف، ومهمَّته الأُولَى والأَولَى أن يُجَسِّر الفجوات ويُقرِّب الرُّؤى، وليس أن يختُمَ على الأجندة المُعدَّة من جانب هيئة تحرير الشام بتَمامِها، ولا أن يزيحها لصالحِ بديلٍ آخر.

أساسُ الفكرة أنَّ السوريِّين أتعبَهم التشرذمُ ويحتاجون للقاء.. لا يُجمِعون على تصوُّرٍ واحد؛ إنما تجمعُهم مُشتركاتٌ يُمكن عَدُّها والتلاقى عليها، واعتمادُها مُنطَلَقًا لإرساء معالم الحقبة الانتقاليَّة، لحين توافر الظروف الكاملة لبناء رؤيةٍ وِفاقيَّة شاملة، بأعلى قدرٍ من المُواءمة والانسجام، وأقلِّ منسوبٍ مُمكنٍ من الصراع والنقاط الخلافية.

الثابتُ الوحيد الذى يُؤَطِّرُ أيَّة مُداولةٍ سوريّة مُقبِلَة، ينحصرُ فى حقائق الجغرافيا والديموغرافيا، وفى الانقطاع عن تُراثِ الدولة القديمة، وما كان من نظام البعث والعائلة الأَسَديَّة. بمعنى أنَّ الحوار يجبُ أن يكون تأسيسيًّا على الأُصول الراسخة، وليس فُسحةً للتريُّض فى دائرةٍ مُغلَقَة. وإمكانيّة تنظيمه على أُسُسٍ سليمة إنما تَنبعُ من تَكافؤ المُكوِّنات جميعًا، ونجاحه مَرهونٌ بألَّا ينفردَ تيَّارٌ باتِّخاذ قراراتٍ بنيويَّة من صميم وظائف الإجماع الوطنىّ.

ومثلما لن يكون مَقبولاً الانطلاق من الحالة البَعثيَّة، أو الاحتكام إليها فى إنتاج البديل المأمول؛ فمن الصعب أنْ تتأسَّس الحقبةُ الجديدة على مساراتٍ مفروضة من أعلى، أو خطوطٍ حمراء يستبدُّ برَسمِها فريقٌ دون الآخرين. إذ وقتَها سيكون الاختلافُ فى المظهر لا الجوهر، كما لو أنَّ الشموليَّة تُهيِّئُ نفسَها فى ثوبٍ جديد، وتُملِى على الناسِ ما يجبُ أن يكونوا عليه، أو ما يَمتنِعُ عليهم التفكيرُ فى الخروج عنه. وهى مُخاتلةٌ أقربُ للمُعضِلة الفلسفيَّة عن التسيير والتخيير، وعن حرّية الإنسان فى مساحةٍ مُغلقة؛ مهما قِيْل فى اتِّساعها.

ليس غرضَ الدعوة بالتأكيد، أن يُنتَدَب المُشاركون لمُبايعة الجولانى، ولا أنْ يُوقِّعوا بديمقراطيَّةٍ ظاهرةٍ على حرمانهم من حقِّ تقرير المصير، مَرَّةً وإلى الأبد. على الحوار أنْ يكون انطلاقةً لورشةٍ دائمةٍ من الجدل، وفحص المُقاربات وتقويمها، والمُواكبة المُتَّصلة لعملية البناء، من لحظة سقوط النظام إلى محطَّة إرساء البديل.

وعلى هذا المعنى؛ فإنّه أقربُ لجمعيَّةٍ عموميَّةٍ مفتوحة، يتعيَّنُ ابتداؤها بأوسعِ هيئةٍ تمثيليَّة مُمكِنَة؛ لتتخلَّق من داخلها لجانٌ وكياناتٌ نوعيَّة تتوزَّعُ عليها المسؤوليات، وتختصُّ كلٌّ منها بعنوانٍ مَركزىٍّ من المِفصَليَّات المطلوبة للبناء: العَقْد الاجتماعى، وهُويَّة الدولة، وصيغة الدستور، والجدول الزمنىّ للإدارة الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات وإفراز سُلطةٍ طبيعيَّة كاملة الشرعيّة.

الفلسفةُ هُنا؛ أنَّ الطاولة بديلٌ مُؤقَّتٌ عن الدولة، والمَنهجيَّةُ تُحتِّمُ أن تتولَّى أُمورَها بالأصالة من أصغر الموضوعات إلى أكبرها. أىْ أنْ تضعَ قوانينَها بنفسِها، وتُحدِّدَ ما يَقعُ فى نطاقِ اختصاصِها المُباشر، وما يتعذَّر عليها، أو تختصُّ به كياناتٌ مُتفرِّعةٌ عنها، وكذلك ما يُمكِنُ تأجيلُه إلى مراحلَ تاليةٍ.

وبهذا؛ لا يصحُّ أن تُفرَضَ عليها إجراءاتٌ أو محاذير، ولا أن يُسلَبَ منها حَقُّ بناء كيانِها من داخلها، بمعنى سُلطتِها الكاملة فى توسيع المُشاركة، وانتداب مَنْ تَراه صالحًا من الجماعات والأفراد والشخصيات العامة، ووضع الجداول الزمنيَّة المُلائمة لعَمَلِها، وتحديد القنوات المُكلَّفة بالعمل على تنقيح الأفكار وتطويرها، وتأهيل ما يصلُحُ منها للتطبيق، وطبيعة هذا التطبيق ومَداه وآليَّاته؛ بحيث تصيرُ السُّلطةُ الانتقاليَّة ذاتُها وكيلاً عنها بمُجرَّد التئامها، وليست حاكمًا لها أو مُتسلِّطًا عليها، بمشروعيَّةٍ ما تزالُ تستندُ للسلاح وقوَّة الأمر الواقع فحسب.

إنه حوارٌ بين شُركاء مُتساوِين، لا بين حُكَّام ومَحكومِين. وما يُقبَلُ من «الجولانى» فى تَصدِّيه للإدارة الوَقتيَّة؛ لأنه الأكثر جاهزية، ولأجل ألَّا تستبدَّ السيولةُ بالدولة؛ لن يكون مَقبولاً منه ومن غيره بشأن الصيرورة النظامية للخروج من الاستثنائىِّ إلى الطبيعى، ومن المرحلىِّ للدائم، وترسيم مُستقبلٍ لا يَدخلُه طَرفٌ بوَفرةٍ من النقاط المجّانيّة، بينما يُدْفَعُ إليه الباقون عَارِين من أيَّة قُوَّة مَعنويَّةٍ أو ماديّة.

والخطأ هُنا؛ أنْ تَنفرِدَ هيئةُ تحرير الشام بانتقاء مَنْ تَسمحُ لهم بالكلام، وتقرير مصير ما يَقولونه، ووَضع قيودٍ زمنيَّةٍ على حديثهم الآن، وستارٍ رمادىٍّ كثيف على ما سيَتولَّد عنه فى مُقبل الأيام. فالأَصلُ أنَّ السوريِّين يعرفون ما يطمحون إليه؛ لكنهم يجهلون الطريق، وأيَّةُ إشارةٍ يُحتَمَلُ منها تحديدُ محطَّة الوصول؛ فإنها تُفرِّغُ الحوارَ من مَضمونه؛ ليكون شَكليًّا فى أحسن الظروف، ويتَّخذُ فى أسوأها صِفَة عَقْد الإذعان.

فَرَضَ «الجولانى» حكومةً واحدةَ اللون لنحو ثلاثة أشهر، وفُهِمَ الأمرُ على صيغة الضرورة الظَّرفِيّة. لكنّه تجرَّأ لاحقًا ليُحَدِّد إطارًا زمنيًّا، أقرب إلى الإملاء «فوق الدستورىِّ»؛ باعتبار الحوار الوطنى فى سياق كهذا يُشبه وضعيّة الوثيقة الدستورية المُؤقَّتة.

وما إنْ قال الرَّجلُ المُهيمن على البلد من أطرافه كلها؛ إنَّ إعدادَ الدستور وإنجاز الانتخابات سيستغرقان بين ثلاث وأربع سنوات؛ فكأنّه صادرَ من المُتحاوِرين أهمَّ النقاط التى يَلتقون عليها، إذ لا تنحَصِرُ مُهمَّتهم فى دَوزَنة اللحن السورىِّ ووَضع الطوائف والأعراق على نغمةٍ واحدة؛ إنما لهم الحَقُّ الكامل فى ضَبطِ الإيقاع وتحديد سُرعته، إبطاءً وتعجيلاً.

ونقطةُ الإيقاع لا تَنفصلُ عن سلامة البناء وفاعليَّته؛ لأنّه يُحدِّدُ نطاقَ التفاعُل السياسى والجَدَل الاجتماعىّ، وحدودَ استفادة السلطة المُؤقَّتة من فُسحة الوقت، ومدار التدرُّج فى تخطيط التجربة وتنظيم مراحلها. الغايةُ لا تنفصلُ عن زَمَنِها، وكثيرٌ من الخطوات الصائبة قد تَفقُد معناها إنْ تقدَّمت عن مَوعدِها الطبيعىِّ المُناسب أو تأخَّرت.

النوايا الحَسنةُ تصلُحُ للرِّهان فى المسائل العائليَّة وعلاقات الأفراد؛ إنما فى المُجتمعات والدُّوَل تَنضبِطُ الأُمورُ بقواعدَ ومُحدِّداتٍ واضحة، ويعلو القانونُ وانضباط الإجراءات على الوعود والتطمينات. والخبرةُ العَمَليَّةُ القريبة أنَّ «الأسد» ذهبَ للتفاوض فى عشرات الفعاليَّات الدوليَّة، وتَقبَّلَ حُلولاً لمْ يَسِرْ إليها خطوةً واحدة، وتعهَّد بأشياء سرعان ما انقلَبَ عليها تمامًا.

سوريا فى حاجةٍ للتحصين من نزوات ثُوَّارها، بقَدر ما كان مَطلوبًا إزاء النظام الأَسَدىِّ أو أكثر. لا لشىءٍ إلَّا أنَّ القادةَ الجُدُد آتون من خارج ثقافة الدولة، بل من مساحةٍ مُظلِمةٍ فى كراهية الدُّوَل وفلسفتها، واعتلالٍ فى النظر للروابط الاجتماعية، وتقديم أُخوّة الدين والمذهب على شراكة الوطن وتكافؤيَّة المُواطَنة، فضلاً على أنَّ قِيَمَ السياسة المَدنيَّة، من فئة الدساتير والقوانين، لا تصمدُ طويلاً أمام لِحاهم المُتطاولة، وسريعًا ما تَسقطُ لو قُورِنَت بذخيرتهم الأُصوليَّة، وما يحملونه من تُراثٍ فِقهىٍّ مُلوَّثٍ بالأطماع الشخصيّة والتحالفات المشبوهة.

وليس الجَدَلُ هُنا فى القرآن والسنة وشُروح المُحدِّثين الثِّقات؛ بل على تَصوُّرٍ شديد البؤس من الفَهْم الضيِّق للحَنبليَّة فى وجهٍ تَيمىٍّ وَهَّابىٍّ، ومع مُنظِّرين من عَيِّنة المَقدِسى والشنقيطى والناجى وأبومصعب السورى، وغيرهم. وإذا تيسَّرَ افتراضُ التغيُّرِ والحَرَكيَّة فى أفهام الصاعدين الجُدُد؛ فمن المستحيل التسليم بأنهم صاروا مُخلِصِين للمَدنيَّة على وَجهِها السليم.

قد تتشابَهُ الدَّولةُ مع الأُصوليَّة الجهادية فى عِدّة نقاط؛ لكنهما لا تتطابقان فيها بطبيعة الحال، وتختلفان تمامًا فى البقيّة الواسعة. الإكراهُ جُزءٌ من فلسفة الاثنتين، والعُنف مُكوِّنٌ صُلبٌ فيهما؛ لكنَّه إكراهُ الاتِّفاق على عَقْدٍ اجتماعىٍّ وقانونٍ وَضعىٍّ يُساوِى بين الجميع هُنا، وإكراهُ التسليم للغَيبىِّ والكُلّيَّات التى لا تقبلُ النِّقاشَ هُناك، عنفٌ لضَبطِ المُجتمعات وتنوُّعها دون عسفٍ أو قولَبة، وآخر يسعى لتغييب التنوُّعِ أصلاً، وصَبغِه بلونٍ وحيد.

صحيحٌ أنّه يُمكِنُ العبورُ دائمًا بين الاتِّجاهين؛ لكنه يكونُ انتقالاً مُرتبكًا ومُشوَّهًا، ويتطلَّبُ أعمارًا وأجيالاً للتعافى والاتِّساق والديمومة. ومن السَّخف الكامل محاولةُ إقناع الناس بإمكانيَّة الالتحاق بدينٍ جديدٍ من مَوقع النُّبوَّة مُباشرةً، كما يَحدثُ فى ورشة تسويق «الجولانى» اليومَ على صِفَة الحاكم المَدَنىِّ مُكتمل الأَهليَّة، وشديد الإخلاص لأفكار «روسو وفولتير» وآباء المَدَنيَّة وحَمَلة تُراثِها على امتداد العالم.

قطاعٌ عريضٌ من النُّخَب العربيَّة أحسَنوا استقبالَ «الجولانى/ الشرع»، وهيئته الجهاديَّة المُقدَّمة تحت عنوانٍ سياسىٍّ؛ لا من باب الاحتضان والتشجيع؛ ولكن على نِيَّة التبشير بالمُخَلِّص المِثالىِّ الذى يقولُ ما عجزَ عنه الليبراليون والتقدُّميون جميعًا. والفارقُ واسعٌ للغاية بين الموضوعيّة والدَّجَل، وبين ميزة الشَكِّ وإرادة التضليل، أى بين مُواكبة التجربة بالرعاية والفحص، والتعمية عليها بالمُبالغة والمدائح المُفرِطة.

فتنةُ الأسد يبدو أنها أعمَتْ العيونَ، وما زالت، حتى أنَّ بعضَ العُقلاء مِمَّن أنفقوا أعمارهم وزيتَ أدمغتِهم فى الدعوة للحداثة والتَّمَدُّن، ومُقارعة الماضويّة والشموليَّة والبطش وأوهام الدعايات الكُبرى، يَبصمون بالأصابع العَشرة على أوراقٍ بيضاء، ويتجاهلون ما يُخبِّئه رجالُ الميليشيات السابقون وراءَ ظُهورِهم، ويُطِلُّ بين وقتٍ وآخر غصبًا، وبالرغم من كلِّ محاولات الإنكار والتضليل وسرقة الوقت وتضييع الطاقات.

إذا كانت حكومةُ اللون الواحدِ مُبرّرةً بمَنطقِ الاحتياج لسُلطةٍ مُتماسِكَةٍ؛ فإنَّ تطعيمَها بوَجهٍ أو أكثر من طيفٍ آخر لم يَكُن ليخصِمَ من تماسُكِها ولا كفاءة تَصدِّيها للالتزامات العاجلة. كان الأغيارُ المُلحَقون بها سيظلّون أضعفَ من التأثير فى القرار، وأعجزَ من التمرُّد والتشغيب؛ لكنهم كانوا سيمنحونها طابعًا أقلَّ أُصوليَّةً وأقربَ قليلاً للوطنيّة المأمولة، مع ما يتحصَّلُ عن المزيج من إشاراتٍ إيجابيَّةٍ مُطمئِنَةٍ، وتدليلٍ عَمَلانىٍّ على احترام التعدُّديّة والشراكة، وجاهزيَّة العمل مع بَقيَّة المُكوِّنات.

كان مُمكِنًا البحثُ فى إنشاء مجلسٍ رئاسىٍّ؛ ولو تسيَّده الجولانى، وتكوين لجنةٍ تحضيريَّة مُعلَنةٍ للحوار الوطنى من كلِّ التيارات، وبقَدرِ ما تُسفِرُ الحوادث عن صعوباتٍ فيها يُسَار لتعديلِها؛ ليكون النِّتاجُ ناشئًا عن احتياجٍ عام يخصُّ الأطرافَ جميعًا، ويُعبِّر عنهم؛ وليس عن إرادةٍ فرديَّةٍ أنتجَتْها البنادقُ، ولا ذنبَ للمجموع العريض من الشعب أنهم لم يَكونوا فَصيلاً فى الحرب الأَهليَّة، ولا احتَمَوا برَاعٍ من الخارج أو ألحقوا أنفسَهم على وَطنيَّة رديفة.

الانفرادُ لا يُعالِجُ كوارثَ الماضى، بقَدرِ ما ينحو لإعادة إنتاجِها؛ لأنه يَنبعُ من رغبةٍ عارمة فى الاستئثار، وشكوكٍ عميقة فى بقيَّة الأطياف، وسَعىٍ إلى التسرُّب الناعم من مسامِّ الدولة المفتوحة، يَضمَنُ مع طُول الفترة الانتقاليَّةٍ أنْ يتحقَّق التمكينُ من دون صَخَبٍ أو استبدادٍ ظاهر؛ رغم ما يبدو فى كلِّ المُمارسات من نَزعةٍ استبداديَّةٍ غير مُستَتِرةٍ تمامًا.

ولو صَحَّ أنَّ القرارات تُتَّخَذُ وفقَ الحاجة، وتَفرضُها الأولويَّات. فإنَّ تعديلَ المناهج الدراسيَّة لا يتوافَرُ فيه من الإلحاح ما يجعلُه سابقًا على الحوار، يل وحاكمًا له من زاوية تأطير الهُويَّة الوطنيَّة استباقًا بقوَّة السُّلطة، وبما لا يجعلُ إثارة تلك القضايا على طاولة النقاش أمرًا مُؤثِّرًا فى المَدَى القريب؛ أوَّلاً لأنّه لا إمكانيَّةَ لفَرض المُخرَجات على الإدارة، وثانيًا لأنها ستظلُّ مُعلَّقةً بجانب بَقيَّة موضوعات الانتقال لعدَّة سنوات، مع ما سيطرأ مُستقبلاً من شواغلَ واهتماماتٍ تتقدَّمُ للواجهة، وتزيحُ ما عَدَاها إلى خَلفيَّة المشهد.

ولا معنى لإعادة تعريف «الاحتلال العثمانى» للأجيال الجديدة؛ إلا أنَّه سدادٌ لديون الرُّعاة على الميليشيا، ورغبةٌ فى تهذيب الدولة السورية من جانب الذاكرة والسَّرديَّة الوطنية، وتَعقيمها من كلِّ ما يُهدِّدُ علاقةَ وصايةٍ عابرة للحدود، يبدو أنّه يُخَطَّطُ لأنْ تكونَ دائمةً، أو تُدمَجَ بشكلٍ أو آخر فى بِنيَةِ النظام الجديد.

الهُويَّةُ السوريَّةُ فى مرحلةٍ سائلة للغاية، وهى أحوجُ ما تكون اليومَ لاحترام هشاشتها، والرأفة بها، وعدم الانفلات من حساسيَّة اللحظة، نحو الانفراد بتثبيت عناوين وإطاحة غيرها. وإذا كان النظامُ السابقُ قد تَعثَّر فى فَهْم الشام واحتواء ثَرائه وتناقُضاته؛ رغم ما لديه من معرفةٍ بمنطق الدَّولَة ومِراسٍ فى التجربة المَدنيَّة؛ فالقَلقُ مع الأُصوليَّة وميليشيَّاتها المُسلَّحة يتعاظَمُ بالضرورة، ويُوجِبُ الحَذَر والتحَسُّب من أيَّة مُخاتلةٍ مقصودة، أو انزلاقٍ غير محسوب.

والحوارُ الذى يُبشِّرون به أداةُ ضَمانٍ واحتياطٍ بشأن المحاذير، والمُؤكَّد أنه ليس مَعنيًّا بصياغة ما يُريده الجولانى وعُصبَته، أو الاختلاف فى عدد مواد الدستور وآليَّة وَضع الأوراق فى صناديق الاقتراع. إذ الأَصلُ أن تكون ولايته كاملةً على المجال العام، وأن يُحَدِّد طبيعةَ المُدوَّنة الوطنيَّة بكلِّ تلاوينها، عَقدًا اجتماعيًّا ودُستورًا وقوانين.

كما من صَميم اختصاصِه أنْ يُجَسِّد الهُويَّةَ السورية على صُورتِها الصحيحة، ويُخلِّصها من شوائب البَعث والحركات الجهاديَّة أيضًا، أى أنْ يصيغَ جَوهرَ الدولة وفلسفتَها ومحاورَ عَملِها، بما فيها المَرجعيَّة وتوازُنات الطوائف، ومَناهج الدراسة، وعلاقة الشام بالأديان والأعراق كُلِّها، فى مُحيطِه القريب وعلى امتداد العالم.
مسألةُ حَلِّ الجيش يُفتَرَضُ ألَّا تكونَ قرارًا نهائيًّا، وأنْ تُعرَضَ على المُتحاوِرين للنظر فيها قَبولًا أو رفضًا، وما إذا كانوا سيستبعدون التشكيلات القديمة بكاملها، وعلى أيَّةٍ قاعدةٍ أو معيار. وكذلك موضوع دمج الميليشيات فى المُؤسَّسات الأمنيَّة والمدنيّة، وما يَتَّصل فيها بمَلفِّ المُواطَنة والتجنيس، ووَضعيَّة الأجانب، ومَنْ كانت لهم سوابقُ جِنائيَّةٌ فيما قبل الثورة والحرب الأَهليَّة.

تفاصيلُ عديدةٌ انفرَدَ بها «الجولانى» وحلقته اللصيقة، وليس صحيحًا على الإطلاق أن يحسموها بمُفردهم، ولا ينبغى أن تكون بمَعزلٍ عن الشراكة الكاملة فى رَفعِ أنقاض النظام القديم، ومهامِّ العمل على إرساء البديل.

إذا كانت العلاقةُ بأطلال النظامِ الساقِط قد رُسِمَت تحت جناح الجولانى، والمَناهجُ أُعِيْدَت صياغتُها، والقرار الأُمَمىُّ 2254 لم يَعُد صالحًا للتطبيق، والفترةُ الانتقاليَّةُ مُمتدَّةٌ لأربع سنوات، ولا بحثَ فى الفيدراليَّة أو «اللا مركزيَّة»، والكيانات السياسية مُستبعَدَةٌ من الطاولة، ولا حَقَّ إلَّا للأفراد أن يدخلوا الغُرفةَ آحادًا، فى مُواجهةِ تيَّارٍ صُلبٍ يحتكرُ السُّلطةَ؛ فعلى ماذا يكون الحوارُ إذن؟

هل لو اتَّفقَ الحضورُ على العودة لقرار مجلس الأمن وتحديد مُهلة الانتقال بسَنَتين فقط سيسمعهم الحُكَّام الجُدد؟ وهل لو أرادوا حَلَّ حكومة البشير والتعويض عنها بإدارةٍ تنفيذيَّة من كلِّ الأطياف سيُجيبُهم أحد؟ هل يقبلُ الأُصوليِّون أصلاً بأن يُحتَكَمَ للمُواطنة الكاملة، بما يَسمحُ لمَسيحىٍّ أو دُرزىٍّ بالترشُّحِ للولاية الكُبرى/ رئاسة الدولة؟

وهل تكونُ هيئةُ تحرير الشام بعد حَلِّها حِزبًا أم تنتظمُ فى مُؤسَّسة اجتماعيّة غير مُسيَّسة؟ وما آفاق المُؤاخاة أصلاً بين العمل السياسىِّ التنافسى على برامجَ ومُرتكزاتٍ أيديولوجيَّة، والفِقه النابذ للحِزبيَّة الرافضِ لتحكيم ما دُونَ الشَّرع؟

أسئلةٌ لا حصرَ لها، وأجوبةٌ غائبةٌ قَطعًا؛ لكنَّ المُعضلةَ أنَّ غيابَها لا يفتحُ الباب للبحث عنها، بقَدر ما يُقلِقُ من مستقبلِ التعاطى مع التساؤلات ذاتِها.
الضرورةُ تُبرِّرُ إرجاءَ الجواب؛ لكنها لا تمنعُ من إثارة الأسئلة والشكوك. والشارعُ إنْ كان مأخوذًا بنَشوة الخلاص من الأسد؛ فإنَّ النُّخَب المَدنيَّة لا تتوقَّفُ عن الحديث والجَدَل، نقدًا وطَرحًا للبدائل.

ثمَّة انقطاع إعلامى مُريب عن نَقل ما يجرى على الأرض، وإغفال للمُناوشات والتوتُّرات المُتزايدة، ولِمَا يُدارُ من فعاليَّاتٍ سياسيَّة واجتماعيَّة، لا يُمكِنُ الاقتناع بأنَّ الشام توقَّف عن إنتاجها بالداخل أو الخارج، وهو لَمْ يَرتدِع تحت بَطشِ البَعث، والأرجحُ أنه صار أكثر حيويَّةً بعد الخروج من الرِّبقَة الأَسَديَّة.
صحيحٌ أنَّ الجميع يُريدون مُداواةَ سوريا، وعبورَها مرحلةَ الاستثناء إلى التنظيم والمَأسَسة؛ لكنَّ طرفًا ظاهرًا، ربما تُعاونه أطرافٌ خَفيَّة، لهم مصلحةٌ لا تقود إلى تعافٍ سليم، ويتحرَّكون وفقَ منطقٍ مُبرمَجٍ مُسبَقًا لتمرير الوقت، وسرقة البديهيات من الشارع بسيفِ التضليل أو الاضطرار.

والحال؛ أنَّ سلوكًا كهذا يُضَخِّمُ التناقُضات بدلاً من تذويبها، وكلُّ ما يَفعلُه أنه يُرجِئُ انفجارَها فى وجوه الجميع، إلى أنْ يَجِدَ الناسُ أنفسَهم بين خيارين مُرَّيْن: أفغانيَّةٍ تمكَّنت حتى العَظْم فى غَفلةٍ منهم، أو حربٍ أهليَّة أسوأ من سابقتها؛ لأنها ستكونُ بين أطرافٍ مُسلَّحةٍ بالاعتقاد وهاجس الوجود، وليس بين سُلطةٍ مُنحرِفَةٍ وميليشيا أُصوليّة.

الأقوالُ لا تغنى عن الأفعال. حصانةُ مراحل الانتقال فى التعجيل لا الإرجاء، والحَلُّ مع المجتمعات ذات التنوُّعات العِرقيَّة والطائفية فى احتوائها لا قَمعِها.
حديثُ الوحدة الجغرافية والديموغرافية جميلٌ ومطلوب؛ لكنَّ آليَّات تحقيقها أهمُّ من الاكتفاء بالتبشير بها. فإمَّا تكونُ بوفاقٍ أو تصيرُ ذِمّيّةً مَقيتة، ولا بديلَ عن التناسُب فيها بين حقوق كلِّ طرفٍ والتزاماته، وعن إقناع الجميع بأنهم مُتساوون فيما بينهم، وأمامَ الدولة المستقبليّة.

الحوارُ يجبُ أن يكونَ جامعًا مانعًا، وألَّا يُرجَأ عن مَوعدِه الجديد فى مُنتصَف الشهر، وعلى الكيانات الممنوعة منه أن تُواكِبَه، وأن تكونَ رقيبًا على مُمثِّليهم فيه، وعلى الهيئة وإدارتها لفعاليَّاته. إطاحةُ الأَسَدِ ليست رَصيدًا أَبَديًّا لا يَنفدُ، والامتنانُ للجولانى لا يعنى تسليمَه مفاتيح الدولة، وكراهية الطائفيَّة العَلَويَّة لا يُمكِنُ أن تكون مَمرًّا لإعادة إنتاجِها بنكهةٍ سُنيّة.

قد نُخطئُ لو استبَقْنا الوقائع؛ لكننا نُضلِّلُ أنفُسَنا قطعًا لو افترضنا فى الأُصوليَّة ومنها، ما يُخالفُ مُرتكزاتها وعميقَ مُعتقداتِها، أو افتراض أنها قد تَنقلِبُ تيّارًا مَدَنيًّا بمُبادرةٍ فرديَّة، ومن دون مُقاومةٍ صارمة،ٍ ويقظةٍ اجتماعيَّة قادرةٍ على الإسناد والتصدِّى بالدرجة ذاتها من السماحة والحَسم؛ فقد يكونُ الابتلاعُ أقربَ من انطفاء فرحة التحرُّر، وتكونُ المرحلةُ المُقبلةُ أعقدَ من كلِّ امتحانٍ سابق، وأكثرَ كُلفةً، وأعصى على الاستدراك أيضًا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة