تُختبَر المنطقة بما يفوق طاقة احتمالها، ويتجاذبها مشروعان فى ثنايا كل منهما تلاوين ومناكفات بينية. أشار نتنياهو إليهما بعنوانى: محور النعمة فى مواجهة محور اللعنة، وتراها الأصولية الإسلامية «ممانعة تختصم مهادنة»، وكلاهما فى واقع الأمر تيّار واحد، إلى جانب آخرين، يترصدون جميعا لدول الاعتدال ورؤيتها الإقليمية.
وفى مناخ كهذا، تختلط الأوراق وتتداخل المعايير، ويصار إلى تسييل الخرائط وتوازناتها الجيوسياسية، وتشويه المفاهيم بما يقود لاحقا لحالة ضلال بشأن طبيعة العداء وأولوياته، وعليه لا تستقيم التحالفات ولا تنبنى على أسس راسخة، وترى فى سلوك كل طرف شيئا من روح الآخر وخياراته الحارقة.
والسيولة إنما تنبع من إساءة تعريف الذات أولا، والانطلاق منها إلى ترسيم العلاقة مع الفضاء المحيط، ثم النظر من زاوية الأيديولوجيا حصرا؛ فيصير كل مختلف غريبا، وكلهم سواء. تحجيم الرابطة واختزالها فى باقة من العناصر الأولية، لا يخصم من الإمكانات الكلية لكل فريق فحسب؛ بل يُعرّى القضايا الكبرى من مشتركاتها الجامعة، ويسلبها قدرا من الوهج القيمى، لتؤول إلى دور وظيفى مفروض عليها بالعاطفة أو قوة السلاح، ومُعطّلٍ لها عن الاشتباك الخلاق مع الزمان والمكان، أى عن التطور بحسب السياقات المتغيرة، وعن القدرة على استيعاب الضغوط، والتكيف معها بالمقاومة أو بالاحتواء والمواءمة.
وفى شأن القضية الفلسطينية؛ بوصفها عقدة الإقليم وباعث تأجيجه الدائم، فقد تحرّكت عقودا فى الزمن وما تبدّلت على صعيد الوعى. وما يزال فريق عريض ينظر للمأساة فى حالتها الطازجة أيام النكبة الأولى، مُستندا لوهم أنها مجرّد عصابات صهيونية طارئة، والطريق مفتوحة لتصحيح حركة التاريخ وصولا إلى التحرير الكامل، واستعادة الجغرافيا من النهر إلى البحر، والاستناد الوحيد هنا إلى نظرية الحق وعدالة القضية، وهما ثابتان لا شك فيهما؛ إلا أنهما يصلحان لتثبيت القلوب وحفظ السردية، ولا يكفيان لمداواة الاعتلال والاستدراك على الواقع وحقائقه الثقيلة.
نمت إسرائيل وقويت شوكتها، وما توقفت عن حركتها الدؤوب على كل المستويات: داخل الفكرة الصهيونية نفسها، وفى بنائها الدولتى، ودخولها فى نسيج المنطقة والعالم. العصابات صارت دولة قوية، ولديها صيغة سياسية قادرة على استيعاب التناقضات، والانخراط بها فى الحروب دون أن تكون عبئا عليها.
يغلى الشارع لكنه لا يفور، وبطبيعة الحال لا ينقسم على نفسه، ولا تتخطفه الانتماءات الجزئية أو الولاء لأجندات فوق وطنية. وفى المقابل؛ يكتفى مناوئوها بإسقاط تصوراتهم عليها، من دون مقاربات عميقة أو وعى حقيقى؛ ثم يتخذون أوهامهم وقودا لافتتاح مواجهات يعجزون عن إنهائها، ناهيك عن أنهم يخرجون منها دائما أضعف مما كانوا فى أى امتحان سابق.
قبل أيام، قال الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام الاضطرارى لحزب الله، بعد مقتل أمينه التاريخى وخليفته المُحتمل، إن أحدًا لم يكن يتوقع أن يخسروا ما خسروه؛ لهذا فتحوا تحقيقا ليعرفوا طبيعة ما حدث بالضبط.
وظاهر الرسالة يُخفى وراءه دهشة تُقرأ على معنى المفاجأة من قوة إسرائيل، ولا تختلف عمَّا قاله حسن نصر الله بعد حرب العام 2006، من أنه لو عرف ما وراء خطف الجنديين ما أقدم عليه. عقدان تقريبًا صار العدو فيهما أشرس وأكثر اقتدارا، وبقيت المُمانَعة على حالها الرثّة، وخطابها شديد البؤس.
والجمود لا يتسلّط على ضاحية بيروت الجنوبية لجهة العلاقة بالاحتلال وقوّته الباطشة فحسب؛ إنما فى نظرتها العتيقة للداخل، ومُقارباتها للمشهد السياسى ما بعد النكبة التى أنزلتها بلبنان، كما لو أنها فى سياق الاحتفال بالنصر وصرف فائض القوّة على حساب بقيّة المكونات الوطنية.
يغيب عن الحزب أنه هُزِم فى الجولة الأخيرة، أو يتعامى عن الحقائق؛ فيدفع عناصره لتجوب أحياء العاصمة على دراجات نارية، بالأعلام وصور سماحة السيد، بينما يدفق آلاف النازحين إلى قراهم الجنوبية، قبل أن يكتمل انسحاب إسرائيل، وفيما يُشبه تطويق العهد الجديد بالمزايدة والدم.
والمشهدية نفسها حاضرة بشكل أو آخر فى غزّة. صحيح أن الميدان ما يزال ساخنا، وأجواء المعاناة الإنسانية تطغى على غيرها من الاعتبارات؛ إلا أن حماس وحلفاءها ما أبانوا أى قدر من التعقل والاحتكام للمنطق. وليس القصد أن يتخلّوا فحسب عن سرديّة الانتصار غير الحقيقية على الإطلاق، ولا أن يُلقوا السلاح مرّة وإلى الأبد؛ إنما أن يُستَشعَر من سلوكهم إحساس بحجم الخسارة وأكلافها بعيدة المدى، ووجوبيّة الانخراط فى مشروع تسووى مع الشقيق قبل الغريم، لا سيّما أن نُذر الخطر تفوق محفّزات الاطمئنان حجمًا ونوعا، والطوفان كان وبالا عليهم وعلى القضية، والمستقبل غامض كأقصى ما يكون الغموض.
فى بحر الأسبوع المقبل، من المقرر أن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية لاتفاق وقف إطلاق النار، على أن تُختَتَم فى غضون أسبوعين تقريبًا. والغاية منها أن تتثبّت الهُدنة المؤقتة وفق صيغة دائمة، تشمل إنجاز ما تبقّى من مبادلة الأسرى والمُحتجزين، ثم استكمال علميات الانسحاب من محورى نيتساريم وفيلادلفيا والإطار الشمالى والشرقى للقطاع.
والعبور إلى أسابيعها الستّة، ثم استكمالها بانضباط كامل، يعنيان انتهاء الحرب عمليا، والاتجاه نحو ابتعاث مشروع سياسى واجتماعى للمستقبل، يبدأ بآلية إدارية غير ملوّنة، وتُحوّطه خطة لإعادة الإعمار وتطبيع حياة مليونى منكوب فى أكثر بقاع الأرض اكتظاظا وخرابا.
والفخاخ عديدة فى الجولة المقبلة؛ لعل أخطرها أن حكومة اليمين فى إسرائيل لا تُريد إنجاز مسار التسوية إلى آخره، وتتطلع للرجوع إلى القتال مُجدَّدًا تحت عنوانها العريض عن إفناء حماس؛ لأن الائتلاف تتهدّده مخاطر التفكك من الداخل لو توقّفت الحرب، وزعميه يتحسّب من افتتاح مواسم المساءلة والحساب عن التقصير فى الطوفان وما تلاه.
وعليه؛ فلن يُقصّر نتنياهو عن اختراع الأزمات ووضع العراقيل، ولا سبيل للمناورة هُنا إلا بعد استيعاب عميق لدروس الشهور الماضية، وإقرار أمين مع النفس بالإخفاق، ورغبة صادقة فى الخروج من النفق المظلم.
التجأت تل أبيب إلى الصفقة أصلا تحت ضغوط أمريكية، وتحصّلت على وعدٍ بإطلاق يديها مع أول خطأ أو انسداد. والحماسيّون ما قرأوا السياق على وجهه السليم حتى اللحظة، أو استقرأوه وتعالوا عليه، فاستمّر حديثهم عن النصر مشمولاً بدعايات أن العدوّ نزل على البنود التى كان يرفضها، لأنه عجز عن تحقيق أهدافه المُعلنة، أو أن كتائب القسّام تفوّقت بالعقيدة والدهاء على جيشه المُدجَّج بالسلاح. والحال؛ أن الصهاينة فى كل التجارب السابقة كانوا يكسبون حينًا بإمكاناتهم الذاتية، وبإخفاقات خصومهم فى أغلب الأحيان.
سؤال «اليوم التالى» لم يكن عارضًا منذ إثارته. وإذ بادرت الولايات المتحدة لطرحه فى بدايات الحرب؛ فلأنها كانت تعى أن الجولة ستنتهى إلى نتيجة رمادية، لا يُمكن الحديث فيها عن نصر أو هزيمة بصياغات واضحة، وبالتبعية لن يكون مسموحا لحماس بأن تظل طرفا فى السياق الجديد، لا أن تتصدّى لإدارة القطاع بالطريقة المُعتادة قبل الطوفان. وبهذا؛ يصير على الحركة أن تُسدِّد بالسياسة ما تخيّلت أنها ضمنته بالسلاح، أى أن تتراجع إلى الوراء وتفتح الطريق لبديل عنها، أو تحتمل البقاء فى اليوم القديم بكل آثاره، وسواء تجدد القتال أم بقيت الأوضاع فى طَور الجمود.
الرياح التى أدارت مُحركات التهدئة، تندفع بالقوة نفسها فى أشرعة نتنياهو وحكومته. لقد كان الرئيس ترامب رافعة أساسية لإنجاز الاتفاق، ولعب دورًا فى تفعيل إمكانات إدارة بايدن المُعطّلة لشهور سابقة؛ لكنه لم ينطلق لموقفه من رغبة حقيقية فى إحلال السلام وفق محددات أخلاقية ونوايا مُجرّدة، بقدر ما أراد أن يفتتح ولايته بأثرٍ ظاهر، ويُبرهن على دعاياته الانتخابية بأنه لو كان موجودا ما اندلعت الحرب أصلاً، ثمّ أن يُمهِّد البيئة لإخراج خططه القديمة من الأدراج، وإلباسها رداء المبحث الإنسانى عن مخرج من المأساة، وليس الهجمة الامبراطورية لتصفية القضية وإعادة تخطيط المنطقة وفق اعتبارات فوق سياسية.
استبق العجوز الجمهورى مراسم تنصيبه بإسكات البنادق فى غزة؛ لكنه عقّب سريعًا ومنذ اليوم الأول لولايته بإنهاء تعليق صفقات القنابل الثقيلة، ورفع العقوبات عن قطعان المستوطنين، ثم المُجاهرة بأسرع من المتوقع بما فى نفسه عن أوهام الحل الاقتصادى، وغبة اللعب فى المعادلات الديموغرافية بما يسمح بالهروب من القضية أصلا، بدلاً من التصدّى لتسويتها بالمُحدِّدات الموضوعية والقانونية المطلوبة. أخرج ورقة التهجير من جيب بنطاله القديم، ويعرف أن إنفاذها ليس سهلا، وربما أقرب إلى الاستحالة؛ لكنه بعدما يذهب للمدى الأقصى فى أطروحاته؛ ستصير كل البدائل أهون وأقل فى الأعباء.أما الأثر الجانبى المُقلق؛ فأن نتنياهو لن يُفوِّت الفرصة للارتداد على ما أُلزِم به مُؤقّتًا. والحال؛ أن مشهد عودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله يردّ على ترامب، ويُطمئن بشأن نوايا الإزاحة القسرية أو الطوعية؛ لكن تجدُّد الحرب يُهدِّد بتفريغ رسالة الكُتل البشرية الهادرة من مضمونها، ويصبّ فى صالح رؤية الجناح التوراتى من الحكومة بشأن الاستمرار فى الميدان حتى تصفية حماس تماما، كما ينعش دعاوى الرئيس الأمريكى لناحية تعزيز قناعته على الأقل بأنها الحل الوحيد، ثم استثمار حالة الصخب والجنون لتمرير ما يطرحه من جنون بديل.
إطفاء المحرّكات الحماسية اليوم لن يكون إعلان موتٍ ترفضه الحركة، ولا انتحارًا يتجاوز النزوة الانتحارية التى سيقت إليها فى «طوفان السنوار»؛ بل هو أقرب إلى تضحية قليلة الكُلفة لاستنقاذ الأصول الثمينة، بدلاً من المُغامرة بالذهاب إلى جولة قتالية ثانية، تتضاعف فيها الخسائر، ويشتدّ النزيف، وتعود فى النهاية إلى القبول بما كانت ترفضه.
وهذا بالضبط ما حدث فى الهُدنة الحالية؛ إذ لم تخرج فى خطوطها العريضة عن بنود الورقة المصرية المطروحة فى ربيع العام الماضى، ومقترح بايدن المنسوب إلى نتنياهو نفسه فى الشهر التالى. توازُنات القوى لا تسمح بالرجوع لِما قبل السابع من أكتوبر، ولا بمواصلة المسار دون بوصلةٍ واضحة واستدراك على النفس، وحصافة فى النظر للأولويات.
السؤال اليوم لم يعد عن المنتصر والهزوم، والملاحظات على حماس والسلطة الوطنية، ولا أى الطرفين أحقّ بالولاية على غزّة.. الامتحان بين البقاء والإجلاء، ومهما بدت الأمور محسومة بحقائق الواقع والتاريخ؛ فإن الاطمئنان إلى الصلابة الداخلية والمواكبة الإقليمية لا يغنى عن استشعار الخطر، والاحتياط منه، والعمل الاستشرافى للالتفاف عليه بكل السُّبل.
والخزّان البشرى الثابت على العهد فى أرض فلسطين التاريخية ضمانة دائمة؛ لكن الحاجة ماسّة إلى تشبيك القوى، وتوحيد العنوان، وسدّ الذرائع بما يُجنّب القضية تبعات الاحتراب البينى، بينما يتعيّن عليها أن تتفرّغ بكل طاقتها للعواصف الآتية من الخارج البعيد.
ردّت مصر على ترامب بوضوح فى بيان وزارة الخارجية، وكان الرئيس السيسى أشدّ وضوحًا وحسمًا فى رسائله أمس، على هامش لقائه بنظيره الكينى وليام روتو، مُشدِّدًا على أن الحقوق الفلسطينية ثابتة وغير قابلة للتصرُّف، وأن ما يُلاقيه مع الاحتلال ظُلم تاريخى لن يُستكمَل أبدًا بالترحيل، ولن يُشارك أحد فيه، ولا سبيل للتنازل عن الثوابت الوطنية والقومية من القضية.
وإذا كانت القاهرة أغلقت الأبواب فى وجه الدعاوى المرفوضة؛ فإن على الفصائل بكل تلاوينها أن تفتح الأبواب فيما بينها، وأن تتوصّل دون إبطاء إلى أجندة جامعة، بمعزلٍ عن الأهواء والمصالح الشخصية، وعن التحالفات والروابط الأيديولوجية العابرة للحدود.
لا معنى لاستمراء الحديث عن هشاشة العدوّ؛ بينما يستحسن قطاع من المنكوبين هشاشتهم، ويحتفون بها، ويحاولون تصويرها على معنى القوّة والبأس. صحيح أن إسرائيل تتساند إلى دعم غربى، أمريكى فى المقام الأول؛ إلا أن حماس راهنت على الشيعيّة المُسلّحة بأكثر مما استندت لجبهتها الداخلية، أو عملت على رصف الطريق بين الفصائل، والاكتفاء بالخارج المُتقلّب على الداخل الثابت والشريك فى الوجيعة. ولا يُمكن مواصلة الارتكان إلى الوهم والشعارات المُضلّلة؛ إذ ما تزال فوارق القوّة واضحةً بحضور واشنطن أو غيابها.
ربما لو نطق السنوار من مثواه الأخير لقال ما قاله نعيم قاسم، وحسن نصر الله من قبله. لعل الرجل فوجئ بالقوّة الإسرائيلية كغيره، بعدما قضى ثلاثة عقود فى دراسة العدو واستناطق لُغته وأدبياته المُدوّنة، وسُوِّق على أنه خبير فى الصهيونية وغوّاص فى أعماقها.
لكن الرجل الطيب حينما راهن على إرباك السياسة العبرية من الداخل، واستغلال مناخ الانقسام المُطوّق لنتنياهو إثر مشروع الإصلاح القضائى؛ كان يُعينه من باب خلفىِّ على احتواء مُعاضيه، وترصيص الصفوف، وبناء سياق إجماعى أعانه على التهرّب من الاستحقاقات وقتها، وعلى مواصلة الحرب دون سقف أو برنامج واضح.
وإذا نُظر للعلم والجهل بوصفهما مدخلاً للوعى بالحقائق، واستغلال الإمكانات على أوفق السُبل وأكثرها كفاءة؛ فربما تكون إسرائيل أعلم بذاتها والخصوم؛ بأضعاف ما يعرفون عن أنفسهم. الانقسام دليل انفصال عن الواقع، وحجّة على من يسعون لاستعادة الأرض الضائعة، ولا يُحسنون الوصول إلى القلوب والعقول فى حاضنتهم اللصيقة.
لا مفرّ من الاشتغال على الذات، والتواضع أمام الدروس القاسية، ومجافاة أوهام الافتتان بالذات والحطّ من العدوّ على طول الخط؛ لأننا ما نربح من صيغ الهجاء اللفظية إلا الضلالات، والتعالى على واجب المعرفة، والارتياح إلى الخُطب النارية وتعويضها العاطفى.
كانت إسرائيل كيانًا لقيطًا؛ لكنها لم تعُد كذلك. صارت دولة حقيقية، ومكتملة القوّة والفاعلية، ولها اليد العُليا على المُشتبكين معها فى كل الساحات الساخنة. لا ترتدع إزاء إيران، وتمنحها الأصولية وخطابات تديين القضية وتطييفها، أضعاف ما تسلبه منها، أو تُهدِّد باستلابه.
والحال؛ أنك لن تنتصر على عدوّك، أو تتجنّب أن يُنزل بك هزيمةً لا تحتملها؛ إلا لو كنت واعيا به، ومستوعبًا للفوارق العريضة معه، وقادرا على الكرّ والفرّ بالكفاءة نفسها، ولا ترتاح للتهوين من الخسائر المادية بدعوى الثبات والفداء، ولا لاستحصال حظّك من المواجهات بالمكاسب المعنوية وحدها. تلك طوباويّة تُطلَب فى القضايا الوجودية قطعًا؛ إنما شريطة ألا تكون مُبرّرًا للنزق والانتحاريّة المجانيّة.
اعتذار حماس ما زال مُعلّقًا؛ رغم أهميّته. على الحركة أن تستميح بيئتها العُذر؛ ليس لأن فى هذا تعويضًا عمَّا تكبدوه، أو إزالةً لآثار خمسة عشر شهرًا من الإبادة المتوحشة؛ إنما لأنه يُطمئنهم إلى بشرية الحماسيين واعترافهم بالخطأ، وإلى القُدرة على قراءة الدروس واستيعابها، ويُعيد بناء الثقة بين المقاومة وحاضنتها، مع تعهّد ضمنىٍّ بأنهم لن يستمرئوا المسارات نفسها، ولن يُغامروا بالمُتاح تطلُّعًا إلى المُستحيل، ولا أن يظلّوا على إيمانهم بأن الأيديولوجيا سابقةٌ على البشر والحجر. والاحتلال إذ يسترخص دماء الفلسطينيين؛ فإن على الفصائل أن يكسروا حلقة ابتذال الأرواح وتحقيرها؛ لأن الروح والأرض صنوان لا قيمة لإحداهما دون الأخرى.
وإفساد التهجير المادى؛ لا ينفى أنه تحقَّق معنويًّا وعلى صعيد الوعى فى محكَّات سابقة. نزوح الفصائل إلى دوائر انتماء خارجية يحمل شيئًا من التحريك الديموغرافى، ولو على مستوى الولاء والشعور النفسى. بقاء الغزّيين على أرضهم غاية لا بديل عن إدراكها؛ إنما لا تكتمل من دون عودة النازحين طوال العقود الماضية، أكان رجوعًا من فضاء الشيعية المُسلّحة، أم خروجًا من عباءة الإخوان وداعميهم.
لن يمرّ مُخطط التهجير على كل حال؛ لأن طارحيه سيكتشفون سريعًا ما ينطوى عليه من مُراهنات خطرة، وما يُهدِّد به من إشعال الإقليم بكامله بدلا من تبريده. والسعى الدؤوب لإحباط الأطروحة فى مهدها؛ إنما يتوجَّب أن يتَّخذ طابعًا عموميًّا لأجل نسف الفكرة من جذورها، وإزاحتها إلى الأبد. لا بديل عن البديل، بمعنى أن تُنتج فلسطين سياقًا سياسيًّا ونضاليًّا مُغايرًا لما عهدته بعد أوسلو، وتتحرَّر من الأصولية وأثقالها، ولا ترتكن لأيديولوجيا سوى التحرُّر على مُرتكز وطنى صافٍ.
عليهم جميعًا استعادة الوعى الغائب بالنفس، ومعرفة العدوّ فى صورته الصريحة، وصوَره العديدة المُخادعة، وفرزه من الصديق الحقيقى، والالتئام مع الفعاليات الدافعة لمشروع الدولة المأمولة، بعيدًا عن المُتاجرين بها، أو من يتّخذونها وسيلة للمُزايدة والتشغيب وخداع الذات. المقاومة حيّة لا تموت، ولها أشكال عِدّة؛ إنما المُمانَعة ماتت وفاحت روائحها، وعلى الموهومين بها المبادرة إلى الاعتراف، وأخذ العلم بالتداعيات، والتحلّى بشجاعة الانخراط فى مسار جديد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة