انتهيت من قراءة كتاب "رحم العالم.. أمومة عابرة للحدود" للدكتورة شيرين أبو النجا، والصادر عن مكتبة تنمية، كما أنني أدرت عنه ندوة مهمة في معرض القاهرة الدولي للكتاب شاركت فيها الدكتورة شيرين والدكتورة مي التلمساني والأستاذة ميرهان فؤاد، وأول ما أقول عن الكتاب أنه "ضرورة" بمعنى أن وجوده "واجب"؛ لأن هذا النوع من الكتب تحتاجه مكتبتنا العربية، كما يحتاجه مجتمعنا العربي والإسلامي.
وقبل الدخول في تفاصيل الكتاب وجبت الإشارة إلى أن الدكتورة شيرين أبو النجا بذلت مجهودًا كبيرًا، واستطاعت اعتمادًا على القراءة المقارنة للنصوص والحيوات والأحداث أن تقدم كتابًا مهمًا، أهميته تنبع من جوانب كثيرة منها أن فكرة الكتاب مهمة وملفتة، فهو يتحدث عن "الأمومة" والفكرة لها جاذبيتها، لكن الدكتورة شيرين لم تكتف بطرافة الفكرة وجاذبيتها، بل عمدت إلى الفكرة فعملت عليها بعلمية شديدة، ومنهج متزن، ما أضفى على الكتاب جدية واجبة، وأعتقد أن ذلك جاء بسبب إدراك شيرين أبو النجا بالخطر الذي نعيش فيه، هذا الخطر الذي يأتي من التنميط الشائع لمعنى الأمومة، حيث تنتهي شيرين أبو النجا إلى أن "الأم ليست واحدة بل متعددة، وهذه التعددية لا يمكن حصرها" لكن كي تصل شيرين أبو النجا إلى هذه النتيجة أخذتنا إلى أربعة عشر فصلًا مفيدًا في الكتاب.
من جانب آخر جاءت أهمية الكتاب من خلال إدراك شيرين أبو النجا ومن خلفها القراء أن الأمومة في العالم العربي الإسلامي تحولت إلى فعل خطابي وأداء مجتمعي مرتبط مباشرة بمفهوم العائلة على حساب الإنسانة نفسها التي نضعها في نمط واحد (مثالي) لا نقبل غيره ولا نملك القدرة حتى على مناقشته، وهو ما نستطيع بسهولة ملاحظته في حياتنا جميعًا، ويحتاج إلى شجعان يناقشونه ويجعلونه مادة علمية قابلة للمقدمات والنتائج وخاضعًا للمنطق العلمي في التفكير، وهي الشجاعة التي امتلكتها شيرين أبو النجا.
ينطلق الكتاب من مجموعة أسئلة متصلة تأخذ برقاب بعضها، هذه الأسئلة تولد أسئلة أخرى، كما أنها في مجملها تكشف الهدف المضمر للكتاب، على حد قول شيرين أبو النجا، وهو إعادة التفكير في الأمومة بوصفها مؤسسة وتجربة فردية وأحد طرق التعبير عن الذاتية والفاعلية.
أما عن منهج القراءة في الكتاب، فله علاقة قوية بالأدب المقارن، بل تحدثنا شيرين أبو النجا عن دراسات التوازي، حيث يتعامل الكتاب مع الأمومة بوصفها خطابًا عابرا للحدود القومية النفسية والأدبية، حتى أن الرؤية التي تحكم الكتاب تقوم على أن الأمومة فعل مكتسب اجتماعيًا وليس غريزيًّا، كما أن الكتاب يقوم على التأمل في الخطاب وفي العلاقات الداخلية للنصوص وعلاقتها بما يجاورها من نصوص أخرى.
وكانت النتيجة أن جاء الكتاب في 14 فصلا، كل فصل يناقش فكرة ما، كأنها حلقات متصلة تكمل السلسلة، محاولًا رصد أكبر قدر من التعددية في مفهوم الأمومة، عاقدًا المقاربات ومشيرًا إلى الاختلافات وكاشفًا عم كون مفهوم الأمومة في الثقافة الغربية يختلف تمامًا من حيث المفهوم والمصطلحات المستخدمة عن مفهومنا في ثقافتنا الشرقية.
كما أن الكتاب حافل بالمعرفة والثقافة المتنوعة من العالم شرقه وغربه فنجد مثلا قراءات تحليلة لأعمال مثل (مذكرات فتاة رصينة) للفرنسية الشهيرة سيمون دو بوفوار، و(نساء على أجنحة الحلم) للمغربية الكبيرة فاطمة المرنيسي، ونقرأ دراسة في كتاب (عن المرأة المولودة) للأمريكية إدريان ريتش، وديوان (وبيننا حديقة) لسارة عابدين ومروة أبو ضيف، حيث تنطلق من فكرة أنه بينما يعد كتاب ريتش بمثابة حجر كان من الضروري إلقاؤه من أجل تحريك أفكار راكدة عن النساء، فإن ديوان و(بيننا حديقة) يقدم رؤى متعددة ومختلفة بقدر اختلاف موقع كل شاعرة، لكنها تتفق على كون الأمومة تساهم في فهم أعمق للذات.
وفي فصل بعنوان "أشباح الأمومة والكتاب" تتوقف شيرين أبو النجا عند الكتاب المهم للشاعرة إيمان مرسال (كيف تلتئم؟ عن الأمومة وأشباحها)، وكتاب (حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم) لـ إليف شافاك، وتناقش الصراع بين العزلة التي تحتاج إليها الكاتبة والعطاء المستمر الذي يتعين على الأم منحه لأطفالها، بينما فصل (لن أتركك للموت) يتوقف عند رواية دنيا زاد للدكتورة مي التلمساني، ومسرحية (تصبحين على خير يا أمي) لـ مارشا نورمان، حيث الأم في العملين منغمسة تمامًا في تفاصيل اليومي والمألوف، وفي كلا النصين تواجه الأم الموت بغضب ورفض وإنكار وحزن وبكاء وفقدان ثقة بالنفس، مع طرح الأسئلة الوجودية التي تتلخص في ماذا أفعل من دونك.
عن نفسي توقفت كثيرًا أمام فصل (الأشعار المحروقة والابنة المفقودة) وتأثرت بحياة الرائدة عائشة التيمورية، وما جرى لها، وكيف حملت نفسها ما لا تحتمل من ألم لأنها حاسبت نفسها على مفهوم الأمومة الذي طالبها به المجتمع، وشعرت بالذنب لتقصيرها في ذلك الأمر، وهناك أيضًا كتابات لنصوص خليجية وعربية كاشفة عن المجتمع والبيئة والثقافة السائدة، ونصوص غربية مؤثرة وفارقة، وهناك أحداث سياسية ومواقف وشعر ورواية ومسرح وحيوات بشر، كل ذلك مثَّل دليلًا استرشاديًّا للوعي المطلوب.
لا أريد استعراض جميع الفصول لأني سأظلمها في هذه المقالة القصية، لكن الكتاب يقدم وجبة دسمة، كما يقولون، من حيث المنهج والثقافة والمعرفة وطرق تحليل النصوص بما يتناسب مع الموضوع المطروح، كما يكشف أننا بحاجة إلى مثل هذه الكتب كي نفهم أنفسنا ونفهم الجرم الذي نرتكبه بسبب اتباعنا للتنميط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة