لا يُكرِّر التاريخُ نفسَه على الإطلاق. ربما يتنكَّرُ فى هيئاتٍ مألوفة نوعًا ما؛ لكنه يظلُّ مُختلفًا بدرجةٍ واضحة فى زياراته المُتكررة.
ولَّدَتْ النكبةُ الفلسطينية موجةً هادرة من التهجير، وطُرِحَتْ الفكرةُ من يَومِها عديدَ المرَّات، ويُجدِّدُ الرئيس الأمريكى العائدُ حديثًا إثارتَها فى غلافٍ جديد.
المُشترَك بينها جميعًا أنَّ طرفًا يَثبُت على خياراته الحارقة، والآخر يتحرَّكُ فى صيرورةٍ دائبة بين المحطَّات المُتتالية؛ لا يَملّون هُم، ولا نتوقَّفُ نحن عن التعلُّم وشحذ الأدوات.
أمَّنت المُبادرةُ للجلاد مكسبًا سهلاً، والإسنادُ الغربى الظالمُ أعانه على سرقة الزمان والمكان. حداثةُ الهَمِّ أوقعَتْ الضحايا فى الفخِّ قبل نحو ثمانية عقود، وكُلفةُ الضياع عزَّزت لديهم غريزةَ البقاء على امتدادها.
وأخيرًا قادَتْهم الحِيَلُ الدفاعيَّةُ إلى خُلاصة الامتحان الوجودى: الأرض والدم صنوان لا يتمايزان، ولا ينفكُّ عناقُهما الحارّ. وهكذا تجمَّدت الأوضاعُ وتضخّمت الأعباء، وظلَّوا على هامش التاريخ المُعتم؛ لكنهم فى القلب المُضىء من مَتن الجُغرافيا.
تُشبه القضية الفلسطينية كُرةً دوّارةً على محورٍ ثابت؛ وكلما ضُرِبَت ترتدُّ إلى ذات النقطة. البشرُ هُنا حقيقة ماديّة لا تقبلُ الإخفاء، ولا حيلةَ معها ولو سُيِّلَتْ الخرائطُ وأُعيد ترسيمها.
كانت إسرائيلُ حلمًا صهيونيًّا فى رداءٍ يهودىٍّ؛ لكنها مثَّلَتْ احتياجًا لدى الغرب للخلاص من رواسب الماضى، والتكفير عن خطايا الحاضر. استنبَتْ لهم دولةً من العَدَم؛ لكنه لم ينشغل بما وراء الولادة القسريّة، ولا كيف يُطَوِّع الديموغرافيا لخدمة السرديّة المُلفّقة.
التَفَّتْ الدراما على مسارها الخَطِّى المعهود. والخيالُ المُنشئ للأسطورة رأى أنها قد تنطلى على المُطمئنيِّن للحقائق المُجرَّدة؛ بحيث يَحِلّ الأعداءُ ضيوفًا؛ ثم يُنازعون أهل البيت فى غرفة، إلى أن يطردوهم منه بالكامل. غادرَ مَنْ غادر، وتمسَّك الباقون؛ وتكفّلت الأرحامُ بتعرية الأوهام.
الأوزانُ اليومَ على ما كانت سابقًا. ابتدأ اليهودُ دولتَهم الاحتياليَّة وهم أقليّة، وبعد عقودٍ من القتل والطرد والمُطاردات ما يزالون أقليّة. لا أُفقَ لتغيير المُعادلات من الداخل، لا بالإبادة المُتوحِّشَة هُنا، ولا بالتناسُل والهجرات هناك. وعليه؛ يعودون مُجدَّدًا لالتماس الحلول من الخارج.
قتلَ الصهاينةُ زهاء مائتى ألفٍ منذ التقسيم؛ لكنَّ الأعداد تضاعَفَتْ عشرَ مرَّات. وَلَغُوا فى دماء خمسين ألفًا من أهل غزَّة بعد «طوفان السنوار»؛ فضخَّتْ الأرحامُ مثلَهم تقريبًا فى الفترة نفسِها. التقتيلُ لا يرعب الوعى ولا يقمعه، وابتلاعُ الأرض يُعزِّز الضغط؛ فتصيرُ القنبلةُ البشريَّةُ أثقلَ وزنًا وأعلى خطرًا.
الحديثُ عن التهجير الآن قد لا يكون جديدًا؛ لكنه بات مطلبًا مُلِحًّا حسبما يراه المُحتلُّ. إذ يرفضُ التسويةَ السياسية من جانبٍ، وتدهمُه الوقائعُ بثِقَلِها من الآخر. والوَهْم الذى قاده لافتراض إمكانية تفريغ فلسطين من ساكنيها، يَسوقُه من جديدٍ لمُغامرة الهروب من مُنازعةٍ محدودة بين النهر والبحر، إلى صداماتٍ لا قِبَلَ له بها مع الإقليم بكاملِه؛ ولو واتاه فيها أباطرةُ العالم بقوَّتهم الكاسحة، وفيضٍ غير محدودٍ من الغطرسة والغرور.
مشهدُ العائدين من جنوب غزَّة إلى شمالها قبل يومين، وانتقالُهم من خرابٍ إلى خراب بفرحةٍ عارمة، لا معنى له إلَّا أنهم يطلبون الحياة بشروطٍ مُحدَّدة لا محيدَ عنها، أوّلها أن تكون على التراب الذى يألفونه ولا يرتضون عنه بديلاً. الاقتلاعُ رومانسيَّةٌ مُفرِطة؛ ولو كان صالحًا لتصفية الصراع ما وَصَلنَا لِمَا هو عليه الآن.
ربما تضيقُ الصدور بما أحدثته «حماس» فى السنة الأخيرة؛ لكنَّ العوام يُجيدون الفَصْل جيّدًا بين الخطأ والخطيئة. والحركةُ إذ أربكت المشهدَ وحمّلته فوق ما يُطيق؛ فليس بين البدائل المطروحة أصلاً أن يقتَصّ المنكوبون من أنفسهم، ولا أن يُعينوا العدوَّ على الوطن.
تلك ثابتةٌ لا كلامَ بعدها؛ إنما الخطرُ من فوارق القوّة بين الطرفين، وحماوة الأجندة الصهيونية، وخبراتهم فى الاحتيال وتسويق السرديَّات الزائفة. وهُنا تنفتحُ الحدود على بعضها؛ ليس من زاوية تيسير العبور وإزاحة الكُتلة الصلبة من حُماة القضيَّة وأصحابها؛ بل بأنْ تتَّخِذَ صِفَةً محليّةً فى كلِّ بلدٍ مُجاور، وتتشابَكَ عضويًّا مع صالحه العام، وموضوعات الأمن القومىِّ فى أشدِّ صورها راديكاليَّةً واستعدادًا لكلِّ الاحتمالات.
اختبرَتْ مصرُ القضيَّةَ مُبكِّرًا، ومن كلِّ جوانبها. كانت فى طليعة القتال وقتَما فرضَه السياق، وتمرَّسَتْ على السياسة عندما صار ضروريًّا أن تتَّخذَ الحربُ صورةً أُخرى. وأحبطَتْ دعاوى التهجير مَرّةً إثرَ مَرّة، واستشرفتها فى الجولة الأخيرة قبل أن تُوضَع على طاولة المُقترحات أصلاً.
حملَتْ مُقاربة القاهرة للطوفان وتداعياته رسائلَ افتتاحيَّةً بالغةَ الوضوح. ركَّزت على الشاغل الإنسانى، وانعدام فُرَص الحسم العنيف؛ لكنها أعادت «حَلَّ الدولتين» إلى الواجهة، وتحدّثت علنًا عن خطط التفريغ السكانىِّ، وأنه لا سبيلَ إلى إزاحة الغزيين، وغيرهم من الفلسطينيين، قسرًا أو طوعًا.
فى الذاكرة ما كان عقب شهورٍ من ثورة 23 يوليو 1952. طُرِحَت الفكرةُ تحت عنوان «خطَّة سيناء»، دعمَتْها واشنطن، وتصدّت لها الإدارة المصرية، وكانت لها الولاية على غزّة وقتها. بينما كانت التوازُنات القائمة فى صالحهم، بعدما خرج العرب مَهزومين من حرب الـ1948.
المُفارقة أنَّ القطاع انتقلَ لعُهدة الاحتلال بعد نكسة يونيو، وظلَّ تحت سيطرته إلى جانب سيناء لنحو خمس عشرة سنة؛ وما تيسَّر لهم إنجازُ عملية الزحزحة والاستبدال، والغزّيون بمَن أُضِيْفَ لهم من اللاجئين أقلّ من ثلاثمائة ألفٍ، والفكرة لا تتطلّب وقتَها أكثرَ من الترويع والحافلات.
ربما تأخّرت تلّ أبيب عن السير فيها لطمعٍ فى الانتفاع المُطلق بالجوهرة السيناوية، أو لخوفٍ من كُلفة تقريب الفلسطينيين من بدوِ مصرَ وجيشِها المُتأجِّج بالغضب غربىَّ القناة؛ إنما يصحُّ القول أيضًا إنها ما وجدَتْ سبيلاً مع الجحافل المُرَاد نقلها، وخشِيَت من رَدّ فعل المصريين؛ حتى وهى مَزهوَّةٌ بالنصر، وترفعُ رايتَها على شطرٍ عظيم من أرضهم.
صحيح أنَّ طبيعة الإدارات الأمريكية لم تكن على حال النسخة الراهنة؛ لكن العالم أيضًا لم يَكُن على يقظته وإلمامه الحاليين، والمنطقة كانت فى مخاضٍ، والفلسطينيون أقلّ عددًا وأكثر هشاشة، وعُمق المأساة لم يَكُن شارخًا للصدور كحاله اليوم. باختصار؛ ما تعذَّر مع سيولةٍ أكبر قديمًا، وكانت الظروف مُواتيةً؛ يستحيلُ إنضاجه وقد تبدَّل الزمن وتصلَّبت الهُويَّات.
خطُّ التاريخ المُستقيم لا يُمكن أن يقود لحَلٍّ سوى الدولة الفلسطينية، ودونه الدوران فى المكان والعَود على بدءٍ دومًا. والصهاينة لا يستدعون قديمَهم من خزائن الإخفاق إلَّا لعِلّةٍ فى الوعى، أو لعجزٍ عن إنتاج بديلٍ آخر، وإنكارٍ للخيار العقلانىِّ الوحيد.
أطروحاتُهم وليدةُ الهشاشة لا القوّة؛ لكنَّ استهلاكها من جهة الإدارة الجمهورية فى واشنطن ناشئةٌ عن جهلٍ مُطبِق، وقصورٍ فى النظر، وعدم استيعابٍ للماضى وحقائقه الثابتة.
مُعضلةُ ترامب الكُبرى أنه ينظر لنفسه من زاويةٍ رساليّة، تتخطَّى فكرةَ التصحيح إلى الخَلق والإنشاء. بمعنى؛ أنه يعتبرُ حضورَه على مسرح الأحداث بدايةً لتأريخٍ جديد، وليس استكمالاً لمساراتٍ سابقة مع قدرٍ من التحريف أو التعديل.
يقتربُ الرجلُ حثيثًا من «فخ ثيوسيديدس». والمُصطلح المُستَلهَم من المُؤرِّخ والجنرال الإغريقى البارز، كان منذ صكَّه جراهام أليسون يستشرفُ الصراع المحتمل بين الولايات المُتَّحدة والصين، انطلاقًا من نزعةٍ حربيَّة تطرأ من خارج الحسابات، عند اللحظة التى تتلاقَى فيها امبراطوريّةٌ ذابلةٌ مع أخرى صاعدة. كما كانت الحرب البيلوبونيسية ناشئةً عن مخاوف إسبرطة من صعود أثينا.
وإذ يقول السيد دونالد إنه راغبٌ فى السلام، وزاهدٌ عن الاحتراب والمعارك الساخنة؛ فإنه يحاولُ تأخير الصدام المحتوم مع منافسيه على وراثة العالم بطرقٍ احتياليَّة، ناعمةٍ حينًا وخشنَةٍ أحيانًا. وقد لا يكونُ الفارق بعيدًا بين تلويحه بالرسوم الضريبية فى وجه التنين الأصفر، وزمجرته التى لا تخلو من ميولٍ عنيفة فى الشرق الأوسط.
كأنه يستشعرُ أنَّ التجربة استنفدت إمكانات النموِّ من داخلها، وعليه أن يُفتِّش جيوبَ الآخرين لإنعاشِها وإطالة زمنِها؛ حتى يكون القرنُ الراهن قرنًا أمريكيًّا كما كان سابقه. ولهذا يحشدُ فى سَلّته عُدَّةَ القتال المُؤجَّل، من كندا إلى جرينلاند وقناة بنما، وأخيرًا فلسطين.
تبدو القضايا مُتباعدةً؛ لكنها وثيقةُ الصِّلة ببعضِها فى العُمق. لا يُفكّر ترامب فى الجغرافيا باعتبارها قيمةً فى ذاتها، وتاريخًا صُلبًا أو سياسةً تتجسَّد ماديًّا. خلفيَّتُه العقاريّة تراها من زاوية الرِّيع والمنفعة فحسب، ومن ثَمَّ فلا معنى لديه للثابت الوطنىِّ، ولا الروابط العاطفية، ولا للتوازُنات الجيوسياسيَّة محمولةً على القوّة أو الأخلاق. الأرضُ مُجرَّد أصلٍ مُوَلِّدٍ للثروة، ولا دورَ لها إلَّا أن تكون فى خدمة الاقتصاد.
بالنسبة له؛ فإنَّ كندا محض واجهة فسيحة غنيّة بالموارد، وقليلة الأعباء ديموغرافيًّا، وجرينلاند خزانةٌ من الثروات بجانب مَوقعِها الاستراتيجىِّ، والقناة البَنَميَّة وسيلةُ قفزٍ سريعة بين المحيطين، ومَسرَبٌ خلفىٌّ لقَطع الطريق على المُنافسين؛ بأكثر من وَصلِها مع النفس والشركاء.
وبالمنطق ذاتِه؛ فالقضية الفلسطينية ليست سوى عقبةٍ فى مسار القُطبيَّة الاقتصادية المُهدَّدة بالأُفول. بقاؤها فى ذاته لا يعنيه؛ إنما ينشغلُ بترتيب أوضاع المنطقة بما يسمحُ له بتأميمها لصالحِه حصرًا، واستنزاف ثروات مراكزها الماليَّة المتضّخمة بالأُصول وفوائض والثروات، والعاجزة عن إنتاج رؤى استراتيجيّة تتحقَّقُ لها الاستقلاليّة الكاملة.
فكرةُ التهجير لا تنبعُ من نزعةٍ تطهيريَّةٍ خالصة. صحيحٌ أنه يُبدِى شيئًا من العنصرية الفجّة فى مُقاربته لملفِّ الهجرة فى الولايات المُتَّحدة؛ لكنه لا يُقيِمُ وزنًا للبشر بالإجمال، إلَّا من حيث كونهم أدواتٍ للإنتاج وفائض القيمة أيضًا، مثلهم كمثل الأراضى والعقارات والمصانع وشركات التقنية.
يضيقُ بالفلسطينيين كأثرٍ لا شعبٍ أو أفراد، وبقدر ما يُخاصمهم على أرضهم؛ فقد يتعاون معهم فى نطاقٍ بديل. ربما يُثيرُ اللبنانيون حفيظتَه، أو فريقٌ منهم؛ لكنه يُصاهِرُ لبنانيًّا ويضمّه إلى إدارته. ولديه مُحاميةٌ عراقيّة مُحبَّبة له؛ رغم أنه قد لا يطيق ذِكْر بغداد، وعَمَّا قريب سيضعُ يدَه فى يد الجولانى، وربما لو تيسَّرت الظروف فقد يستقبل الحوثى أو خامنئى نفسَه فى البيت الأبيض.
ومَبعثُ الضيق من أهل غزّة حاليًا، وربما الضفّة الغربية فى مُستقبلٍ قريب للغاية، أنهم يُعطّلون مشروعَ إحلال الاقتصاد بديلاً عن السياسة، وسَبْك الإقليم فى سبيكةٍ واحدةٍ تكون عَونًا له لا عليه، وأداةً فى صراعاته لا مساحةَ لَعِبٍ مفتوحة لكلِّ الأطراف.
والتهجيرُ وفقَ هذا الشرط، مَدخلٌ للهندسة الديموغرافيَّة بمُعطىً اقتصادىٍّ لا حربىّ. والمعنى؛ أنه يهربُ من النار إلى ما يتوهّم أنه بردٌ وسلام، وحالما يستوثِقُ من كُلفة المسار البديل، أو أنه يُهدِّده بأضعاف الوَضْع القائم؛ فربما يكونُ أوَّلَ المُنصرفين عن مشروع الإزاحة الديموغرافية؛ ولو كانت مصلحة الولايات المُتَّحدة نفسِها تقتضى تقوية إسرائيل وتثبيت دعائمها فى المنطقة.
الهيئةُ الغربيَّة بكاملِها نظرَتْ لإسرائيل منذ البداية على أنها استثمارٌ فى الشرق الأوسط؛ لكنَّ الطابعَ الوظيفىَّ يتعاظمُ على مقياس ترامب. أسلافُه ربما رأواها قاعدةً عسكريّةً مُتقدّمة، واكتفوا بأدوارها الأمنية والجيوسياسية؛ لكنه قد يكون مُنحازًا بدرجةٍ أكبر لتوصيفها على معنى المشروع التجارىِّ. وهو إذ يُحاول كَنْسَ المُهدِّدات من مُحيطها؛ فلأجل استدامة العائد، وليس تفجير مجالها الحيوىِّ بمَزيدٍ من التوتُّرات.
والقَصدُ؛ أنه مأخوذٌ بفِكرتِه إلى المدى الأخير، ولن يتوقّف عن إثارتها وتحويرها، ومحاولة إدخالها بالاحتيال أو التهديد على الأطراف المَعنيّة؛ كما لن يعود لرُشدِه، إلَّا بعدما تَثبُت لديه آثارُها الجانبية، ويختبرُ عَمليًّا أنه يُغامرُ بإهدار مزيدٍ من عناصر القوَّة، ذهابًا إلى مزيدٍ من مُثيرات الفوضى.
مساعيه كُلُّها مُنصرِفَةٌ لتطويق المُنافسة الناشئة فى مَهدِها. كانت مُقاربةُ الولاية الأُولى مع كوريا الشمالية لعَزلها عن المجال الصينىِّ، وصفقته مع طالبان التى تركَ فواتيرَها لخلَفِه جو بايدن، أراد منها أن يختلِقَ حجرَ عثرة فى بُقعةٍ حيويَّة لبكين وموسكو، وبالآليَّة ذاتها استحسَنَ إحلال بديلٍ أُصولىٍّ عن نظام الأسد، ولو فى عباءةٍ عُثمانيَّة لا تقلُّ جشعًا عن الجمهورية الإسلامية؛ لا لشىءٍ إلَّا أنَّ بوتين سيفتقد إطلالته على المياه الدافئة، وبقيّة المنطقة سترتمى فى أحضانه ضامنًا من انفلات الميليشيات الإسلاميَّة الصاعدة.
يحتدمُ الصراعُ بالأساس على المَمرَّات وأحزمة التنمية والنفوذ. وهو فى مُناورةٍ للجَمع بين مُتناقِضَيْن؛ أنْ يُؤجِّجَ الشرق والغرب لتعطيل مسار المُنافسين، وأن يُبرّدهما بما يكفى لعبوره إلى باقة أهدافه الكاملة. وإذ يُترجِمُ سُلوكَه بالاستعلاء على الحديقة الخلفيَّة فى أمريكا اللاتينية؛ فإنه يُقرّبها أكثر من الصين وروسيا، وبينما يلعبُ فى إحداثيَّات المنطقة العربية؛ فلعلّه يُضاعِفُ القلاقلَ فيها، فضلاً على تغذية مشاعر الغضب والعداء.
وإزاء تعثُّره بين ما يُريده وما يخشاه؛ فإنَّ التعاطى معه يتطلّب مُلاعبتَه بالعصا والجزرة فى الآن نفسه، أكان من زاوية المنافع والاستثمارات، أو إحماء مجال الاتِّصال المشترك دون تهيُّبٍ أو إغفالٍ لفاعليّة الصَّخَب.
إنّه رئيسٌ بذهنية «بيزنس مان»، وعقليته حسّاسةٌ إزاءَ المُتغيّرات كأسواق المال تمامًا، وإرباكُه بالجَلَبَة واللاءات وتسعير المواجهة، إمَّا أنْ يقودَه لتكييف رُؤاه على وجهٍ مُغاير، أو يُبَطِّئ اندفاعتَه ريثما تتبدَّل التوازنات فى نواحٍ أُخرى، أو يتسرّب الوقتُ من فراغات أصابعه.
والحال؛ أنَّ الزمنَ سيكشفُ الغوامض ويُصوِّب المسارات قطعًا، إنما لا يجب الارتكان لأثر التجربة فى مجال تطوُّرها الطبيعىِّ؛ بل تتعيَّنُ المُبادَأة بكلِّ السُّبُل الدفاعية والهجومية المُتاحة، وتكثيف الرسائل الشعبية قبل الرسمية، وألَّا تغيب القُوى الإقليمية كلها عن الجولة، مع استنهاض الفواعل الدوليّة داخل البنيّة المؤسسيّة للنظام العالمى، أو من ائتلافات الجنوب وبلدانها المُنافسة للهيمنة الأمريكية؛ ليصيرَ واضحًا أنه إزاء جبهةٍ عريضة لا تُختَزَلُ فى دولةٍ أو اثنتين، وتقاطُعاتٍ عابرة للجغرافيا الفلسطينية، من تخومِ إسرائيل إلى شتَّى بقاع الأرض.
عاشت اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية قرابة خمسة عقودٍ حتى الآن؛ لأنها احترمت الجغرافيا والتاريخ، ورسَّمت العلاقة بين البلدين وفق ضابط قانونى، وإن بقِيَت فوق التآلُف ودون الصراع؛ لكن البحث فى تحريك البشر لا يختلف عن تحريك الخرائط، وكلاهما إيذانٌ بالذهاب إلى تصوُّر مُختلف تمامًا فى الاشتباك مع كامب ديفيد وتركة حرب السادس من أكتوبر، وستكون له تكاليف من خارج الكتالوج المُتخَيَّل لدى السيد ترامب أو حُلفائه فى تل أبيب.
علاقات القاهرة وواشنطن مُستقرّة طوال السنوات الأخيرة، وكانت مثالية فى ولاية دونالد ترامب الأولى، وصلته بالرئيس السيسى تحمل صِفة الصداقة بالمعايير الموضوعيّة؛ لكنه يتعشَّم فيما لا يقبلُ البحث أصلاً، وأغلقته القيادة السياسية المصريّة تمامًا فى وقت مبكّر، ولا تقبل التداول فيه من الأساس.
سيّد البيت الأبيض يُجرّب قدميه فى الحذاء الجديد، ويبدو كما لو أنه لم يستفِد من خبراته لأربع سنوات سابقة. سيتعثَّر قليلاً فى أطماعه، وفتنته بذاته، ونزوعه إلى البلطجة؛ إنما ستُطوّعه الوقائع قريبًا بالجبر أو الاختيار. الأرجح ألّا تتوتَّر العلاقات، وتظلّ الفكرة مجرّد «سحابة صيفٍ» عابرة.
صحيحٌ أنه ميّال للاستعراض، ومُغرَم بصورة الرجل المجنون المُستعارة من أوراق نيكسون؛ لكنه يظل قادرًا على قراءة الشواهد وإعادة التَّمَوضُع بعقليّة رجل الاقتصاد على الأقل.
الطريق مسدودة تمامًا، وتصريحاته الأخيرة أمس تُؤكِّد استيعابَه لنهائيّة الموقف المصرى، لكنه كالعادة لن يعترفَ بالإخفاق سريعًا.
سيُغريه الإنكار كما فعل فى انتخابات 2020، وقد يسعى لإثارة الغُبار بالطريقة نفسِها؛ لكنه سيقتنعُ فى النهاية كما اقتنع قبل أربع سنوات. التاريخ ليس بُرجًا تبنيه مجموعة ترامب العقارية، ناهيك عن أن يسكنه رجل لا يُحسن قراءته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة