يبدأ صاخبًا ثمَّ ينتهى إلى لا شىء تقريبًا، لسانه يسبقُ عقلَه، وفوضاه تُعطِّل مسيرته، كما أنه لا يُجيد اختيار معاركه غالبًا. هكذا كانت عادته؛ ويبدو أنه يُداوم عليها.
سبقَ أنْ لوّح برغبته فى السيطرة على جزيرة جرينلاند خلال ولايته الأُولى، وأخفق؛ وإذ يُجدِّدُ إثارةَ المسألة اليوم؛ فإنّه يعود على بدءٍ فى تكراره للتجارب الفاشلة.
بالضبط مثلما يُثير مسألة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزَّة حاليًا، وكانت واحدةً من محاور خطَّته السياسية للتسوية فى المنطقة قبل أربع سنوات، وما تحرّكت شبرًا واحدًا للأمام؛ اللهم إلَّا عدَّة اتفاقات إبراهيميَّة كانت والعَدَم سواء.
الرئيس ترامب شعبوىٌّ لا يملُّ، وتَفتِنُه الاستعراضات اللفظيَّة، ويبدو أنه لم يُغادر حالةَ الإلحاح على الاهتمام منذ جرّبها قبل سنواتٍ فى عالم تليفزيون الواقع، ولم يُقلع عن إدمانها من وقتِها.
له نكهةٌ لاذعة، ويتفجَّرُ بأفكارٍ من خارج الصندوق؛ لا على معنى الابتكار ومُفارقة المألوف بإيجابيَّةٍ مُبدعة، إنما لجهة كَسْر الأُطر العقلانية فى مُقاربة السياسة وموضوعات الشأن العام.
لقد وجدَ حاضنةً داخليَّة مُؤهَّلة لاستيعاب فورانه العارم، والافتتان به، بينما يتزحزحُ الغربُ بإيقاعٍ مُتسارع إلى جهة اليمين؛ لكنه يُخطئ لو أغرَتْه حفاوةُ الأمريكيِّين بتعميم لُعبته على العالم.
ويُخطِئ السيِّد دونالد أكثر بافتراضه أنَّ لدى الآخرين ميولاً شبيهةً بما فى بيئته، أو أنهم يستحسنون انفلاتَه ويُرحِّبون به، أو على الأقلّ يعجزون عن مُجابهته بأدوات الصراع السلمىِّ؛ طالما أنه يُهيمن على النظام الدولىِّ، ويَطمئِنُّ للفوارق الشاسعة على مقياس القوَّة الخَشِنَة.
لستُ مُغرمًا بنظريّة المُؤامرة؛ إنما بعض ما يتواترُ من القوى الكُبرى أحيانًا لا يخلو من روائحها. وكما كان الانتدابُ البريطانىُّ احتيالاً لتمرير خطّة الاستيطان، وتلفيق وطنٍ للصهاينة فى فلسطين؛ فإنَّ رسائل سيّد البيت الأبيض نُسخةٌ مُحدَّثة عن التجربة ذاتِها، وجولة استكشافيَّة لأُفقٍ بدا مسدودًا طوال العقود الماضية.
رغبَتْ العصاباتُ الصهيونيَّةُ منذ البداية فى كَنْس الأرض من ساكنيها، وما تيسَّر لها بأثر الولادة المُتعثّرة وقوّة الحقائق التاريخية والجغرافية؛ لكنها عادت سريعًا لإثارة المسألة، ورفضتها القاهرةُ قبل ثورة 23 يوليو وبعدها، وما تزالُ على رفضِها الحاسم، طازجًا كما كان فى يومِه الأوّل.
لم يَكُن مَرَّ على رجوع ترامب للسُّلطة أكثر من ستّةِ أيَّامٍ، عندما فاجأ الصحفيِّين قبل دقائق من إقلاع طائرته فى رحلةٍ داخليَّة إلى ميامى، بالحديث عن رغبته فى نَقل الغزّيين إلى مصر والأُردن ودولٍ أُخرى، وساق الأمرَ من جهة المِحنة الإنسانية، وحاجة المنكوبين لمُتَّسعٍ يخلو من خراب الحرب ومراراتها، ويُعينُهم على بدء حياةٍ مُستقرّة وهادئة.
الرومانسيِّون فقط كانوا يُراهنون على ترامب، أو يصرفون النظر عن أنه سيذهبُ حتمًا لإثارة عنوان التهجير من زاويةٍ إنسانية، ثمَّ من باب السياسة والاقتصاد وإغراء الطامعين فى توطيد الصداقة مع واشنطن، والضغط على الرافضين لنزواته المُعتادة. ربما جاءَ الكلامُ أسرعَ من المُتوَقَّع؛ لكنه كان مُتوقَّعا على كلِّ حال.
اشتعلَ العربُ جميعًا فى بيئاتهم الرقميَّة، وردَّ وزيرُ الخارجية الأُردنىُّ أيمن الصفدى على هامش لقائه سيجريد كاج، كبيرة المُنسِّقين الأُمَميِّين للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار فى غزَّة، ثم قدَّم إحاطةً بالمعنى ذاته أمامَ مجلس نواب المملكة أمس؛ لكنَّ الرسالةَ الأعمق حُمِلَتْ على جناح الدبلوماسية المصرية، والرسالةَ الأشدَّ وَقعًا سطّرتها الجماهيرُ الغفيرة، وأفاض فيها المصريون على كلِّ شبكات التواصل.
أصدرت الخارجيّةُ المصرية بيانًا حصيفًا ومُتقَنًا، أهمّ ما فيه أنه انطلقَ من أرضٍ راسخة، لم يتخلّ عن الرزانة المعهودة، ولم يفتقد الحرارةَ المُتناسبة مع السياق، وبدا كما لو أنه يُقارِبُ المسألةَ بثقةٍ عالية وعقلٍ بارد.
وبقَدر انشغالِه بتبيان موقف الدولة وثوابتها الركينة؛ فإنه تقصَّى عبارات ترامب جُملةً جُملة، وفنَّد المُغالطات فيها، ودشَّن جدارًا عاليًا فى وجه الأطماع والدعايات.
جاءت الصياغةُ عُموميّةً مُجرَّدة فى مائةٍ وسبعين كلمة فحسب؛ إذ لا حاجةَ للّغو والاستطراد فى المسائل المحسومة، ولا هلعَ يتسلّط علينا لنُداريه فى البلاغات المُطوّلة.
صائغٌ مُحترف وماكر للغاية، ما ذكرَ القائلَ انصرافًا عن الشخص إلى الموضوع، وربما لاعتباراتٍ وأعراف دبلوماسيَّة؛ إنما الضمنىُّ فيها أنَّ ما مضى سابقًا سيمضِى مُجدّدًا، والأيَّامُ تطمُرُ الواهمين كعادتها، ويبقى الثابتُ الوطنىُّ بمعزلٍ عن الوجوه والأسماء.
حفاوةٌ عارمة من ملايين المصريين، ومعهم أمواجٌ هادرة من بعض العرب ذوى النفوس الصافية. تلاقى الجميعُ على امتداح الرسالة الدبلوماسية المحسوبة بدقَّةٍ مُتناهية، وما أبانته من حكمةٍ صُلبة، ورسوخٍ لا تحرّكه الزوابعُ الطارئة، ولا تستدرجه السخونةُ المُفرِطة إلى الشعبويَّة، أو الاشتباك مع الغريم فى بِركة الوَحل.
الولاياتُ المُتَّحدة قُطبُ العالم الراهن، وربما تملك التجربةَ الأنضج فى الديمقراطيَّة والمُؤسَّسيّة؛ لكنها بدت فى تصريحات ترامب «جمهوريَّةَ مَوزٍ» تتسلَّط عليها إرادةُ فردٍ واحد، وبأردأ الصُّوَر المُمكنة لإنتاج السياسات وتسويقها.
وفى المُقابل؛ عبّر البيانُ المصرىُّ عن انضباطٍ يحكمُه العقل، وعقيدةٍ لا تتبدَّل باختلاف الأنظمة والمسؤولين، وعن دبلوماسيَّةٍ عريقة لا تتجاوزُ تاريخها وتقاليدها العتيدة، وتعرفُ أنَّ ما يُمَرَّرُ عبر القنوات الرسمية؛ يتعيّن أن يكون على قدر البلد، وألَّا يتدنّى فى الفكرة أو الصياغة؛ ولو كان يتصدّى لجنونٍ لا منطقَ فيه، أو لبلطجةٍ لا تليقُ بالدُّوَل العاقلة؛ ناهيك عن تكون رياديَّةً وقائدة.
سمعَ السيِّد دونالد جُملةَ الرفض خمسَ مرَّاتٍ فى أُسبوعه الأوَّل. الدنمارك وسُلطة جرينلاند المحليَّة ضد أطماعه فى الجزيرة، والكنديِّون تمرُّدًا على مساعى إدخالهم فى عصمة الولايات المتحدة تحت الرقم 51، ومن الجنوب بشأن الهجرة والتصعيد ضد المكسيك.
والرابعة من كولومبيا، وقد أعادت طائرتين مُحمّلتين بالمُهاجرين وتبادَلَتْ معه حربَ الرسوم الضريبية، وأخيرًا من القاهرة، وخلفها إجماعٌ مصرىٌّ وعربىٌّ، فيما يخصُّ أوهام اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم التى يحوزونها فعلاً، أو المسروقة مُؤقّتًا، وإلى موعدٍ لا بديلَ فيه عن استعادة الحقوق.
ربما لا تحملُ الذاكرةُ لرئيسٍ أمريكىٍّ من الستَّة والأربعين السابقين، أنه أثارَ كلَّ هذا القدر من الغُبار فى عدّة أيام. حتى ترامب نفسه فى إطلالته الأُولى برقم 45، وقد دخل مسرحَها مُتأجِّجًا فى الخطاب؛ لكنَّه وفَّر الصدامات لأسابيع لاحقةٍ، وانتهى عند نقطةٍ أبرد كثيرًا من التى يَبتدِئُ منها الآن.
الاشتعالُ الزائد إمَّا أن يكون للاستكشاف وضَبط المُعادلات؛ فيقودُ لتهدئةٍ لاحقة، واستدراكٍ على الذات وفقَ حدودٍ عقلانيَّةٍ نوعًا ما، أو يكونُ إشارةً إلى سنواتٍ من الهياج، لن يكون فى مَقدوره التحكُّم الكامل فى تفاعُلاتها، أو سدّ الشقوق بين التناقضات القائمة، وما سيتولّد مُستقبلاً عن اندفاعته الفجّة فى جغرافيا عالميَّة مُعبّأة بالألغام.
استوفَتْ الولاياتُ المُتّحدة حظَّها من الاستعمار فى داخلها. واكتفى المُهاجرون الأوائل بإبادة السكان الأصليِّين، ثمَّ توسَّع أحفادُهم بتطويع المُتمرّدين داخليًّا، أو الشراء المحدود من الآخرين.
بُنِيَت تجربتُها الامبراطوريَّةُ على كُتلةٍ صُلبة مُتماسكة، وأطرافٍ طويلة سهلة التحريك. مع توظيف شراهة المُنافسين ضدَّهم، والوعى بأنَّ الخرائط فخاخٌ للقُوى الكبرى؛ بقدر ما تَقضِمُ ما لا تستطيعُ ابتلاعَه وإدخالَه فى نظامها الحيوىِّ.
استندت ألمانيا النازيّة لأقل من 400 ألف كيلومتر مربع، أوقفَتْ بها العالمَ على أطراف أصابعه، وحتى لو أضفنا إيطاليا واليابان لا يتَّسع قوس «دول المحور» بأكثر من ضِعْفَى الرقم، وبالدول الخمس التى انضمت لاحقًا تظلُّ المساحةُ أصغرَ من جرينلاند التى يطمع فيها ترامب حاليًا، ومن ألاسكا التى اشتروها بسبعة ملايين دولار فقط.
انتصر الحُلفاء فى الحرب العالمية الثانية لأنهم كانوا أقوى، لا أكبر، وكانوا فى الجانب الصائب على مقياس التحضّر والقِيَم.
ولعلَّ الضخامةَ كانت عِلّةَ السوفييت لاحقًا، واستُغِلَّت ضدّهم فى الحرب الباردة، رهانًا على أثر التنازُع والتباينات العرقية والثقافية، وأنَّ انعدام الانسجام أخطرُ على البلدان من استهداف الأعداء، ومن مُؤامرات المُتآمرين فى الداخل والخارج.
ومُعضلة ترامب أنّه لا يقرأ التاريخ، وربما يعجزُ عن استيعاب الحاضر. الرجل محدودُ الثقافة، ومعرفتُه السياسية فى الحضيض، ناهيك عن أمورِ الاستراتيجية، وإلمامِه بالصراعات الكُبرى، وقضايا العالم العابرة للأيديولوجيا وتبدُّل الإدارات.
وفى الولاية الأُولى رافقته نُخبةٌ من العقلاء المُجرِّبِين؛ لكنَّ نُسخَتَه الثانيةَ توحَّدت مع الإحساس المُتضخّم بالعَظَمة، وتورَّطت فى جنون الارتياب لأقصى مدىً من تعاريف البارانويا وتمثُّلاتها؛ فأحاط نفسَه بتيّارٍ تغلبُ فيه الهوايةُ على الاحتراف، وتُقاسُ جدارتُه بالولاء قبل الكفاءة.
تركيبةُ الإدارة الحالية لا تُثيرُ الانزعاج بشأن جنون أفرادها؛ إذ الرجلُ نفسُه يُلامس السقفَ، ولا يعوزُه مزيدٌ من الطيش وقلّة العقل؛ لكنَّ الخطر أنه لن يجد فى دائرته مَن يُسمِعَه كلامًا عاقلاً، أو يُنشِّط الكوابحَ كلَّما اقتضى الظَّرفُ أن تتباطأ واشنطن، أو تتخفَّفَ من بعض أحمالها الثِقال.
وعليه؛ فاللعبةُ فرديّة تمامًا تلك المرّة، ولا مدخلَ إليها إلَّا من جهة الرئيس نفسِه، وبالمفاتيح الوحيدة التى تضبطُ انفعالاته: تربيحه إن كُنتَ قادرًا على ذلك، أو وضعه أمامَ احتمال الخسارة الكاسرة؛ حتى لو اضطررت لمُقاسَمتِه فى الأعباء. النزوة منها بمعزلٍ عن المصالح الأمريكية، وردعُها يبدأ من ارتداعه أيضًا.
تتقارَبُ الولايات المتحدة مع الصين فى المساحة؛ ولعلّ الرئيس الجديد يتصوَّرُ أنَّ الجغرافيا الحالية استنفدت طاقاتِها، وأنه لا فرصةَ لكَبح الغريم وتجديد السَّبْق؛ إلَّا من باب القَضْم ونفخ الجسد الشائخ؛ فيسعى لابتلاع جرينلاند.
صحيحٌ أنَّ للجزيرة أهميّةً استراتيجية؛ لوُقوعها على طريق الممرَّات المُستجَدَّة فى القُطب الشمالى، وإطلالتها المثاليَّة على السواحل الأوروبية وأطراف آسيا؛ لكنَّ واشنطن لا تفتقدُ الحضورَ العسكرىَّ على أرضِها، ولم تُمانِعْ الدنماركُ فى تطويره وتوسيع مداه.
والمعنى؛ أنها دعوةٌ ناشئة عن نزوعٍ استعمارىٍّ خالصٍ، لا عن حاجةٍ وظيفيَّة تفرضُها اعتباراتُ الأمن القومى. وكذلك الحال مع كندا، الجارة الشمالية الوديعة، والمنضوية تحت جناحِها بالفعل فى كثيرٍ من القضايا؛ لكنها القفزةُ الواسعة التى تجعلُ الولايات المُتّحدة أكبرَ دول العالم؛ بحيث لا يعودُ الحَجْمُ ميزةً تُرجِّحُ الكَفَّة الروسيَّة فى السباق على صياغة النظام الدولىِّ الجديد.
والحال؛ أنَّ إعادة تسمية خليج المكسيك باسْمِ أمريكا ليست عملاً استعراضيًّا، ولا منفعةً مَعنويَّةً عابرة. إنها على الأرجحُ مُقدِّمة لطَىِّ السماء فوق الجارة الجنوبية، وإدخالها فى المجال الأمريكىِّ، ترويضًا أو حصارًا. وبالانتقال إلى قناة بنما؛ فإنّه لا يتطلَّعُ لاستعادة المجرى الملاحىِّ بمعزلٍ عن فضائه الجيوسياسى، وستمتدُّ المَظلّةُ لفضاء أمريكا الوسطى وكامل الأرخبيل المحيط.
ينامُ السيِّد الهائج على نحو عشرة ملايين كيلو متر مربع، ويطمعُ فى الصحو على ما يفوقُ الضِّعفَ بمليونين إضافيِّين أو يزيد.
والمُفارقة أنها المساحةُ التى بلغَها الاتحادُ السوفيتىُّ فى أَوْج قوَّته؛ قبل أن يضمَحِلّ وتتآكَلَ أطرافُه، بعضها بالبَتر الكامل، والبعض بالاستيعاب وفقَ صيغةٍ اتحاديّةٍ تُرجِّحُ الاستقلال على البقاء، طالَ الوقتُ أمْ قَصُر.
قواعدُه على امتداد الأرض، وأساطيلُه تجوب البحار من أدناها لأقصاها. لا ينقصُه الحَجمُ، ولا تَعوزُه القوّة؛ لكنه يقيسُ الإمكانات على قاعدة الأُصول، وكما يليقُ برجلٍ لم يختبِر الرِّبحَ بعيدًا من العقارات وشهوة التملٌّك، وكان يُناصِبُ شركات التقنية والاقتصاد الرقمىِّ العداءَ حتى وقتٍ قريب.
ربما يعرفُ مقدارَ بلده على وجه سليم؛ لكنه يحسِدُ «بوتين» على ثروته العقارية الطائلة، ويَغلُبُ الطَّبعُ فيه على التطبُّع؛ فينتصر التاجرُ على الحاكم، والانتهازىُّ على العاقل، ويقيسُ القُدرةَ بالكيلو متر، ويحسبُ العَظَمَة بانتزاع ما يحلو له من أيدى الآخرين.
وعلى المنوال نفسِه؛ تطلّع السيِّد دونالد إلى خريطة الشرق الأوسط، فرأى إسرائيلَ ضئيلة ومحدودةَ الحجم، ودرسَ كيف يُوسِّعُها على حساب الجيران وأصحاب الأرض الأصليِّين.
وإذ يُسوِّق دعواه للتهجير مخلوطةً بنكهةٍ إنسانية؛ فإنه فى الواقع يمضى على طريق التَّوسِعَة سالفة الإشارة، وينظرُ لقضيّةٍ مُعقّدةٍ، أتعبت أربعةَ عشر رئيسًا قبله، من هارى ترومان حتى جو بايدن؛ كما لو أنه يُبرِمُ صفقةً عقاريّة عابرة.
والمُقدِّمات تُوحِى بالنتائج غالبًا؛ لكنها لا تحصرها بشكلٍ كامل. التكتيكُ يبدأ من غزَّة، والاستراتيجية إخلاء فلسطين التاريخية. الجولة التالية ستكون مع الضفّة الغربية؛ فإذا تقبَّل الأُردنُ أهلَ القطاع، فمن الأَوْلى أن يُلَملِمَ شتات العوائل الموزّعة على جانبى النهر؛ ثمَّ تكون قوانين التطهير وطَرد فلسطينيِّىّ الخطّ الأخضر، تحت عنوان الدولة اليهودية الصافية عِرقًا ودِينًا.
والإنسانيَّةُ الحقّة؛ لو كان الرئيس ترامب يعرفُها أو ينشغل بها من الأساس، تبدأ من الإقرار بحقِّ الغزيِّين فى أرضهم على حالتها الراهنة، ثمَّ تعويضهم عن الخراب الذى تسبَّبت فيه إسرائيل، وإعادة إعمار القطاع ليعودَ صالحًا، لا للحياة فحسب؛ إنما ليكون جناحًا ثانيًا للدولة الفلسطينية الضائعة، ومُرتَكَزًا لصناعة السلام الذى يبتغيه؛ لو كان عاقدًا النيّةَ وصادقًا فى العَزْم فعلاً.
يتناقَضُ الرجلُ من حيث لا يُدرك؛ إذ بينما يُفرِطُ فى الحديث عن كراهيَّته للحروب ومساعيه لإنهائها؛ يسلكُ الطريقَ التى يراها أقصرَ وأقلَّ كُلفةً، ويَغُضّ الطَّرفَ عَمَّا فيها من مصاعب ورهانات حارقة.
اشتعلَتْ القضيَّةُ قبل ثمانية عقودٍ؛ لأن إسرائيل زُرِعَتْ فى فلسطين قهرًا، ولَمَّا تنطفِئْ بعد، ولن تنطفئَ أبدًا؛ لأنَّ الفلسطينيين لم يتحصّلوا على حقوقهم المشروعة. لا حلَّ من جهة إبعاد أصحاب الأرض، ولا حصافةَ فى الهروب من مجمرةٍ إلى بركان.
مليونان فقط على 365 كيلومترًا مُربَّعًا أقَضّوا مضاجِعَ الصهاينة. دفعوا فاتورةً باهظةً من الدم والمال؛ لكنهم اعتادوا ذلك، ولا غضاضة لديهم فى تكراره. البشر وقودٌ؛ لكنَّ العِلّة فى الحجر، ولا معنى لنَفخ الاشتباك الصغير بدلاً من تسويته، وإنقاذ إسرائيل من مدينةٍ صغيرة، عبر وضعها فى مُواجهةٍ مع 130 مليونًا على 1.1 مليون كيلو متر مُربَّع؛ هذا لو اكتفينا بمصر والأردن، ولم نُضِف إليهما بقيّةَ الغاضبين داخل فلسطين وخارجها، وعلى امتداد الإقليم.
رحَّبَ اليمينُ الصهيونىُّ بالرسالة الترامبيَّة المجنونة؛ لكنهم أكثرُ العارفين بأنه لا سبيلَ لإنجازها بالتراضى مع دول الجوار، ولن يقبلَها الغزّيون الآن أو أهلُ الضفّة مُستقبلاً. لا منفذ للضغوط السياسيَّة لأنها مسألةُ اعتقادٍ وطنىٍّ، والمَسرّب الوحيد عبر الخشونة، وهى آخر ما يحتاجُه ترامب فى بيئةٍ شرق أوسطيَّةٍ مُلتهبةٍ أصلاً، وتتناوَشُ على امتدادها قوىً عِدّة، أغلبُها لا ترتاح للهيمنة الأمريكية، ولن تُوفِّر فرصةً لاختصامها فى كلِّ الساحات البديلة؛ أقلّه لتَضعِيف أزماتها، أو لتسريع ولادة النظام الجديد.
بيانُ الخارجية المصرية مُوجَزٌ وكاشف، ولا يحتاجُ لشرحٍ أو تأويل. لا مكانَ على الطاولة إلَّا للتسوية السياسية، والاحتلال أساسُ عدم الاستقرار، أى أنَّ المشكلة ناشئةٌ عن بقائه على الأرض السليبة، ولن تُحَلّ بإفراغها من سُكّانها؛ على استحالة ذلك، وقد طُرِدوا فى زمن النكسة وما توقَّفوا عن النضال من الخارج، وحينما تُشْبَكُ الخُطّةُ باعتباراتٍ عُليا لدى الجيران؛ فستكون الخطوةُ بدايةَ صدامٍ شامل، لا مُفتَتَحًا للتهدئة أو تجميد الأوضاع.
تدعَمُ مصر صمودَ الشعب الشقيق، وترفضُ اقتلاعَه بكلِّ الصور، من الاستيطان إلى الإخلاء والضَّمّ والتهجير. وعليه؛ فالقاهرةُ لا تقبلُ الإزاحة الديموغرافية للفلسطينيين من غزَّة أو الضفّة فى المُطلق، أمَّا أن تُسَاق على معنى «الوطن البديل»؛ فإنَّ السياق يتَّخِذُ صفةً سياسيّة وأمنيّة مُغايرة تمامًا، ويستوجِبُ رُدودًا من قاموسٍ مُغاير، مفتوحة صفحاته على كلِّ المُفردات والتعابير من دون استثناء.
حالةُ الاحتفاء الهادرة بالبيان، من القوى السياسية والمَدَنيَّة وعامّة المواطنين؛ لا تُترجِمُ صورةَ التطابق الكامل بين الدولة والقاعدة الشعبية فحسب؛ إنما تكشِفُ عن استيعابٍ للظَّرف بما ينطوى عليه من مُقدِّماتٍ ونتائج، وتُؤكِّدُ النكهةَ الإجماعيَّة، والجاهزية للذهاب معًا إلى كلِّ الخيارات.
لن تُحبّ واشنطن أن تَصُبّ مزيدًا من الزيت على منطقةٍ مُشتعلةٍ أصلاً. والعلاقاتُ مع الإدارة الجمهورية كانت جيدةً فى نُسخَتِها السابقة، وأتصوَّرُ أنها لن تنحرِفَ بعيدًا عن هذا. سيُعيِدُ ترامب مُراجعةَ موقفِه وتقييمه، وقد يُخفِّف أطروحتَه النَّزِقة أو يسحبُها عن الطاولة، وأسوأ البدائل أن يُبطِئ من إيقاع استهلاكه حتى تنطفئ زهوتها، أو تنقضى الولايةُ دونَها.
الإسرائيليِّون أعلمُ من غيرهم بكُلفة المُغامرة مع مصر، وما يُشجّعهم إلَّا اندفاعة ترامب الهائجة، وأحسب أنها مدفوعةٌ بنشوة النصر، وفرح العودة للبيت الأبيض من فوق رؤوس الديمقراطيين والخصوم داخل الحزب الجمهورى.
وبُمجرَّد أن يُجرِّب الرجلُ عقلَه بعد انتهاء فُسحة التعطيل؛ ستتغيَّر لُغتُه ومُقارباته العمليَّة، وسيبتلع الصهاينةُ ألسنتَهم بالضرورة؛ لأنهم عاجزون عن ابتلاع غزّة الصغيرة مع العَون الأمريكىِّ الكاسح، وليست فى وارد التفكير، ولو خيالاً، فى التقدُّم لِمَا هو أبعد.
بادر ترامب لإفراغ ما فى مصارينه، وهو أحوج الناس إلى إسعافه بالدواء دون إبطاء. جيِّدٌ أن يختبر هامش الرفض العميق لبعض عناوينه الساخنة، وأن يستكشف أهل المنطقة نواياه مُبكِّرًا؛ وتُوضَع الأوراق كُلّها على مرأى الجميع، من دون مواءمات أو رماديّة ومُناورات.
يتعثّر ترامب كعادته فيما بين الجهل بالجغرافيا والتعالى على التاريخ، ولن يتوقّف عن غرامه بالتقافز بين السيئ والأسوأ؛ لكنه سيعود مختارًا أو مُضطرًّا؛ لأنه لا يقدرُ على إذابة الخرائط، ولا العودة فى الزمن لتعديل الحقائق ومساراتها. كان البيان المصرى بما رافقه من غضبةٍ شعبيّة، بمثابة حسمٍ مُبكِّرٍ لمُراهقةٍ مُتأخّرة، وله الخيار بين دور مُشعل الحرائق، وطموح بناء إرث سياسىٍّ يليقُ بالتذكار، ولا تُشيّعه اللعنات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة