حازم حسين

الشرق ونظرية الرجل المجنون.. عن فتنة استدعاء نيكسون فى سياق يحتاج إلى كارتر

الإثنين، 27 يناير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

قطّع العالمُ تذكرةَ الرجوع إلى الهيئة التى عهدناه بها، واستقلَّ قطارًا إلى المجهول، ولا مُبالغة فى الأمر على الإطلاق. الجنون يُطوِّقُ الأرضَ من أرجائها، والراديكاليون فى أشدِّ صُوَرهم تطرذُفًا يقبضون على أَعِنّة الجغرافيا، ليُحرّفوا مسار التاريخ، وشاء العقلاء أم أَبَوا، فإنَّ عليهم التعاطى مع سياقٍ يخلو تمامًا من الرزانة والتعقُّل، كما عليهم التحلِّى بكلِّ ما أُوتوا من صبرٍ وسِعَة صدر، ومُواجهة الأعاصير بأدمغةٍ ديناميكيَّةٍ وأقدامٍ راسخة.

ما فات لن يعود، وما هو آتٍ يقتضى الصلابةَ ولُيونةَ الحركة معًا، وعُقدة التجربة فى أنْ تُقرَأ الحوادثُ على وقتها، ويُشتَبَك معها دون إبطاءٍ أو استعجال.
كلُّ الاحتمالات واردة، والناجون فقط مَنْ تتحصّن رُؤاهم بثابتٍ وطنىٍّ لا يقبل المساومة، وجبهةٍ داخليّة مُتراصّة دون فراغات، وبتكتيكاتٍ تُوازِنُ بين الدفاع والهجوم، ولا تفتقدُ المُبادرةَ فى الحالين.

مات القديمُ، ولَمَّا يُولَدْ الجديدُ بعد، على ما يقول جرامشى. افتُرِسَ النظامُ الدولىُّ حتى العَظْم منذ نهاية الحرب الباردة، وانطفاء شُعلة جناحه الشرقىِّ بأخطاءٍ هيكليَّة مُتجذِّرة فى أعماق الامبراطورية السوفيتية، سمحَتْ أوَّلاً بتمرير صيغةٍ مُشوّهة لتصفية تركة الحرب العالمية الثانية، ثمَّ أجهزت على شريك النصر بالأيديولوجيا، قبل أن يكون بالاقتصاد وفارق القوّة العسكرية، ومِن يَومِها، تُناضل روسيا للخروج من تحت الرماد، وتتعثَّر الدول الناجية من فَخِّ الاستقطاب فى بناء تجاربها التنمويَّة المُستقلَّة، وتفرِضُ واشنطن قانونَها على الجميع بغطرسةٍ ظاهرة. تَستَدعى موسكو لحربِ استنزافٍ حينما تريد، وتُطوِّق الصين بالعقوبات والقيود كلَّما استشعرَتْ منها خطرا، وتلعَبُ بالأوراق الحارقة فى كلِّ النطاقات، مُطمئِنَّة إلى أنها لا تُسدِّد فواتيرَ مُغامراتها غالبًا، وإن اضطُرَّت فليس أسهل من تحميلها على أرصدة الآخرين.

قبل ما يزيدُ قليلاً على خمسة عقود، كان الرئيسُ السابعُ والثلاثون للولايات المتحدة، ريتشارد نيكسون، وفى جُوقَتِه ثعلبُ الدبلوماسيَّة الأمريكية الراحل مُؤخَّرًا، هنرى كيسنجر. لم تَكُن لُعبةُ «عَضِّ الأصابع» مع السوفيت قد حُسِمت بعد، لكنَّ الاشتغال على رَصْف الطُّرق البديلة كان فى أَوْج نشاطِه.

الإدارةُ الجمهورية ما اختلفَتْ فى شىءٍ عن الديموقراطىِّ ترومان وقنبلته الذرية، إلَّا فى ظاهر التفاصيل ولُغة الخطاب، كما لم يختلفا مُطلَقًا فى النظر للشرق الأوسط، وعُضويَّة العلاقة مع إسرائيل، وهكذا كان دَيدَنُ الامبرياليَّة الأمريكية الناعمة، منذ انقلبت على «مبادئ ويلسون» بشأن حقِّ تقرير المصير، وجرّبت بكلِّ السُّبل تطويعَ مصائر البشر وبُلدانهم بالعين الحمراء حِينًا، وبالمَكر والاحتيال فى أغلب الأحايين.

قَرنان تقريبًا منذ مارست الولايات المُتَّحدة استعلاءها على الجيران الجنوبيِّين انطلاقًا من «مبدأ مونرو»، وجولاتٌ عديدة أُعِيْدَ فيها إحياءُ النَّزعة ذاتِها عَلَنًا أو استِتارًا.. وأحدثُ حلقات الاستطراد فى العقائد القديمة تتكرَّرُ اليومَ، إنما على صِفَةٍ كَونيَّة تتجاوزُ السواحل الأمريكية وحديقتها الخلفية كما كانت تُسمِّيها، وعلى ما زالت تنظرُ إليها حتى اللحظة.

وفى النكهة الجديدة مَزيجٌ من «مبدأ أيزنهاور» الذى استُنَّ قبل ستَّة عقود، لمُناطحة الكَون الماركسىِّ على خرائط الشرق الأوسط بالأساس، لكنه صار يُدِيرُ مُحرِّكات الحماية والعَون بحساباتٍ نَفعيَّة مُجرّدة، وعلى قاعدةِ أنْ تطرحَ واشنطن رُؤاها، وأنْ يُموّلها الآخرون لقاءَ إرخاء الراية المُرقَّطة بالنجوم البِيض والخطوط الحُمر، السبق لتلِّ أبيب دومًا، وعلى الراغبين فى عهد الأمان أنْ يَدخلوا فى العقيدة الوَلائيَّة لأجندة العَمّ سام، فيُحبِّون ما يُحبُّ كيفما يُحبّ، ويكرهون ما يكره بذات الوَصفَة والمقادير.

المشكلةُ الإقليمية نابعةٌ بالأساس من افتقاد الرؤية الجامعة، وغياب الاستراتيجية الساعية لتوظيف الإمكانات الكُلّية لمصلحة الجميع. ثمّة مُنافسة مكتومةٌ على الأدوار ومساحات الحركة، ودون اعتبارٍ للتاريخ والجغرافيا وفوارق الأوزان، والنتيجةُ، أنَّ غير المُؤهَّلين للقيادة إذ يتصدّرون عَنَتًا واستخفافًا، يصيرون أسهلَ على التطويع والإملاء والابتلاع، ويخصمون من الأوتاد الثقيلة للمنطقة، أو أقلّه لا يستفيدون من إمكاناتها المَصُون بالحقائق الواقعية والجيوسياسية.
مُشاغبةٌ من الجُوار القريب، وبهلوانيَّاتٌ فى القلب وعلى الأطراف، وشُقوقٌ تتَّسع من أثر الشَّدِّ والجَذب، حتى لَيَبدو أنَّ الطرائدَ المنظورة تتآمَرُ على نفسِها، وتهربُ من السِّكِّين إلى المَقصَلة.

قبل ما يَزيدُ قليلاً على خمسة عقود، صَكَّ نيكسون وثعلبُه كيسنجر «نظريَّةَ الرجل المجنون»، ومفادها باختصارٍ أنَّ الرئيسَ غريبُ الأطوار، وخارجٌ عن الأُطُر العقلانيَّة المُعتادة، ومن ثَمَّ فإنَّ أفعالَه غير قابلةٍ للتوقُّع أو القياس.

الحلُّ دومًا أن يستجيبَ المُناوئون لرغباته ويُلاقوه عليها عند أوَّل مَحطَّة، لأنه لا يُؤْمَنُ على الإطلاق إلى أين ستقودُه الأفكارُ المُتأجِّجةُ عند المحطَّة التالية.
أخفقَ الثنائىُّ فى التجربة حينًا، لكنها كانت فعَّالة فى بعض الأحيان، وفتحَتْ الباب لتحسين كفاءة السياسة الخارجية، واستحصال عديدِ المكاسب فى بيئاتٍ شتَّى.
وعلى ما يبدو، فإنَّ الإدارة الجمهورية الجديدة مُغرمةٌ بالتاريخ، وتقرأُ فى الكُتب القديمة بأكثر مِمَّا تنشغلُ بالحاضر وتوازُناته، وهكذا حجزَ الجمهورىُّ وليام ماكينلى حيِّزًا بارزًا من خطاب تنصيب ترامب قبل أسبوع، وتشغلُ نظرية نيكسون شطرًا أعظم من سُلوكِه ومواقفه العَمليَّة.

عَشريَّةٌ رئاسيَّة واحدة تفصلُ بين الرجلين، بالنظر إلى ترتيب السيد دونالد بين الرؤساء الأمريكيين فى عودته الثانية. صحيحٌ أنه آتٍ من خارج الكتالوج المُعتَمَد تمامًا، لكنَّ الميزةَ التى يستعيرُها من سَلَفِه البعيد تُمثِّلُ فى الوقت ذاتِه أبرزَ عيوبِه ونقاط ضعفه، والمعنى أنَّ الهَوائيَّة التى يتيسَّرُ عليها إزعاج العالم، وإبقاء العيون فى وسط الرؤوس، يتولّد عنها غيابٌ شبه كامل للثوابت، وانفكاكٌ عارمٌ عن الأصول، وإمكانيَّةٌ دائمة للانحراف والتوجيه من الخارج، إذ يتساند قُطبُ العقارات البارز لنزوعٍ تجارىٍّ حاكمٍ، وتَنبَنى حساباتُه الكُبرى على مُعادلة الربح والخسارة، ومن مَنظورٍ مالىٍّ بَحت.

يُريدُ إنهاءَ الحروب، بقدر ما يستطيعُ افتتاحَها، لكنه لا يضبط المسارين وفقَ استراتيجيَّةٍ واضحة أو غاياتٍ جيوسياسيَّة صُلبة، وقد يُحفِّزه دولارٌ زائدٌ على إعادة تقويم برامجه.

والنقطة السالفة وحدها، تفتحُ الباب للتأثير فى قنوات الاتصال مع البيت الأبيض، لا سيِّما من جهة المراكز الاقتصادية ودُوَل الوَفرة المالية، شريطةَ أن تُدَار المسألةُ بوَعىٍ عميق، وألَّا تأتى تَطوُّعًا أو كهَديَّةٍ مجَّانيّةٍ فى صندوقٍ شفَّاف.

السياسةُ مَطيّةٌ سهلة للهُواة، لكنها امتحانٌ عسير على المحترفين. وإذا كان الاقتصادُ أخطرَ من أنْ يُترَكَ للاقتصاديِّين، فإنَّ الجَمعَ بين المسألتين من زاوية النَّهَم التجارىِّ والشعبوية القيادية، يُهدِّدان طوالَ الوقت بإفسادهما معًا.

لم يَعُد العالمُ قابلاً للتعبئة فى زجاجةِ العَولمة البرَّاقة، فماذا لو كان أنبياءُ الدعوة إلى القرية الكَونيَّة الواحدة يَكفرون بها الآن، ويعودون إلى الحظيرة القَوميَّة على الصيغة التى اختبروها فى أزمنة الاستقلال والحرب الأهليَّة؟!

الفكرةُ هُنا أنَّه يتعذَّرُ إقناع الحُلفاء أنفسِهم بالنزول عن أُصولهم الثمينة، بينما تُبشِّرهم القوَّة الأكبر بعلاقةٍ إنجليزيَّة يدفعون فيها تكاليفَ عشائهم، وحتى لا يُبادِر «الجنتل مان» الأمريكىُّ باستباقهم إلى الطاولة وسَحب الكراسى لهم.

وانطلاقًا من انحراف المُعادلة فى بيتِها، فمِنَ الغباء الرهان على نجاعَتِها مع الجيران، أو خصوم الفكر والأيديولوجيا، والبيئات المُلتهبة شَرقًا وغربًا.
وأَرجحُ التصوُّرات أن تُفضِى المُغامرةُ إلى استنزافٍ مُتبادَل، أو لشيوعِ نَمَطٍ من التجرُّؤ الواسع على القانون، لن يَطولَ الوقتُ قبل أن ينتهى لصدامٍ كبير، أو صداماتٍ طَرَفِيَّة، مُفترقة ومُتقاطعة، تتضافر معًا لتصنع صورةَ الجحيم الكونىِّ الشامل.

فى وُلايته الأُولى، أفضَتْ مُقاربات الرئيس الصاخب مع صِهرِه الرمادىِّ جاريد كوشنر، إلى تلفيق تصوُّرٍ سياحىٍّ عن مُعضلة الشرق الأوسط، منحاه عنوان «صفقة القرن»، وانتهى أوراقًا صفراءَ فى خزانةٍ ضُيِّعَ مفتاحُها.

صحيحٌ أنّه لا يَعدَمُ البدائلَ، إنما لا يزالُ لدى الآخرين مَزيدٌ من الطاقة لصدّ العواصف، وإحباط النزوات الطارئة، ومنافذ لا حصر لها للمراوغة والانفلات، وبعضها مُزعجٌ بأضعاف ما فى خيال «البزنس مان» عن السياسة الرشيقة والأرباح السهلة.

ما أنتجَتْ السنواتُ الأَربَعُ الافتتاحيَّةُ إلَّا تصوُّرًا باهتًا عن إحلال الاقتصاد بدلا من السياسة، وبعد قُرابة العقد لا تبدو الاتِّفاقاتُ الإبراهيميَّةُ فاعلةً فى منظومة العلاقات الإقليمية، ولا أنها غيَّرت توازُنات المنطقة، أو حتى أفادت أطرافَها المُباشرين.

بُولِغَ للغاية فى الانسياق وراء نظرية الرجل المجنون، واستحسَنَ تيّارٌ عريضٌ من الإعلام والمُحلِّلين العَرَبُ تحديدًا تلك الحالةَ الدَّعائيَّة، واستثمروا فيها كما لو أنهم يضمنون أنْ تَصُبَّ فى خزّان عوائدهم.

والحال، أنَّ كثيرًا من الأساطير ما كانت هكذا فى زمنِها البِكر، ولولا فِتنةُ العَوَام بها وإيمانهم الغَيبىُّ المصنوع بحقيقتها ما تضخّمت، ولا صارت فيما بَعد قيدًا على العقول التى أنتجتها، والبديلُ قَطعًا لا يكون من جهة الاستخفاف والتهوين، أو الواقعية المُفرِطَة مع ما هو غير وَاقعىٍّ بالأساس، ولا حتى بإنتاج أسطورةٍ مَحلّيَّة بديلة، تتنافَسُ مع غيرها فى الحَمَاوة والصخب، إنما فى إعادة الاعتبار للعَقل مخلوطًا بشىء من الخيال الخلّاق والمحسوب، وتجزئة الحرب الكُبرى على معارك صغيرة مُتشابكة، والتحضُّر لِمَا بعد النصر والهزيمة فى كلِّ جولةٍ، بذات الكفاءة والحماسة والإقدام.

مع التسليم بالخطأ الكامل فى قرار «طوفان الأقصى»، إلَّا أنه لم يَكُن بدايةَ الأزمة على الإطلاق. والقَصْدُ هُنا لا ينصرف لجوهَر العِلَّة الكامنة فى الاحتلال، على واقعيَّتها وصِدقِها الكاملين، إنما لأنَّ الظروفَ التى فرضَتْها إسرائيلُ على الفلسطينيين قديمةٌ قِدَم القضيَّة نفسِها، ولعلَّ ضغوطَها لم تختلِفْ كثيرًا منذ «فكِّ الارتباط» مع غزَّة، واستفراد حماس بحُكم القطاع.

مُوجِباتُ التمرُّد حاضرةٌ طوال الوقت، والحركةُ كانت قادرةً على إطلاق هجمتها، أو أقلِّ منها قليلاً، فى سنواتٍ عديدة سابقة، بل إنها شهدت على اعتداءات مُتكرِّرة من دون رَدٍّ تقريبًا، وتركت «الجهاد الإسلامى» فى مُنازلاتٍ جُزئيَّةٍ، ولم تُبادِر إلى الإسناد.

والبحَثُ فى الأسباب المُباشرة ربما يبدأ من دخول ترامب الصاخب فى قائمة ترشيحات الرئاسة، واستشعار الفصائل الأُصوليَّة أنها فى حاجةٍ لإعادة ترسيم التَّمَوضعات الحالية، استشرافًا لما يُمكن أن يطرأ عليها من نزواتِ الإدارة الجديدة.

دُفِع «السنوار» إلى المُغامرة لحساباتٍ تخصُّ التزاماته الائتلافيَّةَ مع محور المُمانَعة، حتى لو غَسَلَتْ طهران يَديَها وأنكرت معرفتَها بالأمر. كلُّ التفاصيل كانت تتمحور حول السيد دونالد، فى غيابه كما فى حضوره، حتى أنَّ الاتِّفاق السعودىَّ الإيرانىَّ برعاية بكين، كان استباقًا لحلولِه على البيت الأبيض مُجدَّدًا.

وبعدما تحدَّثت الرياض عن اقتراب مُداولات تطبيع العلاقات مع تل أبيب فى سبتمبر قبل الماضى، استشعرت الشيعيَّةُ المُسلَّحة أنها تفتقِدُ أوراقَ التأثير فى مُعادلة الإقليم، وتقف على مَوعدةٍ مع إشكالٍ جديدٍ فى الولاية الترامبيَّة الثانية، ولن يكون فى مقدورها حتى مُجرَّد المُشاغبة من بوّابة الخليج.

وهكذا كان «الطوفان» طريقًا مُصطَنَعةً لإفساد التسويات الناشئة عن صفقة القرن، وعلى أطراف الاتفاقات الإبراهيمية، ووسيلةَ الجمهورية الإسلامية للتشغيب على الترتيبات المُضادَّة لمصالحِها العُضويَّة، والسائرة إلى تفكيك وُصايتِها المُستشرِيَة فى أرجاء الإقليم.

باختصارٍ، الرئيسُ الكاره للحروب دونالد ترامب، كان سببًا عُضويًّا من جُملة أسباب الطوفان. إحلالُ الاقتصاد بديلاً عن السياسة والحلول القانونية العادلة، سَدَّ الأُفقَ فى عيون الفلسطينيين، واحتمالاتُ عودتِه أزعجَتْهم من تسليمِه عُهدةَ الملفِّ عند النقطة التى تركَه عليها.

وبهذا، فإنّه الفاعلُ الأوَّل وراء الانسداد الراهن من ناحيتين، أنّه اقترحَ المسارات الخاطئة منذ البداية، وأضاءَ بترشُّحه كلَّ المصابيح الحمراء، فاستنفرَ الأُصوليَّةَ الإسلامية بجناحَيْها السُّنىِّ والشيعىِّ، فذهبا إلى ما ذهبا إليه من مُقاومةٍ بنكهة الانتحار.

أشاع نتنياهو، والإعلامُ اليمينىُّ المُوالِى له، أنّه حصلَ على تعهُّدٍ كتابىٍّ من الإدارتين الأمريكيتين، الراحلة والوافدة، بالعودة إلى الحرب فى غزَّة، حالما يتعطَّلُ الاتفاق.
وخطابٌ كهذا، كأنَّه يُؤسِّسُ الهُدنةَ على قاعدةٍ من الثلجّ الهشّ، ويُصرِّحُ استبَاقًا بنَقضِها، لا سيَّما مع المعرفة الكاملة بأنَّ الائتلافَ الحاكم فى إسرائيل لا يرتاحُ لإلقاء القُفَّازات الآن، بينما تقفُ الدولةُ العِبريَّةُ على أطراف أصابعها، انتظارًا لمواسم المُساءلة والحساب.

وزبدةُ القَول، أن صِدقيَّة الذهاب لتصفية المنازعات الخشنة على المَحَكِّ، وقد لا تكونُ أكثر من خطابٍ استهلاكىٍّ لتمرير الوقت، وانتزاع مكاسب ظَرفيَّة وبعيدة المدى عبر التلويح الدائم بالنار، أو استمراء سَرديَّة الرجل المجنون، فى لُعبةٍ يتقاسمُها الرئيسُ فى واشنطن، وحليفُه اللدود فى تلِّ أبيب.

من مَأثوراتِ تشرشل جُملةٌ بليغة للغاية، يقول فيها إنَّ الولايات المُتَّحدة تذهبُ للخيار الصائب، إنما بعد أنْ تُجرِّبَ كلَّ البدائل الخاطئة.
لكنَّ المُشكلةَ اليومَ أنَّ الإدارة الجديدة لم تستبعِدْ ما ثَبَتَ خطؤه، وتبدأ ولايتَها الثانيةَ كأنها ما غادرت السُّلطةَ ولا قَضَتْ أربعَ سنواتٍ بعيدًا من الأضواء، وراقبَتْ واستوعبَتْ تأثيراتِ مُقارباتها السابقة لقضايا وُجوديَّة لا تقبَلُ التصفيَةَ بمَنطقِ الصفقات الاقتصادية، ولا يُمكِنُ الانخراط فيها بمَعزلٍ عن تاريخها الطويل، وما أفضَتْ إليه الجولات السابقة من ميراثٍ مُتراكِم، احترابًا ومُهادَنة، ومن خطوطٍ عريضة لم تَعُد قابلةً للقَفز أو التحريك، ولا حتى لرَدعِ أطرافِها بسَيف الجنون، لا سيَّما لو كان جنونًا غايتُه الشَّطبُ على حقوقٍ راسخة، أو انتزاع مُكتسباتٍ لا يُقرُّ بها المَعنيِّون، وليس لديهم بعدها ما يخسرونه أو يخشون عليه.

لوَّح ترامب سابقًا بأنّه لا يستنكفُ تسييلَ الخرائط، قبل تجميدها على هيئةٍ مُلفَّقة. قال إنّه يَنظرُ لإسرائيل فيراها صغيرةً، ويعتقدُ فى حاجتها لمزيدٍ من الأرض.
ولأنَّ الجُغرافيا لا تَكبُر فى الزمن، ولا تنقسِمُ على نفسها بالتكاثُر الذاتىِّ، فالمعنى أنه يُرحِّب بزحزحةِ الحدود، والبداية طبعًا من فلسطين فيما بين النهر والبحر، ثمَّ بالنظر إلى الجيران.

أمسِ انتهَتْ مُهلةُ الانسحاب من جنوب لبنان بمُوجَب اتِّفاقِ وَقف إطلاق النار مع حزب الله، لكنَّ إسرائيل لم تَلتَزِم، وطلبَتْ من واشنطن تمديد المُهلَة، ودخلت بلداتٍ جديدةً لم تَدخُلْها بالقتال فى زمن الحرب.

وعلى صعيد غزَّة، فقد تعلَّلَت بأسيرةٍ واحدةٍ لمَنع النازحين للجنوب من العَودة إلى مناطقِهم فى الشمال، حتى بعدما قالت حركةُ الجهاد إنها حَيّةٌ، وتعهَّدت حماس بالإفراج عنها فى دُفعة السبت المُقبل.

لم يتحدَّث السيد ترامب عن الخُروقات، ربما لأنه لا يَحفَلُ بالقانون ولا يحترمُه، لكنه عاد لأفكارِه القديمة عن التكييف الديموغرافىِّ، مُستَترًا كما كان دائمًا بستار الحالة الجنونيّة المُستعارة من إرث نيكسون الباهت.

دعاوى تهجير الفلسطينيين ليست جديدةً، وطرحَها الصهاينةُ منذ السبعينيَّات تقريبًا، وكانت لهم تجاربُ مع الإزاحة الطَّوعيّة لبعض دُوَل أمريكا اللاتينيَّة. ومِمَّا أثارَه «الطوفان» من فوضى، وابتعَثَتْه أمواجُه من نفاياتٍ كانت مَطمورةً فى جَوف الأرض، ما ساقَه التوراتيِّون ومُتطرِّفو الليكود عن نقل الغزِّيين للجوار، وقَعَّده جيورا أيلاند وعصابته فى «خطَّة الجنرالات»، وقد تصدّت لها مصر بحسمٍ لا يقبلُ التأويل، وأفسدَتْ الأُطروحةَ المُنشَّطة عن ابتداعٍ سابقٍ، وما تزالُ على مَوقفِها المبدئىِّ الثابت.

والقاهرةُ إذ تتصلَّبُ فى تلك النقطة، فإنها تنطلقُ من رؤية واضحة لدى الإدارة، وظهيرٍ شعبىٍّ يُؤازرها فى كلِّ ما يتَّصل بدوائر الأمن القومىِّ، وما يُبقِى المسألة الفلسطينيّة حيَّةً، وحاضرةً على الطاولة رغمًا عن مُحاولات الإزاحة أو الإخفاء.

لا سبيلَ لتصفية القضية وتفكيكها من الداخل، ولا لتلفيق حلولٍ وتسوياتٍ غير مَوضوعيَّة لها على حساب الآخرين. والتصدِّى للجنون واحدٌ فى الحالين، أكان من مخابيل الأُصوليَّة التوراتيَّة واليمين القومىِّ فى إسرائيل، أم من مصدرٍ أكبر وأشدُّ خُيلاء وافتتانًا بالذات.

صار القطاعُ خرابًا، لكنَّ الحَلَّ فى تنشيط ورشة الإعمار، وإعادة الحياة للغزِّيين فى مناطقهم وعلى أرضهم. وإن كان فى الأمر احتياجٌ لبَديلٍ مُؤقَّتٍ، فبالإمكان تعويضهم عن غزَّة المُهدَّمة بمساحاتٍ أُخرى داخل وطنِهم المسروق، ريثما تُبنى الخرائبُ ويعود أهلها لسُكناها.

سؤالُ الضمير يبدأ من تعويض المنكوبين، ومن تحميل النازيَّة الصهيونيَّة مسؤوليَّةَ أفعالها، بالحساب أوَّلاً عن التوحُّش والإبادة الجماعية، ثمَّ بالبحث فى إلزامِها بتكاليف البناء ومُداواة غزَّة، ودَفع تعويضاتٍ عادلة للضحايا وذَويهم، وليس بإعانة بلدٍ مَارقٍ وخارجٍ على القانون والإنسانية، عبر تدبير احتياجات إصلاح ما أفسده من جيوب الآخرين.

الجنونُ هُنا لن يُنشِئ إلَّا جنونًا مُضادًّا ومُكافِئًا، مهما كان حجم الاختلال فى القُدرات. وكُلَّما تعالَى أحدهما سيتضخَّمُ الثانى بالضرورة والتبعية. كانت نزوةُ السنوار الشرارةَ التى أجَّجَتْ لَوثَةَ الصهاينة، إنما الحَلُّ فى إطفاء النار بالطُّرقِ الميسورة الآمنة، لا المُغامرة بالنَّفخ فى جانبٍ، مع إغفال ما سيتسبَّبُ فيه ذلك من تفجيرٍ للآخر.

نجح جنونُ نيكسون سابقًا فى إيقاف الحرب على جبهة سيناء عند خطوطٍ مُؤقّتة، فاتحًا الباب لسلامٍ لم يَكُن قادرًا على إنجازه سوى رئيسٍ مثل جيمى كارتر. والسيد دونالد أدانَ الأخير عن تفريطه فى «قناة بَنَما» لأصحابها، وينتهجُ سُلوكَ الأوَّلِ فى إرعاب الحُلفاء قبل الخصوم بالاختيارات الصاخبة، والضغط الأقصى، والإجراءات من خارج الصناديق.

المُؤكَّد أنه سيُنجِزُ أشياء، وسيعجَزُ عن غيرِها، وستنقضى ولايتُه بأرباحٍ من مَنظورِ الاقتصاد، ونزيفٍ فى السياسة والمكانة. الغرامُ بتجربة المُجرَّب فتنةٌ لا يَنعَتِقُ المفتونون منها بسهولة، والشعبويّة داءٌ عَقلىٌّ أكثر من كَونِها نُزوعًا استعراضيًّا، وأخطر ما يُواجِهُه العالم، والولايات المتّحدة نفسُها، أن يُستعارَ نيكسون، فيما يتعيّنُ الاقتداء فيه بكارتر.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة