مها عبد القادر

التنمُّر.. آثاره وآليات المواجهة

الإثنين، 27 يناير 2025 06:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

دعونا ندق ناقوس الخطر حيث يُعد التنمُّر أحد الظواهر السلبية بالمجتمع، وتمثل تعديًا مباشرًا على حقوق الأفراد وكرامتهم، وهو شكل من أشكال الإزعاج المتعمد والمكرر، وقد يتخذ صورًا متعددة مثل السخرية، والإهانة، والعنف الجسدي، أو حتى المضايقة النفسية، وتتسم هذه الظاهرة بعدم التوازن في القوة بين المتنمِّر والضحية، حيث يستغل المتنمِّر تفوقه الجسدي، أو الاجتماعي لإيذاء الآخرين، وجعلهم هدفًا للإذلال والإزعاج والمضايقة.


وهنا يجب التنويه أنه ليس كل تصرف مزعج أو موقف غير مريح يُعد تنمُّرًا؛ فالإغاظة أو الدعابة التي تحدث بين الأصدقاء أو أفراد العائلة في إطار من الود والتفاهم يمكن أن تكون طبيعية وغير ضارة، ولكن عندما تتعدى هذه المضايقات الحد المقبول لتصبح متعمدة، وجارحة، ومتكررة، فإنها تأخذ شكل التنمُّر، ويجب مواجهتها، كما أن المتنمِّر يكون واعيًا بأفعاله، ومكررًا لسلوكياته التي تهدف إلى الإيذاء أو التقليل من الشأن، مما يزيد من الضغط النفسي، ويجعل من الصعب على الضحية الدفاع عن نفسها أو الهروب من هذه الوضع.


ويتجلى التنمُّر كظاهرة اجتماعية من خلال أساليب متعددة من التعنيف والإساءة، تستهدف النيل من الآخرين نفسيًا أو جسديًا وتتفاوت أشكال التنمُّر، ما بين الاعتداء اللفظي باستخدام الألفاظ الجارحة، والإهانات كوسيلة للتقليل من قيمة الضحية، والاعتداء البدني أو أي تصرف جسدي يلحق الأذى بالضحية، ونشر الإشاعات؛ في محاولة لتشويه السمعة عن طريق نشر أكاذيب أو معلومات خاطئة بهدف التأثير على المكانة الاجتماعية، وكذلك اللجوء إلى التهديد وتعمد السخرية والنقد السلبي لتقويض احترام الضحية لنفسها واحترام الآخرين لها، أو وضعها في حالة من الخوف المستمر الذي يترك معه ندبات لا يستطيع الزمن محوها.


ويُشكل التنمُّر بجميع صوره وأماكن ممارسته تهديدًا نفسيًا واجتماعيًا للأفراد والمجتمعات، خاصة عندما يحدث في بيئات مؤثرة مثل المؤسسات التعليمية، وأماكن العمل، والأماكن العامة، أو عبر المنصات الرقمية كما تتعدد أنماط ؛ فهناك المستمر والمتكرر ويتمثل في سلوكيات متكررة تستهدف الضحية لفترات طويلة، مما يعمق الجروح النفسية ويزيد من الآثار السلبية طويلة الأمد، وهناك التنمُّر العابر، يحدث في مواقف لحظية كما في التنمُّر الإلكتروني أو التفاعلات العابرة بالأماكن العامة وعلى الرغم من قصر مدته، إلا أنه قد يكون مؤثرًا بشدة؛ لإحراجه أمام العامة.


والتنمُّر الإلكتروني يُعد الأخطر بسبب طبيعته الخفية وصعوبة مواجهته ويشمل أشكالًا متعددة مثل رسائل التهديد، التعليقات المسيئة، أو نشر محتوى يهدف للإضرار بالسمعة، أو الإحراج، أو الإيذاء، ويتفاقم تأثيره نتيجة الانتشار السريع والواسع عبر المنصات الرقمية والتنمُّر بجميع أشكاله، سواء كان مستمرًا أو عابرًا، يترك بصمة نفسية عميقة قد تؤدي إلى تدني احترام الذات، القلق، الاكتئاب، أو العزلة الاجتماعية ويؤثر على المستوى الأكاديمي، المهني، والشخصي للضحية، مما يجعله أقل قدرة على التكيف مع التحديات.


فالتنمُّر ليس مجرد سلوك عابر، بل هو ظاهرة تحتاج إلى فهم أعمق للتعامل معها بفعالية، كما تتطلب معالجة شاملة، فرغم أن المتنمِّر هو من يمارس هذا السلوك، إلا أن بيئته الاجتماعية تلعب دورًا كبيرًا في تشجيع أو محاربة هذا السلوك، حيث قد يتساهل المجتمع مع التنمُّر، أو يلوم الضحية ويتخلى عن حمايتها، مما يُسهم بشكل مباشر في انتشار هذه الظاهرة، ولذلك يجب أن تُبذل جهود لتعليم الأفراد أن يكونوا إيجابيين، وتوعيتهم بأهمية التعاطف مع الآخرين، وعدم التهاون مع أي شكل من أشكال التنمُّر.


كما تتعدد دوافع التنمُّر، ومنها انخفاض القدرة على التعاطف خاصة مع الأشخاص الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، كذلك سعى المتنمِّرون إلى استعراض قوتهم من خلال إساءة استخدام بعض المميزات الشخصية، أو التعويض عن نقاط الضعف؛ فكثيرًا ما يكون المتنمِّرين يعانون من مشاكل نفسية أو اجتماعية، مما يدفعهم لتعويض شعورهم بالنقص عن طريق إلحاق الأذى بالآخرين، أو يكون المتنمِّر ضحية للتنمُّر في بيئة أخرى خاصة به وهذا يُزيد من تعقيد سلوكه، أو يعاني من بعض الاضطرابات مثل اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع أو كونه شخصية نرجسية وهي تلعب دورًا في تطوير سلوك المتنمِّر، ويعاني من مشاعر غير منضبطة.


ونؤكد أن التنمُّر ظاهرة مجتمعية مرفوضة دينيًا وأخلاقيًا، حيث وضح الإسلام موقفه الرافض و محذرًا من أي سلوك يسيء إلى الكرامة الإنسانية، وفي هذا الصدد نهى عن التنمر بجميع أشكاله لما فيه من تعدٍّ على حقوق الآخرين وإيذاء لمشاعرهم، ونصت الآية الكريمة في سورة الحجرات رقم(11) علي ذلك قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وتؤكد الآية علي الاحترام المتبادل والنهي عن التنمُّر حيث يؤثر سلبًا على العلاقات الإنسانية ويؤدي إلى تفكك المجتمعات، كما أكد الحديث الشريف في قول رسولنا الكريم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم " إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ" مبدأ المساواة بين البشر، وأن التفاضل عند الله يعتمد على التقوى وليس على السمات المادية أو الاجتماعية.


ولخطورة التنمُّر اتخذت الدولة خلال السنوات الأخيرة جهودًا شاملة ووضعت رؤية متكاملة لمكافحته بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، والأسر، والمؤسسات التعليمية، والمنظمات الدولية، مما عكس شمولية الجهود المبذولة، ومن أبرز هذه الإجراءات صدور قانون مكافحة التنمُّر، حيث أصدرت الدولة المصرية تعديلات قانونية مهمة في عام 2020، شملت إدراج التنمُّر كجريمة قانونية، يعاقب عليها القانون بالسجن مدة تصل إلى 6 أشهر وغرامة تتراوح بين(10,000 وتصل 30,000) جنيهٍ مصري، مع تشديد العقوبات في حالات التنمُّر ضد الأطفال أو النساء؛ وتم إنشاء خط ساخن (16000) لتلقي الشكاوى المتعلقة بالعنف، كما تم فرض العقوبات على الجهات التي تتهاون في الإبلاغ عن حالات ا التنمُّر، وتُظهر هذه الجهود التزام الدولة بحماية حقوق الأفراد وتوفير بيئة آمنة للجميع، خاصةً للأطفال الذين هم الأكثر عرضة للتأثر.


واستكمالا لآليات الموجهة أطلقت الدولة بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية مثل اليونيسف، حملات توعوية إعلامية تستهدف الأسر والمؤسسات التعليمية للتعريف بالتنمُّر، ومخاطره، وكيفية مواجهته، والاهتمام بالتعليم الشامل الذي يركز على احترام التنوع، ومن أبرز هذه الحملات حملة (أنا ضد التنمُّر) التي شهدت مشاركة شخصيات عامة وقامات علمية وفكرية وفنانين؛ للتأكيد على أهمية التصدي لهذه الظاهرة، وتم إنتاج محتوى تثقيفي كأفلام قصيرة، وبرامج إعلامية، ومبادرات رقمية تُوضح أضرار التنمُّر، وتركز على التوعية بالقيم الإنسانية، كما قامت وزارة التربية والتعليم بتضمين برامج تربوية تهدف إلى مكافحة التنمُّر، بجانب الاهتمام بتدريب المعلمين والمشرفين في المؤسسات التعليمية على طرق وأساليب اكتشاف حالات ا التنمُّر والتعامل معها، وتقديم الدعم النفسي للضحايا، والعمل على توفير بيئات تعليمية آمنة وتنفيذ سياسات صارمة ضده ، كاعتماد لائحة سلوك واضحة تشمل إجراءات التعامل مع الطلاب المتنمرِين وآليات حماية الضحايا، لتوفير بيئة تعليمية آمنة وصحية للجميع.


ومن ضمن آليات مواجهة التنمر هناك مبادرات الدعم النفسي والاجتماعي، كما تم إنشاء وحدات للدعم النفسي في المؤسسات التعليمية وبعض المراكز الشبابية لتقديم المساعدة للأفراد والأطفال الذين يعانون من آثار التنمر، وقد تعاونت الدولة أيضًا مع منظمات مثل المجلس القومي للطفولة والأمومة لتقديم ورش عمل توعوية حول التنمر وآثاره النفسية، وتوعية الأسر بأهمية متابعة أبنائها ومعرفة علامات التعرض للتنمر، وتم ذلك بمشاركة المؤسسات الدينية لنشر الوعي بأهمية التسامح ونبذ العنف بجميع أشكاله وتنمية الوازع الديني؛ وبذلك اعتمدت جهود الدولة المصرية لمكافحة التنمر على استراتيجية متكاملة شملت التشريع، والتوعية، والدعم النفسي والاجتماعي، والتدخل المبكر من قبل الأسرة والمؤسسات التعليمية، وباستمرار هذه الجهود، تسعى الدولة إلى بناء مجتمع أكثر احترامًا، وتسامحًا، وأمانًا، حيث يجد كل فرد مكانه فيه دون خوف من التنمر أو التمييز.


وتتطلب معالجة ظاهرة التنمُّر وعلاج آثارها تعاونًا من الدولة وجميع أطياف المجتمع، بما في ذلك التوعية، ودعم الضحايا، وتوفير بيئة آمنة؛ فمن الضروري إكساب الفهم الشامل للتنمُّر وتشجيع الجميع على اتخاذ موقف حازم ضده، لضمان صحة وسلامة الجميع، وهنا تأتي أهمية التنشئة الاجتماعية فعلي الوالدين الحد من التنمُّر في المنزل والحرص على استخدام أساليب تربوية سليمة وتوفير ظروف وبيئة صحية بعيدًا عن العنف والاستبداد والتنمُّر الأسري ودعم عوامل الثقة بالنفس والكرامة وقوة الشخصية لدى الأبناء، وتأكيد قيمتهم الذاتية النابعة من تميّزهم الشخصي وليس التقليل من شأن الآخرين.
كما ينبغي مراقبة المحتوى الذي يشاهده الأبناء على شاشات التليفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، وحظر المحتوى المسيء والعنيف، والتبليغ عنه، مع الاهتمام ببناء علاقة صداقة مع الأبناء منذ الصغر والتواصل الدائم معهم، وترك باب الحوار مفتوحًا دائمًا؛ فهذا يساعدهم على الشعور بالراحة في اللجوء إلى الأهل، وإتاحة الوقت للعب معهم وتوفير الألعاب التي تهدف إلى تحسين القدرات العقلية لدى الطفل، والابتعاد عن الألعاب العنيفة، كما يمكن تدريب الأطفال على رياضات الدفاع عن النفس لبناء قوتهم البدنية والنفسية ودعم ثقتهم بأنفسهم، مع التأكيد على أن الهدف منها هو الدفاع عن النفس فقط وليس ممارسة القوة والعنف على الأخرين، أو مواجهة العنف بالعنف.


وأيضًا يجب التوقف عن المقارنة بين الأبناء بطريقة مؤذية تقلل من شأنهم، واعتماد المقارنة الإيجابية التي تُقوي رغبة الطفل في التفوق والاعتزاز بنفسه، مع متابعة دقيقة للسلوكيات المختلفة للأبناء في سن مبكرة والوقوف على السلوكيات الخاطئة ومعالجتها حتي لا تتفاقم وتنعكس علي الأخرين، ومن المهم عرض الشخص المتنمِّر أو الضحية على أخصائي نفسي أو اجتماعي، كخطوة مهمة لتقديم الدعم اللازم والعمل على التوعية بمخاطر التنمُّر من خلال برامج مدروسة توضح الآثار الكارثية للتنمُّر على الضحايا وعلى المتنمِّر نفسه وتوعية ضحايا التنمُّر بحقوقهم القانونية ومتى يُعتبر التنمُّر جريمة يعاقب عليها القانون، وتوعيتهم بكيفية توثيق تعرضهم للتنمُّر، فكل ذلك يساعد على بناء بيئة آمنة وصحية للجميع.


ونؤكد في نهاية الأمر على أهمية تنمية القيم وتقوية الوازع الديني والعقيدة، فهي تضيف بُعدًا مهمًا لمعالجة ظاهرة التنمُّر، إذ إن تقوية الإيمان والالتزام بالمبادئ الدينية وترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية له دور محوري في تشكيل السلوك الإيجابي وتقليل الممارسات السلبية؛ فعندما يتم غرس قيم مثل التسامح، والاحترام، والمساعدة، والعدالة في نفوس الأفراد، ومن خلال تضافر جميع الجهود؛ لمواجهة هذه الظاهرة يتم بناء مجتمع أكثر تماسكًا وتعاونًا وتسامحًا حيث يسعى الجميع إلى دعم بعضهم البعض ومواجهة الظواهر السلبية بشكل جمعي، ليكون لدينا مجتمع يزدهر فيه الأفراد على المستويين النفسي والاجتماعي، حيث يشعرون بالأمان، والثقة، والانتماء، مما يؤدي إلى تطوير بيئة تحترم حقوقهم، وتطورهم، وتدعم الابتكار، والتقدم، والاستقرار.

------










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة