حازم حسين

مرحلة رابعة تتقدّم على بقية المراحل.. صفقة غزة وفرصة ترميم نسيج فلسطين الوطنى

الأحد، 26 يناير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ليس مهمًّا أيهما فرضَ شروطَه على الآخر، ولا درجة المرارة فى كأس كلِّ طرفٍ؛ إذ لا حقيقة إلَّا أن الغزيِّين يعودون من أحراش الموت، وأنَّ البنادق تذوب اليومَ من زفرات الضحايا والمكلومين. غزّة على شَطّ الحياة؛ رغمًا عن جنون العدوّ والصديق، وعن ألاعيب المحاور والتحالفات.


اكتملت الدفعةُ الثانية من تبادُل الأسرى. الصفقة تمضى فى طريقها المرسوم، والرياح فى أشرعة الاتفاق المضمون بثلاثيَّةِ مصر وقطر والولايات المتحدة.. توقَّفت الحربُ؛ لأنها استنفدت طاقتَها، وأوصلت طَرفَيها إلى طريقٍ مسدودة!


والمُؤشِّرات حتى اللحظة تُرجِّحُ أنه لا خطرَ على المرحلة الأُولى؛ إنما الخوف من محاولات الالتفاف الحالية والتالية من جانب نتنياهو، مع انكشاف أنه مُجبَر على التهدئة مع حركة حماس، ولم يذهب إليها اختيارًا. وإن كان الإرغام يُقيِّده فى غزَّة؛ فالتحايُل عليه مُتاحٌ من جهة الضفَّة الغربية، وفيما بعد الأسابيع الستَّة الأُولى بالقطاع.


وما فات، يُوجِبُ النظرَ منذ الآن إلى ما بعد نهاية الشهر المُقبل، والبحث فى كلِّ المسارات الكفيلة بقَطع الطريق على حكومة اليمين، بما يضعُها فى مُواجهةِ أزماتها الداخلية، ويُقوِّض قُدرتَها على التشغيب وإثارة الغبار، أو التملُّص من التزاماتها تحت دعاوى لا تتطلَّب إلَّا الحدّ الأدنى من الأخطاء غير المحسوبة.
بحلول الثالث من فبراير، يُنتظَرُ أن تبدأ مُفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق، ومن المُقرَّر إنجاز تفاصيلها العالقة قبل نهاية الشهر نفسه بعدَّة أيام؛ ولعلّها الفاصلُ العميق والأكثر خطورة فى المسار بكامله.


الأسئلةُ الكبرى فيها لا تخصُّ طبيعةَ التبادُل، ولا المُعادلة الحسابية لأعداد الرهائن من الجانبين؛ بل ترتبط مُباشرةً باستكمال الانسحاب من القطاع ومحاوره العَرضيّة فى الوسط والجنوب، وشكل الإدارة المُقترَح فى غزَّة، وملامح «اليوم التالى» مع الإقرار بالخروج نهائيًّا من أجواء الحرب.


والمُعضلةُ؛ أنَّ الاستحقاقات المطلوبة هنا تبدو ثقيلةً على الجانبين؛ إذ تفرضُ على الصهاينة رحيلاً ناعمًا بطعم الهزيمة الكاسحة، ومن الحماسيين الاكتفاء بدعايات النصر، عن الطمع فى ترجمتها إلى مكاسب فصائليَّة؛ بحيث لا تكون الحركةُ جزءًا من مشهد الحُكم المُؤقَّت.


الجزءُ الغاطس من الصفقة يقتضى تحييدَ القيادة القديمة فى القطاع، وإنتاجَ بديلٍ لا تطغى عليه النكهةُ الأُصوليَّة التى ظلَّت مُتسيِّدةً للشريط الساحلى انفراديًّا لنحو عقدين كاملين.


وإذا نظرنا إلى الجبهة اللبنانية؛ سنجدُ أنّه كان يتعيَّنُ خروج الاحتلال اليومَ من كامل القرى والبلدات الجنوبية، حسبما يقضى الاتفاق المُوقَّع أواخر نوفمبر الماضى. وما حدث؛ أنَّ إسرائيل طالبت بتمديد المُهلة، وتعلّلت بأنَّ الجيش لم ينتشر بالإيقاع المُتَّفَق عليه، ولم يُخلُ الميدان العمليَّاتى من كلِّ مظاهر الوجود الحزبىِّ.


وبعيدًا مِمَّا فى رواية العدوِّ من ادِّعاءٍ وتزييف؛ فالواقع أنه يذهبُ للتسويات السياسية باعتبارها جزءًا من القتال، بينما يعدّها الآخرون نهايةً للجولة بما يفتحُ الباب للدعة والخمول، وتكون النتيجة غالبًا أنَّ أصحاب الحقّ يصبحون أبطأ فى الحركة، بينما يقبض اللصُّ على زمام المُبادَرة، ويُديرُ دفَّةَ الصراع كيفما يتراءى له، ويُحقِّق مصالحَه الظَّرفيَّة وطويلة المدى.


أُبرِمَتْ الصفقةُ شمالاً على ضوء قرار مجلس الأمن الدولى رقم 1701، وهو يتضمَّن فى ثناياه ما يُثَبِّتُ القرارين السابقين عليه، 1559 و1680، فيما يخصُّ ضبطَ الحدود وكبح السلاح خارج سُلطة الدولة.


والحزبُ إذ ارتضى التهدئةَ على شروط الوساطة الأمريكية الفرنسية؛ فقد اعتبرها فرصةً لتمرير الوقت، وعبور مرحلة الاختناق؛ على أنْ تعودَ الأوضاعُ لِمَا كانت عليه فى السابق.


وتلك الآليَّة الاحتياليَّة إن كانت صالحةً فيما مضى؛ فإنها لم تَعُد مُمكِنةً اليومَ، لا سيما وقد تغيَّرت التوازُنات الجيوسياسية تمامًا، وتوحَّشت شراهة الدولة العبرية لإعادة ترسيم خرائط الإقليم بما يحفظُ مصالحها، أو على الأقلّ لا يضطرّها لمُواجهةِ الامتحانات القديمة ذاتِها فى صورةٍ مُحدَّثَة.


كانت البنودُ واضحةً للغاية، وخطاب الرئيس الجديد، العماد جوزيف عون، جاء صريحًا ولم يترك أىَّ هامشٍ للتأويل. بإمكان الشيخ نعيم قاسم أن يستهلك سرديَّةَ النصر فى حاضنته اللصيقة؛ لكنه مُضطَرٌّ إلى الوفاء بالتزاماتٍ مُغايرة تمامًا مع الدولة.


لم تَعُد ثُلاثيَّة «جيش وشعب ومقاومة» فعَّالةً على الإطلاق، وحتى الاستراتيجية الدفاعية التى تشقَّقت الحناجرُ والألسنة طلبًا لها، ليس مُتاحًا أن تأتى حاليًا على هوى الضاحية، أو بما يُناسِبُ هواها القديم.


باختصار؛ أفضَتْ الجولةُ لهزيمةٍ سياسية ثقيلة، ولو لم تَقْضِ على القدرات الحربيَّة تمامًا، والهامش المتاح لاستنقاذ ما تبقَّى لدى الميليشيا، أو تجنيب الدولة كُلفةَ النزوات المدفوعة من الخارج غالبًا، يبدأ وينتهى عند أبواب قصر بعبدا، باعتبار تكوين السلطة المُعطَّلَة لأكثر من سنتين، وفى غضون أسابيع قليلة من وقف القتال، كان دليلاً على أنها جزءٌ مُتمِّمٌ للاتفاق، بكلِّ ما اشتملتْ عليه أجندةُ العهد الجديد المُعلَنَة فى يوم التنصيب.


صحيح أنَّ ولادة الحكومة مُتباطِئةٌ نوعًا ما، ورئيسها المُكلَّف نوّاف سلام يتعثَّر بين إخلاصه الدستور، ورغبته فى التوافق، واستمساك الثنائىِّ الشيعىِّ بظلال المرحلة المُنقَضِية؛ ولو اختُزِلَت مكاسبها فى حقيبة المالية؛ إلا أنها لا سبيل لعَكس عقارب الساعات؛ مهما تنطَّع المُتنطّعون.


الإفادة النهائيَّةُ ستحملُ بالضرورة ترتيبًا غير ما تمنّاه الحزبيِّون، ربما يفهمونه على معنى التجرّؤ عليهم، أو نَقض الميثاقيَّة بصورتها المُحرَّفة عن اتفاق الطائف ووثيقة الوفاق؛ لكنها فى الوجه الصحيح صورةٌ مُعتدلةٌ لوَضعٍ مقلوب، وتُواضَعٌ مطلوبٌ لصالح الدولة.


والتصحيح السابق، لعلَّه يحدثُ للمرَّة الأُولى منذ نشأة الحزب قبل أربعة عقود، بما كان منها تحت عنوان المُقاومة الخالصة، أو ما كان فى زواريق السياسة منذ انخراطه فى الحكومة، ووراثته لمقعد الوصاية السورية بوكالةٍ مُباشرة من إيران.


والحال؛ أنَّ «طوفان الأقصى» قد أخفق عَمليًّا وبصورة فادحة فى تفعيل «وحدة الساحات» على قواعد الحرب؛ لكنه جمع بينها فى مجال السياسة وتسوياتها اللاحقة؛ فكأنّه عطّل طهران عن الوفاء بشعار تحالفها الأيديولوجى، ومَكَّن تل أبيب من توظيفه لخدمة رؤيتها المستقبليّة للمنطقة.


والمعنى؛ أنَّ لبنان انزلق فى المُواجهة على إيقاع السنوار، وفوران العاطفة الجيَّاشة لدى رجاله فى غزّة، والآن تُغادرُ الأخيرةُ نكبتَها على وَصْفَة الحزب التى أوكَلَ التفاوض فيها للأخ الأكبر نبيه برّى، وسيدفع كُلفتَها الكاملةَ للإدارة الجديدة؛ مهما تلكَّأ أو عبَّر عن امتعاضِه المكتوم.


فى الأخير؛ يستمدُّ نتنياهو وهجَ المواجهة الحالية، ويستخلِصُ شرارةَ الإشعال لمُحرِّكات حكومته، من ردود فعل الخصوم فى الجبهات الساخنة حول إسرائيل. والمُناطَحةُ ليست ضارّةً بالبيئات المُتأزِّمة داخل فلسطين وخارجها فحسب؛ لكنها تُعزِّز مراكز الغريم، وتُسعفه بأطواق النجاة، وهذا آخر ما تحتاجُه القضيَّةُ العادلة فى صراعها الأصيل، وما تتفرَّع عليه من صراعاتٍ طَرَفيَّة.


والمعنى؛ أنَّ القتال مع حكومة الليكود اليومَ ينبغى أن يكون معركةً بين أدمغةٍ باردة، لا حناجر مُلتهِبَة، وأن يُمَهِّد المقاتلون أرضيَّةً صالحة لإثارة الأسئلة المُؤجَّلة داخل إسرائيل، وتهيئة المجال العِبرىِّ لافتتاح مواسم المُساءلة والحساب.


استقالةُ رئيس أركان الاحتلال مُؤخَّرًا ليست حدثًا عابرًا. ربما تبدو فى الظاهر انتصارًا لنتنياهو وعصابته السياسية على المستوى العسكرى؛ لكنها فى العُمق تحملُ تسليمًا كاملاً من الجيش بانقضاء الجولة عند التموضُعات الحالية، وبأنَّ كلَّ ما يتبعها لن يكون استدراكًا على «الطوفان»، أو استكمالاً لمهمَّة الثأر والترويع بغرض استعادة الرَّدع.


الجنرالاتُ يقولون ضِمنيًّا إنهم اكتفوا بما أحرزوه فى غزَّة وغيرها، وجاهزون للاعتراف بأخطائهم، وتحفيز بقيَّة الفعاليات النظاميَّة على إنجاز مهام الرقابة وفحص الوقائع، وتعليق الأجراس فى رقاب أصحابها الحقيقيِّين.


والمُتوَقَّع أن يسعى الائتلافُ لإطالة عمره بالبقاء تحت مظلَّة النار. والخلاص الوحيد فى ألَّا يُلاقيه الطرفُ الآخر على المَوعِد المُرَاد من جانبه، وأن ينزع عنه ستارَ الحرب بكلِّ السُّبل المُمكِنة؛ بحيث لا تتبقَّى أمامَه فرصةٌ لمُناورةِ الشارع والخصوم السياسيين، ولا يجدُ مَفرًّا من الاحتكام إلى ما تهرَّب منه منذ أكتوبر قبل الماضى.


إعلانُ الضفَّة الغربية «جبهةَ حربٍ» ليس أكثر من هامشٍ آخر للمُناورة والخداع. يخترعُ الذئبُ العجوز معركةً جديدةً ليُغطِّى على رُضوخه للتهدئة فى لبنان والقطاع، ويُطمئِن حُلفاءه من الأحزاب التوراتيَّة إلى أنه مُتمَسِّكٌ بحماوة القتال، ولم يخلع القُفَّازات بعد.


ومن الصعب إجبار الفصائل، والشباب فى جنين وغيرها، على الصمت أمام الوحشية المُتصاعِدَة؛ لكنَّ الحقيقة دون تجميلٍ أو مُواءمة، أنَّ عليهم التحلِّى بأقصى قدرٍ مُمكنٍ من ضَبط النفس، وعدم الانسياق وراء محاولات الاستفزاز والضغط على أعصابهم العارية.


الرهان ليس على الضفَّة فى ذاتها؛ إنها مُجرَّد محاولة لإبقاء الجمر فوق حدِّ الانطفاء، على أمل أن يحدُثَ الخطأ الذى يتطلَّع إليه سفّاح تل أبيب فى غزَّة؛ فيعود لجبهته الأساسية دون حاجةٍ إلى المُغامرة بحرب لا تُؤمَنُ عَواقبُها مع الكُتلة الجغرافية والبشرية الأكبر فى فلسطين، فضلاً على خطورة التداخُلات العميقة بين المجتمعين، مع انتشار المستوطنات وتركُّز قرابة المليون إسرائيلىٍّ على مرمى حجرٍ من البلدات والمُخيَّمات.


يتطلَّعُ السياسىُّ الماكر لتحصيل ما تنازَل عنه فى غزَّة، بحسب رُؤيته، من جهة تمكين الاستيطان وتسريع عملية الضَّمّ فى الضفَّة. وربما حصل على وعودٍ من واشنطن فى هذا السياق، وبغَضّ النظر عن إمكانية الوصول إلى ما يطمعُ فيه من عدمها؛ فإنه لن يسعى لتسعير مُواجهةٍ شاملة قد تتسبَّبُ فى تأجيج انتفاضةٍ تُعطِّل المسار، لا سيَّما أنَّ الغضبَ مُتوقَّعٌ ومُرجَّحٌ للغاية إزاء أيّة خطوة أو قرار بتغيير الأوضاع فى الجِسْم الأساسىِّ للدولة المأمولة.


المُنازَلةُ المُعجَّلَة ربما تكون اختبارًا استباقيًّا للميدان، ومحاولة لاستكشاف تحوُّلات البيئة الفلسطينية؛ بغَرَض تحديث المعلومات والتكتيكات استعدادًا للجولة المُقبلة؛ لكنّ المُؤكَّد أنها تلعبُ دورًا مُؤقَّتًا فى استرضاء الحشركاء التوراتيِّين، وتقويض حالة الغضب الشعبى من سياسات الحكومة، أو إثارة أيَّة نزعات بشأن التحقيق ومُحاسبة المُخطئين، والتمادى فى حالة المكايدة لحَدِّ الدعوة لإسقاط الائتلاف، أو الذهاب لانتخاباتٍ مُبكِّرة. وكلها ستحدث بالضرورة بمُجرَّد اكتمال اتفاق غزَّة، وتثبيت الحالة الميدانية القائمة.


نتنياهو مَدِينٌ للسنوار فى الطوفان؛ لأنه انتشلَه من مُنازَعةٍ داخلية كادت تُودِى بحكومته. كان الشارع مُتأجِّجًا، والجيش إلى جانب الناس، ووزير دفاعه عاد للمنصب رغمًا عنه بعد تنحيةٍ قصيرة؛ فاستعاد حالة الإجماع المُعتادة لبلدٍ يتدرّب منذ اختراعه، على أنه يحيا على حَدِّ السكِّين.
مارسَتْ المُقاومةُ عملَها المشروع، وهو حقٌّ لا يُمكن تقويضه بأيّة اعتبارات يراها المُحلِّلون من خارج المشهد؛ لكنه أفضى بحماس وحُلفائها إلى عكس ما أرادوه تمامًا، ولا يُمكن الانفكاك من المآلات فى زمن المراجعة والتقويم.


قطاعٌ مُخرّبٌ بالكامل، وقُدراتٌ مُتدَاعية، وإدارة مَدنيَّة لا سبيل لبقائها على ما كانت قبلاً. وإلى ذاك؛ فوَقف النار اليومَ بطَعم الهزيمة، مع شروطٍ قاسية فى الحاضر والمُقبل، فضلاً على صفقة تبادُلٍ لا تُلبِّى طموحات تبييض السجون السابقة، ولا حتى تُعوِّض الحشودَ التى أُلحِقت بمُعتقلات الاحتلال خلال الشهور الخمسة عشر الأخيرة

.
لا أحدَ يُريد بقاء حماس بصورتها القديمة أكثر من نتنياهو. ودَعْكَ من غراميّات الدَّوْس على عُقدة النصر الذابلة، انصرافًا إلى أنه دعا لإفناء الحركة ثمَّ رضخ لتوقيع الاتفاق معها. لقد قال «السنوار» إنه يُطلق الطوفانَ من أجل التحرير الكامل، ثمَّ عدَّل الخطاب اكتفاءً باستعادة المسجونين جميعًا، وانتهى إلى مُبادلةِ أسراه بأقلِّ من عُشِر الموقوفين فى زمن الحرب وحدها، والقَبول بإبعاد عددٍ كبير منهم عن فلسطين. الأهدافُ لا تُرفَعُ للتطبيق دئمًا؛ بل تُتَّخذ أحيانًا ذريعةً لغاياتٍ أكبر أو أشدّ مَكرًا.


لا شَكَّ فى أنّه صُدِم بالعملية المُتقَنَة، وتشقّقت صورتُه تحت أحذية القسّاميين، ولديه ثأرٌ عميق مع الحركة وقادتها؛ لكنه آخرُ الراغبين فى إزاحتها من واجهة الصورة، ناهيك عن إزالتها من الوجود تمامًا.


ولا مُبالغةَ فى القول إنَّ استعراضاتها فى عمليات تسليم الأسرى تُوافِقُ هواه، ويُحِبُّ أن تستمرَّ فى الجولات المُقبلة، وأنْ يتضخَّمَ خطابُ النصر الحماسىِّ؛ ليُغذِّى لدى جمهوره فكرةَ بقاء العدوّ، وأنَّ الحرب لم تُحرِز أهدافَها، ولم تَضَعْ أوزارها بعد.


البديل عن حماس أن تتقدّم مُنظّمةُ التحرير، وأن يُعاد إنتاج سلطة الحُكم فى غزّة من داخل حالة الإجماع الوطنى. وإزاحة السلاح للوراء، بعدما بات عاطلاً عن العمل أصلاً؛ تصبُّ بالضرورة فى رصيد السياسة؛ إنما من موقع الوِفاق، وبإشارةٍ إلى امتلاك لُغةٍ فلسطينيَّةٍ واحدة، وإلى قُدرة أطراف القضية على إنجاز مُواءماتٍ بَينيَّة مطلوبة وعاجلة، ويُمكن البناء عليها لإعادة تأهيل المسيرة النضالية على مُرتَكَزٍ من البصيرة وتكامل الإمكانات.


ولا يعنى هذا أنَّ المُقاومةَ ستسلكُ طريقًا إلزاميَّةً باتِّجاه التدجين؛ إنما أنها تنظرُ بعَقلٍ لفُسحة التقاط الأنفاس، وتُعيدُ ترتيبَ أوراقها دون انقساماتٍ أضرَّت وما أفادت؛ لتكون المُقارباتُ اللاحقةُ شُموليّةً ناضجة، لا تُفرِّط فى القوّة حينما تكون واجبةً، ولا تتعالى على الدبلوماسية حينما لا يتوافر البديل.


الأسابيعُ الأربعة الأخيرة من المرحلة الأُولى ربما تكون أقسى من الحرب نفسِها؛ لأنها المَمرُّ الإجبارى نحو استكمال الصفقة، ولن تخلو بالضرورة من مُراوغاتٍ يوميَّة، وتبديلٍ مُتسارَع ومُتلوّنٍ للتكتيكات، وسَعىٍ دؤوب من مُفاوضى نتنياهو لإعلاء النقاط الخلافية، وانتزاع مُسوّغ الإفشال من حماس.


وكُلَّما حافظت الحركة على رباطة جأشها، وعبرَتْ الطريقَ المُفخَّخةَ إلى المرحلة الثانية؛ سيتعذَّرُ على غريمها النكوص عن واجباته المَرحليَّة، أو إقناع الإدارة الأمريكية بالحاجة إلى القتال مُجدَّدًا. إنما يظلُّ المُهمّ أن يقتنع الحماسيِّون بما يتعيَّن عليهم الوفاء به للقطاع ومَنكوبيه، وأوّله الاعتذار الذى يُراوغون فيه، ومُنتهاه التوارى عن المشهد؛ لأجل أن تُوضَع غزّة على طريق التعافى.


والأزمةُ هُنا ليست فى أهداف الاحتلال وشعاراته فحسب؛ بل فى أنَّ الاتفاق مُجرَّد فاتحةٍ لمهمَّةٍ طويلة تتخطّى وحشيّة الحرب ومصاعب الخروج منها، وتنهى الجزءَ السهل من المسألة لتصطدم بنقاطها الأصعب، وفيها قضايا البديل السياسىِّ، وتوحيد العنوان الوطنىِّ، وبدء مسيرة الإعمار وإعادة تطبيع الحياة فى بيئةٍ يتسلّط عليها الموتُ من كلِّ الجهات.


كانت الحربُ حلبةً ثنائية مُغلَقة على الاحتلال والمُقاومة؛ لكنَّ تصفية آثارها أقرب لمُباريات الكُرة والألعاب الجماعية، وتُوجِب عليهما فتح الملعب للآخرين.
لن تنتظم العمليَّةُ من دون اكتمال اللاعبين، وحماسة الجمهور فى التشجيع. والمَنطقُ أنه لن يُغامِرَ لاعبُ كُرةٍ بالاشتباك مع مُلاكم، ولا أن تُفتَتَح المُنافسةُ على البناء، ولم تَنطَفِئ مخاطرُ الإحراق بعد، ولا تخلَّى الغريمان عن وَضْع الإبهام على زِرّ التفجير.


وإذا كان الاتِّفاقُ يقود لمُغادرة الميدان عبر ثلاثِ مراحل، ويُمكن القول إنه يكاد يكتمل بمرحلتيه الأُولَيَين، فإنَّ المرحلةَ الثالثة عنوانها ستّة أسابيع، ومَتنُها سِتُّ سنواتٍ أو يزيد. إنها البداية الحقيقة لمُداواة القطاع، واحتياجاتها لا تتوافَرُ لدى الطرفين الأَصيلين، ولا بديلَ فيها عن إقناع المُشاركين من الخارج بأنها بدايةٌ صالحة لرهانٍ طويل، أو أنها على الأقل أكبرُ من هُدنةٍ بين قتالين.


لن تخسرَ إسرائيلُ أكثرَ مِمَّا خسرته؛ حتى لو عادت إلى الميدان، أو جمَّدت أوضاعَ غزّة دون الحرب وفوق الاستقرار التام. عَدوٌّ مُتوحِّشٌ لا يَعرِفُ الأخلاقَ ولا يحترمُ القانون، تُواكِبُه حمايةٌ من أباطرة الأرض، ويمتلئُ بنشوةٍ عارمة بعدما فكَّك مرافقَ الشيعيَّة المُسلَّحة، وأعاد محورَ المُمانَعة عقودًا للوراء.


الفصائلُ نازفةٌ حتى النخاع، والحاضنة الاجتماعية فى حاجةٍ ماسّة للاستدراك على اليأس، واستشعار أنها أهمُّ لدى مُقاومتِها من البارود والرُّعاة والأيديولوجيا والحركات. ليست هُدنةً للاستنقاذ فحسب؛ بل لتجديد الرابطة الوطنية، وانتزاع النسيج الفلسطينىِّ من لوثة الشَّدِّ والجذب؛ قبل أن يتفسَّخ أو ينقطع.


المُصالحةُ مرحلةٌ رابعة من الاتفاق؛ لكنها تتقدَّم على المراحل الثلاث، وتبدأ من أمس، لا اليوم أو غدا.. وهى إن كانت مسارًا وجوبيًّا لإكمال صفقة وقف إطلاق النار، فإنها حاجةٌ وجودية لتصويب المسار، والخروج من وضعٍ شديد البؤس والفجاجة، يتيسَّر فيه على الفلسطينى أن يُنجز تفاهماتٍ مع المُحتلّ، بينما يُزايد على شقيقِه الممسوس بالوجيعة ذاتِها، ويُناصبه العداء لدرجة الشَّطَط.


ردم الفجوة بين التيَّارات الوطنيّة يفتح الباب لاستعادة الثقة، والنأى عن تخوين الآخر، أو افتراض كل فصيل فى نفسه أنه صاحب الحقّ الحصرى فى الحديث باسم القضية. شِقاق القوى السياسية والنضاليّة ينعكس على الشارع، ولا تحتاج أكثر من جولةٍ عابرة لترى كيف يتبادل الغزّيون الشتائم على المنصّات الرقمية؛ لمُجرّد أن واحدًا يرفض ما حاق بالقطاع لمُقامرة غير محسوبة، أو أن ثانيًا يتلوّن حركيًّا، ويتزيَّا بأعلام فتح أو حماس.


المواجهة صارخةٌ فى حقائقها، ولا يُنتظَر أن تهبط الحلول من الخارج، أو أن يعود العدو عن نازيّته ليصير آدميًّا فى الخطاب والسلوك. إنه صراع وجودٍ لا حدود؛ ولا معنى لأن تتحصّن الحركة فى القطاع، أو ترتاح السُّلطة بوجودها الباهت فى رام الله ونواحيها.


إن كانت للطوفان حسنةٌ واحدة؛ فأنه كشفَ كُلفة الانقسام، وأثرَ الاستبداد بالقرار، وحاجةَ القضيّة للاتحاد تحت رايةٍ واحدة. ومهما بدا أنَّ طرفًا يتنازل للآخر؛ فإنه أفضلُ فى كلِّ الأحوال من التنازل للعدوِّ من الطرفين، طوال الوقت ودون مَللٍ أو استدراك. طريقُ الجحيم تُعبِّدها النوايا العاطفيّة والاستعراضيّة الحسنةُ أحيانًا؛ لكنها مُحاطةٌ دائمًا بقصور النظر وعوار العقل وسوء التقدير؛ وعلى أهل الوجيعة والجُرح الفلسطينىِّ المفتوح أنْ يُثبتوا للجميع، ولبعضِهم أوّلاً وأخيرًا، أنهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ وألا ينتظروا عصا من الخارج أو مطرقةً من الداخل ليعودوا إلى سواء السبيل.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة