حازم حسين

فرحة بالنجاة ومتسع للحزن النبيل.. ضرورة تحصين اتفاق غزة من لعبة تشويه المفاهيم

الأحد، 19 يناير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يصحُّ الاحتفال باتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة؛ إنما على معنى النجاة لا الانتصار. إذ لا شىء أهمّ من وقف المَقتَلة الدائرة لأكثر من خمسة عشر شهرًا، وفَتح منفذٍ؛ ولو ضيِّقًا، على الأمل لنحو مليونَى إنسان، فُرِضَت عليهم الحربُ قهرًا، وسدَّدوا تكاليفها الكاملة من دمهم وأرواح أحبّتهم دون اختيار.


لقد كانت تجربةً قاسية على الجميع، وبائسة لأقصى مدى، ولا يمنعُ الصمودُ الأسطورىُّ فيها من الاعتراف بالضعف، والاحتفاء به دون مُكابرةٍ أو اصطناع للقوَّة.. واللعب فى المفاهيم البديهية هُنا لن يُغيِّر حقيقة الموقف، ولن يُقنع المنكوبين بعكس ما استقرَّ فى وعيهم، فضلاً على أثره الخطير والحارق فى إبقاء المآسى على حالها، وإشراع الباب لتكرارها دون اعتبارٍ أو استفادة من الأخطاء.


يدخلُ الاتِّفاق حيِّزَ التنفيذ صباح الأحد، ليقفَ العدَّادُ مُؤقَّتًا عند قرابة 470 يومًا من الجحيم، وقافلة شهداء تُلامس حدود 50 ألفًا بحسب أبسط التقديرات، وتصلُ بها بعض الجهات إلى مرَّةٍ ونصف الرقم المذكور، إضافة لأكثر من 100 ألف جريح بإصابات متفاوتة الحجم والأثر، واعتلالاتٍ نفسية عميقة لم يَنجُ منها أحدٌ فى الغالب، ولن تكون مُداواتها يسيرةً على الناس، وقد تأكلُ أجيالاً كاملة قبل التعافى من آثارها.


وإذ يحتفل الغزِّيون بالاتفاق؛ فإنها فرحةُ النازل عن المقصلة قبل دقائق من تنفيذ حُكم الإعدام، وليس احتفال العائد من الميدان بأكاليل الغار وحفاوة النصر، كما يُريد البعضُ تزييفَ السرديَّة؛ لا لشىءٍ إلَّا التكبُّر على الاعتراف بالخطأ، والاستهانة بمَواجع البُسطاء.


والأخطر فيها غسل أيدى الاحتلال من الجريمة بدرجةٍ ما؛ إذ لا حاجة للمُنتصر فى مُساءلة المهزوم، ولا إلزامه بالاعتراف والاعتذار والتعويض، كما لا معنى لاستذكار الدروس أيضًا، وبطبيعة الحال لا منجاةَ من تكرارها لاحقًا؛ طالما أنَّ النصر لا يتطلَّب سوى قرارٍ مُغامر، وخزَّان من البشر الجاهزين للقتل المجَّانى.


اعترفَتْ أو أنكرت؛ فقد هُزِمَتْ حماس، وضيَّعَت المُمكِنَ طمعًا فى المستحيل، وأوقعت نفسَها والمدنيِّين المسؤولين منها فى مأزقٍ عميق. صحيحٌ أنَّ لها الحقَّ فى المقاومة، وأنَّ طريق التحرُّر طويلةٌ وشاقّة ومُكلِّفة؛ لكن العناوين لا تغنى عن المضامين، والعِبرةُ دومًا بخواتيم الأمور؛ لا بالنوايا أو البدايات الصاخبة.


والقول بهذا ليس من باب التشفِّى، ولا حتى للإدانة وتحميل الحركة جانبًا من المسؤولية عن جنايات الاحتلال؛ بل لإسماعها ما يغيبُ عنها، وما يبدو أنها لا تُحبّ سماعَه، أو تتهرَّب منه استنقاذًا لنفسِها من ركام القطاع.


إنها اللحظة المثالية، والضرورية أيضًا، للضغط على الأعصاب العارية، واحترام هيبة الدم، وعدم التهرُّب من الاستحقاقات التى تفرضُ نفسَها على الجميع، استتارًا وراء شعاراتٍ ما أثمرت فى السابق، ولا بإمكانها الإثمار لاحقًا. قوَلةُ حَقٍّ لصالح غزَّة وأهلها؛ ولو رآها بعضُ المُتأجِّجين عاطفيًّا من قبيل التخاذُل وتثبيط الهِمَم، أو وصموها بالتصَهيُن ومُحاباة الاحتلال.


لا معنى للانتصار إلَّا الحركة إلى الأمام، على أيَّةِ صِفَةٍ وبأىِّ مقدارٍ مُمكن. والتقدُّم قد يُقاس ماديًّا على الخرائط، أو معنويًّا فى السرديَّة وتبدُّل التوازنات. ولكن ما أفضَتْ إليه مُقامرةُ الطوفان أنَّ الأرضَ ما بَقِيَت على حالها، وتقهقرت القضيَّةُ فى الزمان والمكان.


وقوافل الشهداء إذ أضافت صفحةً سوداء لكتاب الصهاينة، لديهم منها الكثير بالفعل ولا حاجة لدليلٍ جديد؛ فإنها ما أنعشَتْ فلسطين، ولا حرّكتها شِبرًا على الطريق المأمولة.


فماذا يتبقَّى من النصر لو غضضنا الطَّرفَ عن الضحايا والخسائر وشُيوع اليأس والدمار النفسى؟ وماذا يتبقَّى من القضية نفسها إذا تغاضينا عن الأرض والبشر؟


يُخطئ الناظرُ من الخارج لفرحة الغزِّيين؛ لو اعتبرَها إطلاقًا للرصاص فى موكب العودة من الحرب، أو إقرارًا بصوابيَّة المسار الذى أفضى بهم إلى ما يحتفلون بنهايته اليومَ.


إنها رقصةُ المذبوح على الأرجح، وصورةٌ من البهجة المُرّة بالتحرُّر من فَكَّى الكمَّاشة؛ بحيث لا يعودون شاخصًا مجَّانيًّا لقذائف العدوِّ، ولا درعًا مجَّانيَّةً أيضًا لنزوات الشقيق.


استيقظ الناسُ ذات صباحٍ من خريف 2023 ليجدوا أنفسهم رهائن لدى الطرفين، يَعزُّ عليهم أن يقولوا للمُقاوم: أخطأت فى تأخيرنا ضمن اهتماماتك، ويستحيلُ كذلك أن يرفعوا الرايةَ البيضاء للمُحتلّ؛ لأنهم ما تعوَّدوا الهزائم السهلة. فُرِضَت عليهم البطولةُ دون اختيار؛ مثلما أُجبِروا على أن يكونوا أُضحياتٍ دون اختيارٍ أيضًا.


يُرَادُ من أطرافٍ، خفيَّةٍ وظاهرة، أن تتشوّه الروايةُ على عيون أطرافها الحاضرين. شىءٌ يُشبه إرادةَ تجميل المأساة، ومنحها مُسميّاتٍ مُراوغةً تُغيِّر من حقيقتها، وتقمع لاحقًا محاولات المُساءلة والاستدراك.


وإذ يُكتَفَى فى سلوكٍ مُتبجِّحٍ كهذا بالقول إنَّ «حماس» ما زالت تتنفس، على خلاف ما سعى إليه نتنياهو وصاغه بين باقة أهدافه؛ فكأنهم يقولون ضِمنًا إنه لا معنى لتعداد الخسائر البشرية والمادية فى القطاع، ولا قيمةَ لطوفان الأرواح التى شيَّعَها «طوفان السنوار» إلى عَدَمٍ بائس؛ حتى أنَّ آلافًا منهم طَمَرَهم الركامُ، ولم يفوزوا بجنازةٍ لائقة.


يُقتَلُ الغزِّيون مَرَّتين: الأُولى بنار الاحتلال؛ وعلى قساوتها تبدو أهون كثيرًا من الثانية، وقد آلت إلى حالةِ تدليسٍ كاملة، وحفلِ زفافٍ للفصائل فى مأتمٍ بعَرض القطاع وتعدَاد ساكنيه، وما مِن بيتٍ لم يُشيّع عزيزًا أو أكثر، قبل أن يصير رَدمًا على رؤوس الباقين.


سَعَت الحركةُ عبر عملية السابع من أكتوبر إلى توجيه رسالةٍ ساخنة؛ فازدادت الحرارةُ منها، عن غير قصدٍ، لدرجة الإحراق. فاز مُقاتلو القسَّام بأقلِّ من 1200 قتيلٍ، ونحو مائتى وخمسين أسيرًا، وعشرات أو مئات القتلى من الجيش العِبرىِّ طوال شهور المواجهة.


وفى المُقابل؛ سدَّد الفلسطينيون خمسين ضعفَ ما حصدوه، وأهدرَتْ الحركةُ نصفَ كتائبها على الأقل، وأغلب الصفِّ الأوَّل من قادتها.


حِسبةُ الأرقام لا تقبلُ الجدل والتأويل، ولا يُمكن الخلاف فيها؛ لذا يُصار لسؤال الأهداف، وبالتحديد ما كان مُعلَنًا من جانب تل أبيب، بينما لا تضعُ الحركةُ أهدافَها على الطاولة؛ لأجل اتِّساق البحث والمقارنة، والبُعد عن مُعايرة الصلب بالسائل، والمادىِّ بالمعنوى.


مُراوغةٌ كُبرى فى لُعبة المُقابلة بين المُقدِّمات والنتائج؛ إذ تُنَحَّى العناصرُ المُتشابهة وتُستَدْعَى بدائلُ عنها من حقولٍ مُغايرة. لا تُوضَع خسائرُ العدوِّ أمام خسائر القطاع، ولا الأهداف مع الأهداف؛ بل نأخذُ الأسوأ من هناك مع الأفضل من هنا، أو ما نتصوَّرُ أنه أفضل، فى سياقٍ لا يُوصَفُ إلَّا بالسوء من كلِّ جوانبه.


والمُعادلة هكذا لا معنى لها إلَّا أننا مَفتونون بالبطولات المُصطَنَعة، ومُطاردة الأوهام، ولا غضاضةَ لدينا على الإطلاق فى أن نكتفى من الغنيمة بالإياب، ونقتنع من الحروب الخاسرة بالتهليل والتصفيق.


أطلقَ «السنوار» عمليَّتَه بداءةً تحت لافتة التحرير الكامل، ثمَّ طَلبَ تبييض السجون وإنهاء الاحتلال، وآلت الجولةُ لصفقةِ إنقاذٍ لا انتصار، ومُقاربةٍ تخلو من كلِّ ما طلبته وتشدَّدت فيه مُسبَقًا.


وعليه؛ فإنَّ أهداف نتنياهو الثلاثة: إفناء حماس، وإعادة المُحتجَزين، وضمان ألَّا يُشكِّل القطاعُ تهديدًا فى المستقبل، يُمكن النظر إليها من جهة الإخفاق الميدانىِّ، مُقابل حالٍ شبيهة تمامًا بالنسبة لمطالب الحركة. كلاهما أخفق فى ميدان القتال، وخرج خاسرًا بحِسبة الحرب؛ لكنَّ التعادُلَ مساحةٌ رماديَّة واسعة، وليس شرطًا أن يتساوى طرفاها فى العناوين والتفاصيل.


لم يَكُن الخطابُ الأوَّل لخليل الحيّة عقب إعلان الاتفاق مُوفَّقًا. جاء من نسيج النصر، ومن ذِهنيَّةٍ مُعبَّأة بالمُكابرة والإنكار. أشار لشهداء القطاع على العموم؛ لكنه خَصَّ قادةَ الحركة بالاسم. بدا كأنه يُقسِّمُ المجتمعَ الواحد فى المراثى كما قسَّمته الأيديولوجيا، ويُفرّق بين الضحايا فى الرُّتَب والمراكز المعنويّة.


وحتى مع تَفَهُّم الحاجة الفصائليَّة للتثبيت والإسناد مَعنويًّا؛ فإنَّ التعالى على وجيعة الجمهور العريض ليست سلوكًا صائبًا، ناهيك عَمَّا تنطوى عليه من قَدحٍ فى الوعى وسلامة النظر، وإزعاجٍ عظيم بشأن المستقبل؛ إذ مُقابل التصريح بالنصر، أُضمِرَت معانى الهزيمة فى ثنايا الحديث، وتبدَّدَت إشاراتُ المُراجعة والتقويم بطبيعة الحال، وغاب أىُّ أُفقٍ للاعتذار وإبداء الندم.


وليس غريبًا أن ينزح المُرشِدُ الأعلى فى إيران من الخزَّان اللغوىِّ ذاتِه، ويُعقِّب من ورائه رئيسُ برلمانه محمد باقر قاليباف، وباقةٌ من قادة الحرس الثورىِّ. والمُفارقة البائسة ليست فى احتفالهم بنكبةٍ كانوا أحدَ أسبابها البارزة؛ إنما أنهم يتهرَّبون من هزائمهم الخاصة بمَزاعم الانتصارات المنسوبة لآخرين!


وإذا كانت غزَّة سببَ اشتباك المُمانَعة فى الجولة الدائرة لسَنةٍ ونَيّف؛ فإنَّ انكسارات المحور فى لبنان وسوريا وعلى أطراف طهران نفسِها تبدو هامشيَّةً ضئيلة؛ طالما تحقَّق الهدفُ فى الميدان الأصلىِّ.


وهكذا يصير خطابُ النصر وسيلةً للتضليل، لا للاتِّزان والتعويض النفسىِّ، وعلامةً على مُقاومةٍ أصلب من المقاومةِ ذاتها؛ إنما لجهة التمرُّد على التغيُّرات الجيوسياسية، ورَفض الاعتراف بها، وغرام الإقامة الدائمة فى الماضى الموهوم.
تحرّكت الأرضُ تحت أقدام الأُصوليَّة الإسلامويَّة الساخنة، وما انتقلت أدمغتُهم خطوةً واحدة فى الزمان والمكان. والمأساةُ أنَّ القديمَ يحتضر، بينما الجديد لم يُولَد بعد، وفى هذا الالتباس تظهرُ الأمراض وتستفحل، كما قال المُفكِّر الإيطالىِّ أنطونيو جرامشى.


وقديمُ المشهد الفلسطينى جَوهرُه الانقسام، وانفراد حماس بقطعةٍ من الدولة الضائعة، وجديدُه أنه ما عاد مُرحَّبًا بالحركة فى الحاضر أو المستقبل، وإذ تُقِرُّ بالواقع عَمليًّا من لحظة التوقيع وإنفاذ اتِّفاق وقف إطلاق النار، فإنها تتمرَّدُ عليه مَعنويًّا بالدعايات وسرديَّة النصر، فكأنها ما استوعبَتْ تحوُّلات البيئة الداخلية والإقليمية، أو وَعَتْها وترفض الإقرار، ولا تملك برنامجًا لإدارة المرحلة والتعاطى مع مُستجدَّاتها الطارئة.


وبهذا؛ تفقدُ الحربُ معناها كصورةٍ عن السياسة، أو بديلٍ انتقالىٍّ بين مرحلتين منها/ معركتين؛ فكأنها أخذت القضيَّةَ من ضياعٍ إلى ضياع، وليس عليها إلَّا أن تُبشِّرَ أتباعَها بالنصر، وتترُكَ مرارةَ الانكسار كاملةً للآخرين.


وكلُّ مُقاربةٍ لا تبدأ من الاعتراف بثِقَل الحرب الآفلة، وخطيئة الذهاب إليها دون تشاورٍ أو استعداد؛ إنما تفضحُ انفصالاً عميقًا عن الواقع، وحالةً ذُهانيّة يَرفضُ الحماسيِّون الإقرار بها، وبالتبعية لا يستشعرون حاجتهم للعلاج منها.


صحيح أنَّ الاعتذار للغزِّيين لن يُدَاوِى جراحَهم الغائرة، ولن يَرُدَّ إليهم ما خسروه من أَحِبَّةٍ وبيوت؛ لكنه سيُثبِتُ على الأقل بَشريَّة الحركة، وأنها ليست مُجرَّد أيديولوجيا مَعطوبةٍ ومُعطَّلَة للعقل، أو فكرة انتحاريّة تُضيّع حامليها بقدر ما تَنفُث نارَها فى وجوه الأبرياء.


فضيلةُ الاعتراف ستعنى أنها حَيّة، لم تُحنِّطها القناعاتُ المُتكلِّسة أو تجمِّدها لعنةُ الدم، وأنها قابلةٌ لمواصلة الحياة وفقَ شروطها الموضوعية العاقلة، والأهمّ من كلِّ هذا ترشيد المخاوف بشأن المستقبل، وفَتح الباب للخلاص من غرامها القديم بدَفن الإخفاقات تحت ستار الصمت، أو تكرارها بصُوَرٍ وعناوين شتَّى، مُختلفة ظاهرًا فى كلِّ مرَّة، ومُتطابِقة دائمًا فى الجَوهر والأثر.


يعودُ الفضل فى بقاء ما تبقَّى من غزة إلى صُمودِ أهلها، وأغلبه كان اضطراريًّا؛ لو شئنا المُكاشَفة مهما كانت جارحةً. أقام الناسُ على الركام، وطَوَوا الوجيعةَ فى صدورهم؛ لأنهم لم يجدوا بديلاً أقلَّ إيلامًا أو أكثر راحة.
والحال؛ أنَّ خطابَ النصر قد يُضَخِّمُ مأساتهم حتى بعد إيقاف المَقتَلَة، لأنه قد يُعَسِّرُ مهمَّة البحث عن «اليوم التالى»، ويُطيلُ أمدَ العراء الحياتىِّ والسياسىِّ.


المُنتصر لا يحتاجُ لتقديم تنازُلات، وإنْ قدّم بعضَها للعدوِّ، فقد يمتنعُ بعدها على الشقيق، ما يعنى أنَّ مسألة الانتظام الإدارى وإعادة الإعمار قد تتأخَّر أو تتعثَّر. الحركة مَوصومةٌ لدى قطاعٍ من العالم، وبقاءُ ظلالها فى القطاع ربما يُؤثِّرُ على إيقاع الإغاثة، ويُعطِّل إنتاج سُلطةٍ تنفيذيَّة مُناسبة للمرحلة.


ومع أجواء اليأس المُتسلِّطة على البشر؛ فقد تستبدل إسرائيل بقَسريَّة التهجير نُسخةً طَوعيَّة ناعمة، يُغذِّيها بُؤس الحال وانعدام الفُرَص، وتأجُّج المُنازَعة بين الفصائل ومُنظَّمة التحرير، واستبعاد وكالة أونروا من جهود الإنقاذ المطلوبة على وجه الاستعجال، والأخطر من كلِّ هذا أنه قد يُجدِّدُ الحربَ للأسف.


أُجبِرَ نتنياهو على التهدئة؛ ولم يذهب إليها اختيارًا. أراد ترامب أن يفتتح ولايتَه من نقطةٍ لا يُسدِّد فيها فواتير سَلَفِه بايدن وإدارته، وقدَّم لقاء الاتفاق وُعودًا بالصمت عن تَوسُّع الاستيطان فى الضفَّة، وربما التغاضى عن ضَمِّها لدولة الاحتلال.
ورئيس الحكومة فى جولاته الإقناعيَّة لحُلفائه التوراتيين، تعهَّد لهم بالعودة إلى الميدان بعد افتتاحيّة الاتفاق، حسبما نقل موقع أكسيوس الأمريكى عن مصادر فى حزب سموتريتش.


وإذا كانت النيَّةُ مُبيَّتةً فعلاً، ويحوز موافقةَ واشنطن عليها مع أوَّل انتهاكٍ للصفقة؛ فإنه لا يحتاجُ أكثرَ من خطأ واحدٍ، عَفويًّا أو مقصودًا، وبمُبادرةٍ حماسيَّةٍ أو باستدراجٍ صهيونىٍّ؛ ليعودَ لِمَا كان قائمًا حتى أمس، بعدما يسلبُ الفصائل ورقتَها الوحيدةَ مُتمثِّلةً فى الأسرى.


والشرارةُ هنا؛ تختبئُ للأسف فى سرديَّة النصر؛ إذ المُنتصِر أكثر صخبًا دائمًا، وأقلّ احتياطًا فى القول والفعل.
تستَترُ الأُصوليَّة بالعاطفة لتُغيِّبَ العقل، وإذا كان الفاصلُ عريضًا فى فلسطين؛ فالصورةُ رماديَّةٌ فى بقيّة الساحات. والحال؛ أنَّ محور المُمانَعة عليه أن يُبرِّر سرديَّةَ النصر التى يُروّجها فى غزّة، إزاء ما أصابه فى لبنان مثلاً، أو إزاء أُصوليّةٍ مُنافسةٍ تحتفل بالانتصار أيضًا تحت راية الجولانى فى سوريا.


وبينما يُفهَم أنْ تتمسَّك حماس ورُعاتُها بأهداب الإنجاز المُتَخيَّل؛ فمن الغريب أن تُلاقيها بعض النُّخب المدنيّة على وهمٍ كامل، وأن يَحِنّ اليسارُ والقوميّون لمُراهقاتهم القديمة، ويُكرّروا لُعبةَ تشويه المفاهيم، وتعطيل الفاعلية العقلية انحيازًا للفعاليَّات الديماجوجية.


والتشويه هنا لا يُضيِّعُ حقوق الضحايا فحسب؛ إنما يُبرّئ الجُناةَ أيضًا. فمن ناحيةٍ يُمدِّدُ الذرائع لإسرائيل، ويُغذّى سرديّةَ المظلومية التى تلطَّت وراءها من أوَّل الطوفان إلى اليوم.


وإلى ذلك؛ فإنه يُغيِّبُ الاستحقاقات الواجبة عن مُساءَلة الفصائل، والبحث فى أوراقها كلِّها، من أوَّل المُعتقدات والأفكار، حتى التحالفات والاتصال بأجنداتٍ فوق وطنية.


فإذا انتصرت غزّة كما يقولون؛ فمعناه أنَّ المعنوىَّ صار بديلاً مقبولاً عن المادىِّ، ولا حاجة لمُحاسبة الاحتلال أو إدانته، وإن كان ثمّة ثأرٌ عالِقٌ فإنه لصالح المهزوم/ الصهاينة، وعلى المَهزومين الفِعليِّين أن يقبلوا الدعايات التى تُضيِّعُ رصيدَ مآسيهم، باستخفافٍ لا يقلُّ عن التسبُّب فيها. لا مُساواة بين إسرائيل وحماس قطعًا؛ لكنه لا مُساواة أيضًا بين الحركة والغزّيين.


يَطيبُ للحناجر المُهلِّلة أنْ تلفَتَ الأنظار إلى إعلام الاحتلال، وما يُردِّده عن الهزيمة الإسرائيلية فى غزَّة. وبعيدًا من أنهم يقرأون صفحةً ويُفوّتون توأمها، ويرون العدوَّ فجأةً «شاهدَ عدلٍ» يجوز الارتكان إليه؛ فإنَّ الصُّحُفَ العِبريَّة ما توقّفت من بادئ الحرب عن إثارة الأسئلة، وتخطئة الحكومة، وإدانة نتنياهو فى إخفاق الطوفان وما بعده، والحديث هُنا عن طلب المزيد من الدم، لا عن الإقرار بالهزيمة بتسليمٍ كامل.


ولا مُفارقة أكبر من أنَّ القاتل يتحدّث عن أخطائه، ويُفجّر كلَّ التساؤلات مهما بَدَتْ فجّة ومُزعِجة؛ بينما فريقٌ من الضحايا يُغطّون سَرديَّته المُلفَّقة بسذاجتهم، ويكنسون خطاياهم تحت الرَّدم والأشلاء. سَطَّحوا غزَّة لنقطة الصفر ولم يَرتووا من الدم بعد، وتقفُ «حماس» فى قَعر المأساة، وتقول: هل من مَزيد!


لا تتلاقى سرديّةُ النصر مع تجرّع كأس السمِّ اليومَ، ولا مع المَظلَمَة التى نخرُجُ بها إلى العالم؛ فكأننا نُفسِّر الحدثَ الواحد من زاويتين: ضحايا أمام الإنسانيَّة، وجبابرة فى مرايانا الذاتيَّة. نُواجه الدنيا بَاكِين، ونضحك على مقابر القتلى وفى مُواجهة ذويهم.


الأُولى تُؤمِّنُ رصيدًا معنويًّا للقضية، والثانية تُبدِّده. وفى المساحات المُلتبسة بينهما تضيع الأسئلة الجادة عن قرار الطوفان، وعِلّته، واكتمال رؤيته. عن المُبادرة الحارقة، والتنسيق مع حُلفاء الخارج مُقابل إنكار أشقاء الداخل، وعن الإصرار على أهدافٍ ضاعَفَتْ القتلى وما صمدت للنهاية.


عن تضييع فُرَصٍ سابقة للتهدئة، بشروطٍ شبيهةٍ أو أفضل، وعن مُساعداتٍ تسرَّبت للأسواق، وعن انقسامٍ استثمَرَت فيه الحركةُ لحساب العدوِّ، وترفضُ تصفيتُه الآنَ لحسابها الشخصىِّ، أو بإملاء من رُعاتها؛ ولو أفاد البلدَ وأهلَه المنكوبين.
فعلَتْ إسرائيلُ ما فعلته لأجل 1200 قتيلٍ منها، وبعد قافلةِ الشهداء التى يستعصى حصرُها حتى اللحظة، تستشعرُ أنها ما استوفَتْ حقَّها، بينما يرقصُ شُهودُ الزور على جُثَث الضحايا احتفالاً بنصرٍ موهوم؛ لمُجرّد أنَّ «حماس» تتبقّى منها رايةٌ وحنجرة.


مأساةٌ يبدو أنها من حَظِّ العرب دومًا، وقد فعلَها البعث السورى سابقًا فى زمن يونيو 1967، مُعتبرًا أن الجولان تضحيةٌ بسيطة طالما بَقِى الحزبُ، وذلك عين الانتصار. بينما ما تجاوزت مصرُ نكستَها إلَّا بالاعتراف؛ فاستوعَبَت عِلَّتَها وبدأت رحلة العلاج، وصولاً للنصر العربىِّ الوحيد على الصهاينة فى حرب أكتوبر المجيدة.
وإذا كان الصمتُ مَفهومًا فى السابق؛ فقد زال مُبرّر أنه «لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة»، ويتعيَّن أن ينقضى الحَرَج، وتُنكَأ الجراحُ بخشونةٍ؛ لئلا تُغلَق على صديدٍ وقيح.


المُراجعة ضرورةٌ لا رفاهية، ومُفيدةٌ للسلطة والفصائل على السواء، وللقضيَّة من قبلهما. لا بديلَ عن التحلِّى بشجاعةِ الاعتراف، والخروج من فتنة الصعود إلى المَقصَلة بخفّة، والنزول عنها باستخفافٍ يُبشِّر بالعودة على فاصلٍ زمنىٍّ، طال أم قَصر.


ستنتصرُ فلسطين فى آخر المطاف؛ لكنها للأسف خرجَتْ خاسرةً من الجولة الأخيرة. النضالُ عَقلٌ ورُؤية، والوطن أرضٌ وبشر، ولا نفعَ لأحدهما لو ضاع الآخر؛ فما بالك إذا طالهما الضياعُ معًا؟! الغزِّيون أصدقُ من الجميع، وأحسَبُ أنَّ أغلبَهم يرونه نجاةً بعد مأساة، لا نصرًا عن وعىٍ ومَقدرة.


خسرت «حماس» جُلَّ قوَّتها، ومرفوضة من الداخل والخارج. بقاؤها يُحفِّز نوايا الاحتلال السوداء، واحتواؤها عسيرٌ على منظمّة التحرير بأثر الوَصْم، ووجودها الشَّكلىِّ مصلحةٌ دائمةٌ للأُصوليّة الصهيونية؛ على جَرْى العادة فى تخادُم الأُصوليَّات.


وما سأل سائلٌ نفسَه عن أهدافِ إسرائيل، وهل رفعَتْها لرغبةٍ فى الخلاص من الحركة فعلاً؛ أمْ لإبقاء المقتلة دائرةً دون أُفقٍ للتهدئة؟! نقرأ العِبريّة بطلاقةٍ عندما تَصُبُّ فى صالح عاطفيَّاتنا البائسة، ونتعثّرُ فى العربية نفسِها لو وقفت على الجانب المضاد لأوهامنا.


لا يستحقُّ الغزِّيون التعالى على نكبتهم، ومن حقِّهم أن يجدوا من يرفق بهم، وأن يتوفَّر لهم مُتَّسعٌ للحزن النبيل. ولا معنى لإقناع أرملةٍ أو يتيمٍ أو أُمٍّ ثَكلى بالنصر؛ بينما لا بيتَ يحتويهم، ولا يعرفون قبرًا يبكون عليه أحبّتَهم الراحلين!










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة