حازم حسين

نكبة الوقت وتوافقات النار.. عن الأُصوليّة إذ تُقرّ للعدو بما تأباه على الصديق

الخميس، 16 يناير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

دفعت المنطقة أثمانًا باهظة، وما زالت؛ لفارق التوقيت فحسب. كُتِبَت عليها امتحاناتٌ إجبارية عديدة؛ فتكفّلت بتعقيدها اختيارًا، وبكل السُّبل المُمكنة، الصعب منها قبل السهل. وما عاد معروفًا أتَكمُن العِلَّة فى الساعات المُتلكّئة دومًا، أم فى الذهنية التى تتكاسل عن فحص الأمور على وقتها، واتخاذ القرارات الصائبة، والمُغرمة بإنفاق جهد طاقتها فى التبرير والتلفيق، بدلاً من الاستدراك والتصويب.

خَلَّق البعضُ مَرويَّات من العدم، وألبسوها رداء القداسة، وصاروا يتعبّدون لها دون وعىٍ أو تدقيق. ولعلَّ أخطرها القول الشائع «أن تأتى متأخرًا خير من ألَّا تأتى»، وهى إن كانت صحيحةً فى ذاتها؛ فإنّ الإغراق فيها حَرَفَ الأنظار عن حقيقة سابقة عليها، ألا وهى أنَّ الإتيان مبكَّرا أفضل دائمًا وأوفق، وصلاحية التقاعس مرَّة لا يُمكن أن تُسوِّغ الإدمان عليه، ولا أن تُحيل الاستثناء إلى قاعدة.

انقطعت المُبادرةُ؛ لأننا صِرنا مُطمئنِّين إلى هامش السماح الزمنى، وفضيلة الغُفران المُسدلة على سلوكنا بمُجرَّد أن نُدير المُحرّكات؛ فنُشَرعِن لأنفسنا البطء على معنى التمهّل، ونمتدح الكسل المُقدَّس لأنَّ فى العجلة الندامة، كما ينسى الناس لنا، أو يتناسون، أننا بدأنا السباق بينما يقترب الآخرون من محطة الوصول.
وأجلى ما تتكشَّف فيه مُعضلة المواقيت، كتاب غزّة المفتوح راهنًا على رُكامٍ ودم. لا لناحية المُغامرة التى أطلقتها حماس فى «طوفان السنوار» فقط، أو التراخى العقيم عن مُقاربة الارتدادات ببصيرة شوّافة وضمير مُتَّقد؛ بل فيما قبل ذلك من خروجٍ على الإجماع مهما بدا هشًّا عليلاً، والانفلات من كلِّ التزامٍ تجاه القضية الصافية والوطن الضائع، وتغليب الأيديولوجيا على فلسطين، والفئوية على الصالح العام.

انفكّت الحركة ظاهرًا عن الإخوان قبل نحو ثمانى سنوات، وأعلنت وثيقة مُحدَّثة تقول كثيرًا من الكلام اللطيف، ولا تُعقّب عليه بأفعالٍ من الطينة نفسِها. وبالتزامن، أو ربما فى وقتٍ سابق جدًّا؛ كانت تدخل فى عباءة الشيعية المُسلَّحة، وتتعمَّد بيدقًا على رُقعة المُمانَعة فى وجهها الصفوىِّ المُتلبِّس بنزعةٍ عِرقيّة ظاهرة؛ فكأنها استبدلت بالأُصوليّة الاحتياليَّة المُتعثّرة فى العنف، نسخةً أشرسَ وأقدر على الفوضى، واستجارت من الرمضاء بالنار.

يُوشِك الباقون من القادة الحماسيِّين أن يُوقِّعوا على اتفاق الهُدنة، أو المُهادَنة. ينزل التيّار المُتصلِّب سابقًا عن الشجرة؛ إنما بعدما قُطِعَت وأُلقِيَت بعرض الطريق. وإذ يبصمون اليومَ على ما رفضوه سابقًا؛ فإنهم يعترفون من طرفٍ خفىٍّ بأنهم هُزِمُوا، وجلبوا بهزيمتهم نكبةً جديدة على البلد وأهله، ويُخلون الملعب بعدما أعادوا القضية لنقطة الصفر، أو ما قبلها. ومهما كابروا فى الإقرار علنًا؛ فالإفادات الضمنية لا تقبل التشكيك.

والاستذكار ليس عن غرامٍ بالوقوف على الأطلال، ولا لرغبةٍ فى الوَصْم وتعليق الأجراس على صدور أصحابها؛ إنما لاستشرافِ ما سيتكرَّر لاحقًا لو بقيت الأوضاع على حالها، وأُغلِقت الجراح المُفتَّحة حاليًا على ما فيها من صديدٍ ودم. إذ لا تنتهى المحنةُ بإيقاف النار؛ بل تبدأ على صورة مُغايرة، وتنتقل فيها الاستحقاقات من الخارج إلى الداخل.

يُسلِّم مُقاتلو القسَّام للصهاينة بما استأثروا به من السلطة. وينسجون التفاهمات مع تل أبيب؛ على صعوبتها، ويُضيّعونها فى رام الله رغم الهوية الواحدة والمصير المشترك. والحال؛ أنّ الهزيمة اليوم تحصيلٌ لِمَا كان فى الانقلاب قبل نحو عقدين، والاتفاق لا ينقل القطاع خُطوة للأمام عن الطوفان؛ بل يردّه كثيرًا للوراء، أكان فى زمن النكبة الأولى أو انتفاضة الحجارة أو إلقاء عناصر فتح من أعالى البنايات بالعام 2007.

وضِع السلاحُ فى مواجهة مُصطنعَة مع السياسة، وبقدر ما ساهم فى إضعاف منظمة التحرير؛ فقد ارتدّ ضعفها عليه لاحقًا، وصار يُقارب الحلول الناعمة من نقطة خاطئة ومفتقدة للتوازن: قواه الصلبة خارت تمامًا، ولا رصيد لديه من الأدوات الدبلوماسية، والسلطة الوطنية عاجزة عن الأمرين معًا، والعدوّ فى أعلى مراحله؛ إذ وظّف كليهما ضد الآخر، فما عاد مقبولاً لأىٍّ منهما أن يُخلِى موقعَه للشريك؛ ولو اقتضت المصلحة.

وعلى قدر ما يتمنّى الجميع اتفاقًا فى غزة؛ فإنَّ صورته النهائية وطريق الوصول إليه يكشفان عن محنةٍ أكبر من الحرب ذاتِها، وأشدّ خطرًا من سرديَّة الصهيونية، وما أظهرته منها أو تُخبّئه وراء ظهرها. فالفصائل افتتحت الجولة بإرادة فردية، أو بتوافقٍ مع جهةٍ خارجية فى أرجح الافتراضات، وتُبرِم الصفقةَ وحدها أيضًا؛ وإذ توقُّع بإصبع منقوع فى الدم؛ فإنها تنظر للداخل بعين المنتصر، وتتطلَّع لأن تصرف فى المستقبل، لقاء ما تكبّدته فى الحاضر.

قصةٌ مُعادة إلى درجة الملل؛ لعل أردأ فصولها ما جناه حزب الله على لبنان بعد حرب العام 2006. وقتها ذهب حسن نصر الله إلى استعراض عضلاته بخطف جُنديِّين، وعاد من الميدان بقدم مكسورة وأنف نازف؛ لكنه بينما أعلن الندم على استحياء، بقوله إنه لو عرفَ النتيجة ما أقدم على الخطف، كان يعدُّ الانتكاسة نصرًا، ويتحضَّر لصرف فائض قُواه فى بيروت، وتحميل فاتورة المعركة على حساب الدولة.

تقبّل قرار مجلس الأمن رقم 1701 بكل مُندرجاتها، وفيها ضمنيًّا ما نصّ عليه القراران 1559 و1680 بشأن الحدود والسلاح. وإذ سمحت له الظروف وقتها بالإفلات من القيود الأُمميّة، وبدا أن إسرائيل غير مشغولة بإنفاذ الترتيبات كاملة لضعفٍ فيها أو لغرضٍ مُضمَر؛ فقد استطاع الحزب أن يجنى المنافع من الجهتين: العودة المظفّرة من الجبهة تأبيدا لثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، وأن يكون سلطةً على البلد كله، وحَكمًا فوق الرياسات الثلاث.

تعود الجذور إلى ستِّ سنوات سابقة؛ عندما أخلى الاحتلال مواقعه فى الجنوب لأسبابٍ شتّى؛ فعدَّ الحزب ذلك انتصارًا، ودسّ فى حلاوة التحرير كل ما أراد من مرارات. وقد أفضت وقائع التطاوس إلى شطب رفيق الحريرى بطنٍّ من المُتفجِّرات، ووراثة التركة السورية فى بيروت، بما يعنى نقل راية الوصاية من دمشق إلى طهران، وما تفرّع على ذلك من اقتحامٍ للعاصمة بالسلاح، وفرض الثُلث المُعطِّل، واختزال الدولة والطائف والميثاقية فى خندقٍ عميق بالضاحية الجنوبية.

أثمرت اللعبة البهلوانية قبل عقدين؛ فأغرت الميليشيا بتكرار المحاولة. دخل «نصر الله» على خط الطوفان بإعلانه حرب الإسناد والمُشاغلة، متصوّرًا أنها ستدور على إيقاع دون الجولة السابقة أو فى مستواها على الأكثر، وسيعود منها رافعًا راية النصر ليحصد الثمر من غصون لبنان وجيوب اللبنانيين؛ لكن الغريم لم يكن مُقيمًا فى الماضى مثل سماحة السيد، ولم يقرأ فى الكتاب الذى وعاه من قبل؛ فأدهش الحزبيِّين بمُنازلة من خارج المنهج القديم.

قُتِن محور الممانَعة بنفسه لدرجة الوهم الكامل؛ وتصوَّر أن الآخرين يرونه على ذات الصورة، وأن ما أعدَّه من خُططٍ ستمرُّ بكاملها دون تقويم أو تصحيف. الطوفان لم ينحصر فى اشتباك عابر تعقبه صفقة مُبادلة، وارتداداته لم تتسع إلى المدى الذى أراده السنوار، وإسرائيل لم تحترم قواعد الاشتباك مع الحزب، ولم توفّر إيران من الاستهداف المباشر؛ فاختلطت الأوراق وتداخلت الحسابات.

قرابة سنة من الاستدراج، أوحت لنصر الله بأنه على الطريق القويم، وأن رؤيته صائبة وتُحقِّق المقصود منها بحذافيره. وفى غضون شهرين فحسب أجهز نتنياهو على الحزب، واقتصّ منه بأثر رجعىٍّ عمَّا كان فى كل الجولات السابقة، بحلوها ومُرّها. وتراجعت الجمهورية الإسلامية إلى حدودها الطبيعية، وتجلس تحت رحمة التأجيج المُرتقب ومداه المُحتَمل، وانقطعت دروب الإمداد السائبة عبر سوريا. فجأة تبدَّدت الأصول كلّها، وعاد الأغنياء فقراء كما بدأوا، وربما أسوأ.
الدراما التى خلّقها السنوار فى غزّة، مُستقلاًّ أو مدفوعًا بإملاء من الشيعية المُسلَّحة، طيَّرت شررها فى كل اتّجاه إلا إسرائيل. تماسك نتنياهو بعدما كان على حرفٍ من السقوط، واستعادت البيئة العبرية التئامها تحت راية الامتحان الوجودى، وتآكلت الأذرع الإيرانية، وأُطيح بشّار الأسد بكُلفة أقل مِمَّا تخيّله أشد أعدائه تفاؤلاً، وصار على المُمانِعين أن يتقبّلوا النتائج ويُسدِّدوا أعباءها صامتين، وعلى كل المستويات.

فوّض الأمين العام الجديد للحزب، نعيم قاسم، حليفهم الرئيس نبيه برّى، أو «الأخ الأكبر» كما وصفه؛ لينوب عنهم فى مُداولات وقف إطلاق النار، وفيما تبعها من مُقاربات انتخاب رئيس جديد للبنان بعد عامين من الشغور. وبينما تنازل لصالح قائد الجيش العماد جوزيف عون؛ تصوَّر أنه سيحتفظ ببطاقة الحكومة كما درجت العادة، وستكون له صلاحية التسمية أو على الأقل «حق الفيتو» على مَن يرتضيه؛ لذا فقد صُدِم لاحقًا بأن التكليف مرَّ من تحت منخاره، كما يقول اللبنانيون.

كُتلة الحزب النيابية أعربت عن امتعاضها من تسمية نوّاف سلام رئيسًا للحكومة؛ لا لمأخذ على الرجل، بقدر ما يُعبِّر عنه الاختيار من تغيّر قواعد اللعبة السياسية فى الداخل. ثمّة سابقة توافق فيها على القاضى الدولى الشهير؛ لكنه فى تلك المرّة كان يُريد نجيب ميقاتى اطمئنانًا لِمَا بينهما من وشائج، وتأكيدًا لأنه ما زال صاحب قرار فى الداخل، ولم تنسحب هزيمته أمام إسرائيل على مركزه بين القوى السياسية.

تقبّلت الضاحية شروط الاتفاق القاسية مع الصهاينة، وتداولت باتساع صدر فى القرار 1701 مع وعيها بمعانيه العميقة، وارتضت صعود الجنرال غير المُحبَّب لها رئيسًا بتوافق دولىٍّ فُرض على الداخل؛ لكنها تستنكف أن تنزل من عليائها لتصير فردًا بين الجموع، لا قوّة قاهرة تُسيِّرهم من بعيد. صحّ لديها طويلاً أن تنتخب للسُنّة مُمثّلهم فى السراى الحكومى، وأن تفرض على الموارنة رئيسَهم، وتجد غضاضة فى أن يتوافق الطرفان معًا.

إنها العُقدة نفسها لدى حماس وإيران والإخوان، وربما هيئة تحرير الشام أيضًا. تكون الأُصوليّة براجماتية وشديدة التعقُّل مع الأعداء والقوى الغريبة؛ لكنها تستأسد وتتوحَّش على الأقرباء وأبناء الهُويّة الواحدة. تُفرِّط حماس لإسرائيل فيما تعزّه على رام الله، ويُرحِّب الحزب بنتنياهو الذى أفرزته الصناديق، ويكره للبنانيين أن يختاروا بحريّة كاملة. وإلى ذلك؛ فإنهم يردفون الازدواجية المقيتة، بخياراتٍ بائسة، ويستبدون بالقرار دوما، ويُضيّعون المواقيت.

ما كان على السنوار أن يُطلِق طوفانه بالصورة والموعد الماثلين، ولا كان نصر الله مُضطرًّا للإسناد على غير رغبة اللبنانيين جميعًا. صفقة غزّة اليوم كانت معروضةً فى السابق، وسياسيّو بيروت كانوا يتطلّعون لتسوية مع الحزب أقل كثيرًا مِمَّا تحقَّق لهم اليوم. واستكبار الأسد لثلاث عشرة سنة أورثت سوريا داءً عُضالاً لا سبيل للتشافى منه، وكان بإمكانه حتى وقت قريب أن يوفّر لنفسه خروجًا أكثر احترامًا، وأن يحفظ لطائفته وحزبه وللبلد كله سياقًا انتقاليًّا لا يضعه فى عين العاصفة كحاله الآن.

وإذا كان الغرام بالوفادة المتأخرة يُعطِّل فضيلة المُراجعة، ويحجب النظر عن استقراء الشواهد واستيعاب الدروس، والعظة والاعتبار من السوابق فى اللواحق؛ فإنها لا تترك مجالاً للشخص أن يستفيد من تجارب الآخرين، فتُكرِّر حماس خطايا الحزب، ويأخذ الأخير ما انتهت إليه الأولى ليُعيد إنتاجه على صورة أفدح، وتعمَى عَيْنَا «الجولانى» فى قصر الشعب عن وقائع الإقليم وحوادثه، فلا يعتبر من التجربة الأسدية، ولا من نزيف المُمانَعة، ويُفرط فى اقتفاء عداوة الشيعية المُسلَّحة، ولا يسترعيه إرث العثمانية إذ يدخل الآن فى نسختها الجديدة.

يتحدث «الجولانى» عن الدولة بدلاً من الثورة؛ لكنه يستمرئ مسموحات الثانية ويُغلِّبها على التزامات الأولى. يُفرِط فى لقاءات الخارج وإزجاء الرسائل الوردية للعالم، ولا يقطع خطوة واحدة باتجاه الداخل، وما تزال الخروقات حاضرة على امتداد الشام، بمعزلٍ عن القانون وقواعد الضبط والربط؛ حتى أن وزيره المُكلَّف بحقيبة العدل ظهر فى وقائع إعدام ميدانية، مُقدِّمًا صورة صارخة عن تسلُّط الميليشيا، أو مَلشَنَة المؤسَّسات، وهى أقرب للحرب الأهلية منها إلى الثورة أو الدولة.

يتسامح الرجل مع التوغُّل الإسرائيلى جنوبًا، ولا يُدير شفتيه إطلاقًا بشأن الاحتلال الماثل شمالاً، ويُؤذيه أن يحتفظ الكُرد بالإدارة الذاتية مؤقَّتًا، وإلى أن تُفضى الترتيبات الراهنة لملامح واضحة عن الانتقال المأمول. كأنَّ فاعليّة سلاحه الوحيدة تتحقَّق باتجاه الشارع، بينما يبدو عاجزًا، عن ضعفٍ أو مُواءمة، تجاه الحلفاء والأعداء المُتشابهين فى سلوكهم العدوانى على الأصول السورية.

إن صحّ أنَّ التاريخ يُكرِّر نفسَه، ووقائع الشرق تتناسل بالاستنساخ المُتطابق من بعضها؛ فإن الجولانى لن يُحوِّط على المجتمع المُتشظِّى بنيّةٍ صافية، ولن يجتهد لإنجاز حالة إجماعيّة عِمادها الدستور والقانون، وضابطها الهُويّة المدنية، وغايتها الوحيدة أن تنتظم الإدارة، والحياة أوّلاً، بمعزلٍ عن الحسابات النفعيّة أكانت نابعةً من داخل الميليشيا، أم مفروضةً عليها من الرعاة والمستثمرين فى تسييدها على الآخرين.

وإن مَدَدنا الخطَّ على استقامته؛ فإنَّ المُهلة المطلوبة لإعادة تكوين العُمد الأساسية لنظام الحُكم لن تنحصر فى أربع سنوات، وفى كل الأحوال ستُستخدم للتغلغل فى شرايين المرافق التنفيذية، وصبغها بلونِ الطائفة، وتثبيت الاستثناء تحت سلطة الأمر الواقع، وكلها ستُفضى بالضرورة إلى جولة احتدامٍ مُقبلة، قد لا تقل عن الجولات السابقة مع النظام، ولن تُحسَم إلَّا بقبضةٍ تهبط عليها من السماء، وإرادةٍ خارجية تُملَى على الفُرقاء ذوى الدم الواحد؛ بعدما يتعذّر عليهم التفاهم بلُغتهم الواحدة.

يحدث التوافق تحت النار، وبإملاءٍ من وراء الحدود غالبًا، وحتى لو أفضى إلى تفاهُماتٍ وطنية راسخة أو هشّة؛ فإنه لا يُغيّر حقيقة أنَّ الذهاب إلى الحاضنة الأصلية كان فرعًا عن إخفاقات فى المسارات الخاطئة، ومن دون قناعةٍ حقيقية بنهائية الرابطة العضوية داخل البلد الواحد، وبحاجة المكوّنات جميعًا إلى التلاقى وإنتاج رؤاهم بوفاقٍ كامل، ومن استشعارٍ للمسؤولية المُلقاة على عواتقهم، ولأولوية المصلحة العمومية على كل اعتبارٍ تنظيمى أو فردانىّ.

والحال؛ أن المحرقة المتأججة فى الإقليم تبشر بفرص إيجابية عدّة، بقدر ما تنطوى على مخاطر، وما دُفع فيها من تكاليف. إذ الهدم مقدمة ضرورية فى مجال البحث عن الانتقال من بناء خائر لآخر مستقر، والتحول عن الاعتلال إلى العافية. شريطة أن يُقرّ المهزومون بالهزيمة أولا، وبأنهم نكبوا أنفسهم وغيرهم، ولا يمكن أن يتحقق الوصول للشفاء بما كان سببا فى الداء.

ربما يمكن القول إن لبنان تخلص من قيد ثقيل؛ لكنه ما زال مهددا لو انتقل من تسلّط الحزب إلى غشومة الثأر من منافسيه، والإفراط فى الحط من كرامته ولصق ظهره بالجدار، بينما لا يتوافر هذا السياق أصلا فى فلسطين، وتبدو سوريا كأنها انتقلت من أرض محروقة إلى قاع بركان، والخطر عليها أكبر لأنها مطالبة بانتقالين متراكبين: الميليشيا إلى السياسة المدنية، والحرب الأهلية إلى دولة القانون والمساواة.

وعقارب الساعات لا تتوقف عن الدوران، والإتيان متأخرين غرام لا ينخلع من وعى الشرق؛ أما المحنة الأكبر فأن قواه الأصولية المتأججة، والمهيمنة على بعض الفضاءات، لا تقبل الوئام من مراكز متكافئة، وتقدم الطائفية على المواطنة، وثالثة الأثافى أنها تُقرّ للعدوّ ما تأباه على الشقيق والصديق.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة