فى حال لم تطرأ نزوة جديدة فى ذهن نتنياهو؛ فإن الجولة الحالية من مفاوضات غزة ستنتهى إلى اتفاق وشيك للغاية. تتواتر إشارات إيجابية من كل الأطراف، وتتضخّم الرياح الأمريكية فى أشرعة الصفقة، والوساطة المصرية القطرية متفائلة بحذر أقل من السابق، ويبدو أن الجانى والضحية قد وصلا معا إلى طريق مسدود فى الميدان؛ فانفتحا مضطرين على خيارات السياسة.
المُهلة النهائية تنتهى الاثنين المقبل، مع حلول دونالد ترامب على البيت الأبيض، وانتقال الراية من إدارة ديمقراطية أشرفت على المذبحة، إلى أخرى جمهورية لا تريد أن تبتدئ ولايتها بحربٍ خاسرة فى كل الأحوال؛ إذ لا جديد يُذكر ولا قديم يُعاد، وليس فى وسع حماس أن تتصلّب أكثر من هذا، ولا فى مقدور تل أبيب أن تُنزل بها ما هو أقسى مِمّا حاق القطاع.
إنه الخيار الإلزامى بالنسبة للطرفين؛ فيما يُشبه انتهاء مبارة ملاكمة بين خصمين شرسين بنتيجة رمادية، يصح أن يقرأها كل منهما على معنى النصر، أو يراها آخرون تعادلاً لا حسم فيه. القوى لم يعد قادرًا على تسديد اللكمات المؤثرة، والضعيف خارت قواه ولا مكان فى وجهه وأنحاء جسده لمزيد من الضربات.
وما يُعزز التصور السابق؛ أن الأوضاع على الأرض ما تغيّرت فى شىء على الإطلاق. الأهداف المعلنة من الحكومة العبرية ما تزال عالقة، والفصائل الغزيّة غُيِّبت عمليًّا ولو أبقت على شىء من المناوشة وصدى الصوت، وإدارة باديدن فقدت آخر أوراقها الفاعلة، وحماوة الاهتمام العالمى ضاعت فى صخب التقلبات الإقليمية الحادة.
ولعلّ المُتغيّر الوحيد فى رسائل ترامب، وما مرَّره من تهديدات بإشعال الجحيم إذا لم تُنجز الصفقة ويُعاد الأسرى قبل موعد التنصيب. ولكن حتى هذا العامل قد لا يكون حاسمًا فى الذهاب إلى الهُدنة المُعطّلة؛ لأن الوعيد انصرف إلى «حماس» حصرا، لناحية أنها الجانب المعنىّ بمسألة الرهائن، فما من شىء يُزعج نتنياهو فى الاندفاعة الأمريكية، أو يردّه عن عناده وإفساده المستمرين للمقاربات، بينما تقطن غزة فى جهنم الحمراء فعلا، وأى حديث عن التصعيد قد لا يتجاوز المُبالغة والبلاغات اللفظية.
عند حدٍّ مُعيّن تتساوى الاحتمالات. بمعنى أنه قبل اغتيال السنوار كان لدى الحماسيين ما يخشونه أو يسعون للحفاظ عليه، وبعد تسطيح القطاع وتحويله إلى كُتلة من الردم والموت المُعمَّم، صار تحذير المنكوبين من المزيد انفصالا عن الواقع، وخطابا لا يجد من يتسلّمه من الأساس، ناهيك عن أن يستوعب معانيه، أو يتهيّب ما فيه من استئسادٍ وترهيبٍ.
منذ أُبرمت الهُدنة الأولى فى نوفمبر قبل الماضى، كانت قواعد اللعبة مرسومة بوضوح لا يحتمل التأويل أو إساءة الفهم. بدا الذهاب للاتفاق ناشئا عن حاجة حقيقية لدى الطرفين، ومآل المواجهة محسوما مسبقًا لجهة الآثار المادية، ومُعلَّقًا فى الوقت نفسه فيما يخص فاعليّة الحلول الخشنة، وإمكانية إنهاء الجولة بالضربة القاضية.
اتفق العدوّان فى التكتيك واختلفا على الاستراتيجية. لم تكن فلسفة «الطوفان» أن يمر كموجة عابرة، ولا أعدّ اليمين الصهيونى عدّته بمنطق أنه يردّ على الصفعة بمثلها؛ إنما أراد السنوار أن يُمهِّد الأرض لمواجهة واسعة المدى، واختار نتنياهو أن يتَّخذ من الساحة الفرعية منفذا إلى قلب المحور المضاد. وعليه؛ صارت السياسة رصاصة فى بندقية الحرب، وليست صورة مستقلة منها، أو بديلا مُحتملا عنها حسبما تقضى الظروف.
دُفِع سيِّد تل أبيب إلى المبادلة المحدودة بأثر الصدمة القاسية، وسعيًا إلى امتصاص غضبة الشارع، وتقديم ما يوفّر له مُتسعًا من الوقت للتأخير لاحقًا. أما رجل حماس القوى فقد استشرف فيها فرصة لالتقاط الأنفاس، وتجديد مخزون مُقاتليه المادى والمعنوى، وإقامة الحجة على غريمه فى بيئته. وكلاهما سعى لاستكشاف حدود الآخر، واستثمار التهدئة سيكولوجيا وحربيًّا؛ بما يسمح بتثبيت الذات وإرباك الغريم، وإفساح مُتّسع لتأجيج النار أو توريط الحلفاء.
كان الحدث واحدًا، وارتدادته شتّى. سِيق بالعبرية على معنى أن دولة اليهود فى مرمى الابتزاز، وأن التنازلات لا تفيد طالما أبقت حماس على حالها، وتركت هامشًا لتكرار الوقائع من جهة غزة أو لبنان. وقُرئ بالعربية من زاوية البأس والاقتدار، والعدو الأوهن من بيت العنكبوت، وتغذية شهوة محور المُمانَعة وأطماعه؛ إذ لو كان بمقدور حماس فى محدوديتها وحصارها أن تتوصل لاتفاق كهذا؛ فإن حزب الله يقدر على ما هو أكبر، وإيران نفسها قد تُعيد صياغة المنطقة بالكامل على هواها لو تدخّلت.
تغافلا عمدا، أو بخفّة عقل، عن الجوهر الحقيقى وراء الصفقة المبكرة. لا تناسُب فى القوة على الإطلاق، ولن يُنجز السلاح اليوم ما عجز عنه لثمانية عقود. الموت لا يُنتج إلا موتًا، والثارات تبقى وتكبر فى الصدور. الاحتلال ليس نهاية التاريخ، والمقاومة لها صور شتّى بخلاف القفز فى المحرقة. والحروب مهما طالت مصيرها إلى زوال، وما لم تنته بمقاربات عاقلة وعادلة؛ فقد لا تتجاوز الفاصل بين احتراقين.
كان واضحًا أن زعيم الليكود يُطيل أمد الصراع لأغراض خاصة؛ وإذ يتهرّب من المساءلة عن الإخفاق الأمنى، ويُبقى على ائتلافه فوق حدّ التصدُّع داخليا، أو الالتجاء غصبًا لصندوق الانتخابات، فقد عمد بالتوازى إلى الضرب فى الجذور والأعماق، واستهداف حاضنة حماس وظهيرها بدلاً من الاكتفاء بجزّ العشب والتصويب على الأطراف. وفى المقابل؛ لم يكن مفهومًا على شىء يُراهن قائد الحركة، ولا ماذا ينتظر فى آخر النفق المشتعل!
أفضت المغامرة لنتائج كارثية. ولم يعد محلّ شك أن «الطوفان» كان جزءًا من تصوُّر واسع، خُذِلت فيه غزّة مرتين: الأولى من داخلها عندما وضعها المتسلّطون على شؤونها فى وجه العاصفة، وارتضوا أن تكون بيدقًا مُتقدّمًا فى لعبة الشيعية المسلحة، والثانية من جانب الجمهورية الإسلامية وميليشياتها الرديفة، وقد بدّلت الخطة فى وسط المباراة، وما أخطرت الغزيِّين بأن عليهم أن ينظروا لمصالحهم بمعزلٍ عن سابق الوعود.
سارت الأحوال بغير ما أريد لها من جانب المُمانَعة، وتقدّم نتنياهو على مسار الربح المنفرد فى كل الجبهات. أزاح حزب الله من واجهة الجبهة الشمالية، وتتبع الأصول الإيرانية فى سوريا وصولاً إلى إطاحتها مع النظام الأسدى، وجلس يُحضّر للحرب على رأس المحور نفسه بعدما فرغ من الأذرع.
بينما أفاق الحماسيون على أن طهران لم تلاقهم فى الميدان كما وعدت، ولا خرجت من دعايات «وحدة الساحات» إلى تفعيلها، وغلاف النار حول إسرائيل ينطفئ بالتتابع، وغزّة التى أُرهِقَت فى وجودهم الباهت، على موعدة مع الأنكى فى غيابهم الثقيل.
أحسّت الحركة بالنوازل مبكّرًا؛ لكنها استمرأت المكابرة. بدأت بشعارات حرب التحرير، وانتهت إلى البحث عن مجرّد ظلٍّ لها فى المستقبل. طلبت تبييض السجون؛ فأضافت إليها أضعاف مَن كانوا فيها، وتصلّبت فى الانسحاب الكامل وإنهاء الحرب، وعليها اليوم أن تقبل وعودًا يُمكن نقضها بعد خطوةٍ واحدة.
والحال؛ أن الصورة المأساوية إنما تنُمّ عن دخول فى المُقامرة دون رؤية أو برنامج عمل، وعن أثر الأيديولوجيا الساخنة عندما تعمى العيون، وترهن المُتاح مجانيًّا لدى المأمول، وتُضيِّع المُمكن على أمل الوصول إلى المستحيل.
والمفارقة المؤسفة من كل الوجوه، أن الورقة الجديدة لا تختلف تقريبًا عن سوابقها. مُجرّد تحويرات عارضة فى الأعداد وترتيب الأيام؛ لكنها الخلاصة نفسها: مُبادلة بمُعادل تضعيفى، وانسحاب مُتدرّج، ويوم تالٍ لا ملامح له، ولا ثابت فيه إلا الرفض المُطلق للحركة بكل مستوياتها، مع ما تسبَّبت فيه من انسحاب الموقف الصهيونى المُتشدِّد على السلطة الوطنية؛ فكأن حماس صوّبت على ما تبقّى من أوسلو، وما أنتجت بديلاً عنها، أكان أفضل منها أم أسوأ.
تتوزّع الصفقة الجديدة على ثلاث مراحل، تمتد كل منها لستّة أسابيع. أُولاها مخصصة بالكامل لتبادل الرهائن من النساء والأطفال وكبار السن، وإخلاء قلب القطاع مع التمركز على أطرافه، والسماح بحرية الحركة ونفاذ المساعدات، على أن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية فى اليوم السادس عشر، وتنتهى بحلول الأسبوع الخامس، أما الثانية فتستكمل المُقايضة تحت عنوان الهدوء المستدام، والثالثة تُمهِّد لإعادة الإعمار وفق خطة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، بجانب فتح المعابر وسيولة حركة الأشخاص والبضائع.
لا فارق فى جوهر الأطروحة عَمّا كان فى الورقة المصرية خلال ربيع العام الماضى، ولا المُقترح الأمريكى بعدها، أو خلاصات جولتى باريس قبلهما. ولا حديث عن أُفق اليوم التالى، وطبيعة السلطة الانتقالية وجهة الإدارة فى القطاع. ولعلّها أُرجئت لمُداولات لاحقة؛ لكى لا تتسبّب فى إفساد الصفقة، على اعتبار أن التهدئة مُقدّمة لتبريد الأدمغة، وإفساح لمجال السياسة، ووقتها لن يكون التفكير فى بديل مرفوض عن الحرب؛ بل فى المفاضلة بين البدائل المطروحة تحت لافتة السِّلم.
ينشغل البيت الأبيض بالاتفاق لأسباب عِدّة؛ أولها أن بايدن يبحث عن إنجاز يُتوِّج به إرثه الضائع بين سوء الإدارة وتوالى الأزمات، بجانب الرغبة فى ترميم سُمعة الديمقراطيين، والثقة فى أن الأرضيّة مُمهَّدة لإبرام الصفقة الآن؛ لأن نتنياهو يخشى ترامب مثلما يخشاه الفلسطينيون، ما يسمح بالتوصّل إلى تهدئة تستدرك ما ضيّعه الرئيس العجوز، وتحرم الوافد الجديد من ربحٍ سهل يُمكنه اقتناصه فى يومه الأول بعد التنصيب.
حماس قلقة من المستقبل الغامض، وأوحش ما فيه خبرتها السابقة مع الجمهورى العائد بعد انقطاع قصير، بخبرة أعمق ولُغةٍ أشدّ سخونة. وقد أضاءت عملية اختياره لرجاله على طبيعة المرحلة المُقبلة، وأوحت فيما يُشبه التأكيد بأن الخيارات اللاحقة ستكون لصالح إسرائيل حصرا، وما لم تتحصّل عليه اليوم فلن تصل لما هو أقل منه غدا.
تغيّرت المنطقة كلها مثلما وعد نتنياهو، ولا معنى للإسراف فى الحديث عن أثره فى ذلك، وما كان خارجا عن يديه فى ورشة التنشيط وإعادة الترسيم الجيوسياسى. فالمُحصّلة أن إيران حُبِسَت فى حدودها التاريخية تقريبًا؛ ولو تبقّت لها جيوب فى العراق واليمن، لن يمر وقت طويل قبل تصفيتها، وقد بادرت بغداد لهذا بدرجة ما، وبدا من زيارة السودانى الأخيرة لطهران أنه ينفض يديه من محور المُمانعة، ويسعى لوضع فواصل واضحة بين البلدين.
سوريا لم تكن طرفًا فاعلا فى الصراع؛ لكنها على الأقل وفّرت ممرًّا آمنًا للميليشيات الشيعية، وما بعد سقوطها فى حِجر الأُصوليّة السنيّة ليس كما كان قبله؛ إذ لا تحضر القضية الفلسطينية على رادار الجولانى، ولا يضع قادة الشام الجُدد عداوة إسرائيل بين أهدافهم؛ وإذ يُوجِّهون طاقتهم لاختصام الغريم الشيعى؛ فإن حماس طرفٌ أصيل فى المسألة من جهة تحالفها مع إيران، ولا أُفق لحضور حزب الله على خط الإسناد؛ هذا لو تمّكن أصلاً من استعادة عافيته ولم تُودِ به الملمّة الحالية إلى الذوبان والانحلال.
أخطأت الفصائل، وما أصاب الاحتلال. صارت الأوضاع لأسوأ مِمّا كان قبل الطوفان بالنسبة للطرفين؛ حتى مع قائمة المكاسب الظاهرة فى رصيد نتنياهو. أُخرجت غزّة من الصراع لسنوات طويلة مُقبلة، وقد لا تتمكن حماس من استعادة توازنها فى القريب، والسلطة الوطنية أُضعِفت بأيدى الفلسطينيين قبل الصهاينة، وما زال البديل عنها غائبًا بأثر الانقسام، قبل أن يكون بفعل إسرائيل. حُيِّد السلاح، وحُمِّلت السياسة أوزارًا فوق أوزارها، وقد لا تتمكّن القضية من التنفس بأىٍّ منهما فى حياة الجيل الحالى.
الحكومة العبرية مُضطرّة للاتفاق، وذاهبة إلى ما كانت تتهرّب منه. الهُدنة ستفتح عليها أبواب الحساب، وما لم يتمكّن رئيسها المراوغ من نقض الصفقة بين المراحل، والعودة إلى الحرب تحت ذريعة أخرى؛ فإنه قد يصطدم بالشارع أسرع مِمَّا يتخيّل، أو تتعقّد الأمور داخل الائتلاف، لا سيما مع عودته للانتظام فى المحاكمة عن قضايا الفساد، ومع مشاعر ترامب السلبية تجاهه، واحتمالية أن يجتهد للتخلّص منه، وهو ما يُمكن أن يكون حاسمًا فى ترجيح أية مواجهة سياسية داخلية.
أراد نتنياهو أن يُغيّر الشرق الأوسط، وأفلح عمليًّا فى إرباك الإقليم كله، وتبديل الأوضاع على ثلاثة محاور: فلسطين وسوريا ولبنان. لكن ما غاب عنه أنه جزء من الشرق القديم، وأن قطار التغيير لن يصل لمحطّته إلا بالعبور على حقبته الطويلة، وإنهاء مسيرته السياسية كغيره من مفردات الزمن الآفل.
كان صعوده تعبيرا عن حقبة إقليمية جديدة، تآكل اليسار المؤسس للدولة، وبرز اليمين القومى والدينى وسط موجة من التيارات الشبيهة فى الدول المحيطة. بُنيَت تجربته بالتزامن مع سطوع نجمى حسن نصر الله وبشار الأسد، واستثمر فى حماس وأخرج لها السنوار من السجون. والحال؛ أن طبقة القيادات الحارقة قد تبدّدت، ولم يتبقّ سواه.
وصف الخمينى نهاية حربه مع العراق فى أواخر الثمانينيات بأنه يتجرّع كأس السم. وزعيم الليكود قد جرّعه لخصومه جميعًا، والدور عليه الآن، ولا خيار آخر لديه. كأن نتنياهو فى توقيعه على الصفقة المنتظرة؛ يوقع استقالته أو قرار خروجه من المشهد، وتتبقّى مراسم الدفن وتشييع إرثه بكل ما فيه من تفاهُماتٍ بائسة وبطولات زائفة. وإصلاح ما أفسده لن يُمرِّر على جمهوره أنه كان سببًا فى الطوفان، وتحجيم الشيعية المُسلّحة لن يغفر أنه مهَّد الطريق للعُثمانية الجديدة، أو استبدل بالمُمانعة أصوليّةً لا تقل عنها تطرّفًا.
رابح فى الظاهر وخاسر بالنقاط. رجلٌ مهزوم يُفاوض جُثثًا مُتحلِّلة، والسياق الراهن يتجاوزهما معا.. جلس إلى حليفيه المُتطرّفين: وزير المال بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومى إيتمار بن غفير. طلب منهما أن يُعارضا الصفقة لفظًا ويُمرِّراها صمتًا، وأن ينحصر الاعتراض فى التصويت لا تفكيك الائتلاف؛ لأنه لا بديل عن تجرُّع كأس السم، والدولة أحوج ما يكون للاتفاق. قصة مُتكرّرة، تُرتَكَب فيها أفدح الجرائم باسم الدُّوَل، وتُمرَّر النزوات الشخصية تحت مزاعم المصالح العُليا.
ما كانت إسرائيل فى حاجة لإزهاق أرواح خمسين ألفا، أو إعادة غزة خمسة عقود للوراء. لو تعلّمت من سوابق تجاربها؛ فالدرس الوحيد أنها قضية وجود لا حدود، ولن تُحسَم بزحزحة الخرائط أو إحراقها على مَن فيها. ولأنه من البِركَة نفسها؛ فلا يختلف عن خصومه من حماس والحزب والحرس الثورى وهيئة تحرير الشام إلا فى اللغة وزاوية النظر؛ بمعنى أنه لو وُلِد عربيًّا لكان عضوًا أو قياديًّا فى أىٍّ منها على الأرجح، ما ينطبق على نصر الله وخامنئى والسنوار والجولانى؛ إذ فى سياق خيالى بديلٍ كان طبيعيًّا أن تراهم جميعًا بين جنرالات الصهيونية أو فى كابينت الحرب.
اشتركت الأصوليَّات كُلها فى إحراق المنطقة، وعادت الكُرة أخيرا، وكالعادة، إلى ملعب الاعتدال. حال القضية يُدين أطرافها المباشرين، ويُقدِّم برهانًا عمليًّا على صوابية الموقف المصرى الداعى للمصالحة، والمجتهد لتحصيلها منذ خمس عشرة سنة ويزيد. نزول نتنياهو عن شجرة الحرب الإفنائية الدائمة اعتراف بالفشل، وقبول حماس بأقل مِمَّا كان معها أو عُرض عليها سابقًا يُعرِّى سرديّة الممانَعة من تجارتها الرديئة. ينفرون إلى الميدان خِفافا وثِقالا، ويعودون جميعًا للطاولة مُثقلى الخُطى ومُنكّسى الرؤوس.
يُنتظَر أن تمرّ الصفقة من قناة الحكومة الإسرائيلية قريبًا، وقد لا يكون فى حنجرة حماس ما يكفى للنطق بالقبول أو الرفض؛ فتكتفى بإيماءة رأس. وإن كان فى الوصول بعد مشقّة من إشارة واحدة؛ فعلّها تُختزل فى إدانة الأُصوليّة على الناحيتين، ووضع نقطة فى آخر سطر الخطابة والعنتريات، وإثبات أن أعلى الناس صوتًا، غالبا ما يكونون الأردأ فى الفكر والفعل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة