كان المشهدُ خاطفًا لدرجة إرباك الجميع، حتى أنَّ المُتدفّقين من إدلب فُوجئوا كغيرهم بسرعة الوصول إلى العاصمة دمشق، ورحيل بشَّار الأسد وراء ستار الليل وتحت حماية روسية.
نتنياهو كان الوحيد الذى استعدَّ مُسبَقًا على ما يبدو؛ فألغى اتفاقيَّة «فضّ الاشتباك»، وتوغَّل خارج الجزء المُحتلّ من هضبة الجولان؛ أمَّا العرب فقد استجمعوا شتاتَ أفكارهم سريعًا، وسَعَوا لملاقاة السياق الجديد فرادى وجماعات، وما زالوا يراقبون من كثب.
قلوبُهم مع الاحتضان ورعاية التجربة، وعقولُهم مُعبَّأةٌ بالشفقة على الشام من آثار محنته الطويلة، وبالتساؤلات عن خطورة الانتقال السياسى فى عباءة أُصوليَّةٍ، ما غادرت ثقافة الميليشا بعد، ولا فى رصيدها أيَّةُ معرفةٍ بفلسفة الدُّوَل وطبيعة الحكومات المَدنيَّة.
غاب العربُ طويلاً عن سوريا. فما بين التدافُع من جانب البعض لقَطع العلاقات بدءا من أواخر العام 2011، وانشغال آخرين فى أزماتهم الداخلية الناشئة عن عواصف «الربيع العربى»، ظلَّ الإقليمُ بعيدًا للغاية مِمَّا يجرى على الأرض، اللهم إلَّا دعم بعض الأطراف للقُوى المدنيَّة أو المجموعات المُسلَّحة فى اشتباكها الهادر مع النظام.
عشر سنوات تقريبًا على هذه الحال، إلى أن تشكَّلت «لجنةُ الاتصال» وعقدَتْ اجتماعاتٍ فى عمّان وجدّة والقاهرة، واستعادت دمشقُ مقعدَها فى الجامعة، وافتُتحِتْ المُقاربة الجديدة من نقطةٍ إصلاحيَّةٍ تتجادَلُ مع الأسد تحت لافتة القرار الأُمَمىِّ رقم 2254؛ إلى أن وقعت الواقعةُ على رؤوس الجميع؛ دون مُقدِّماتٍ أو سابق إنذار.
بدأت المُواكبةُ العربية للتحوُّلات الجديدة فى اليوم السادس من دخول الجولانى ومُقاتليه للعاصمة. عُقِدَ اجتماعٌ للجنة الاتصال المَعنيَّة بسوريا فى مدينة العقبة الأردنيّة، ثمَّ مع وزراء خارجيَّة ومُمثِّلين عن قُوى إقليمية ودولية.
ولم تَكُن السُّلطة المُؤقَّتة قد تشكَّلت، أو تحدَّد عنوانٌ واضحٌ لها؛ فاستقرَّ الحضور على المبادئ العريضة بشأن طبيعة الانتقال، وأن يكون سوريًّا بمِلكيَّةٍ وطنيّة خالصة، ومن دون إقصاءٍ أو تدخُّلات خارجية، وعلى قاعدة البرنامج الزمنى المُقتَرَح فى نصِّ القرار الصادر عن مجلس الأمن.
وتتابعت التحركات الفردية من وَقتِها، عبر الاتصالات والوفود، أو زيارة وزير الخارجية المُعيَّن من الإدارة المُؤقَّتة لعددٍ من العواصم. ولا يخرجُ الحديثُ حتى الساعة عن خطابات النوايا؛ إذ ليس من حقِّ أحدٍ أن يُقرِّر للسوريِّين ما عليهم فعله، بينما لم يُقدِّمْ قادتُهم الجُدد أىَّ تصوُّرٍ واضح عن المستقبل، قريبًا كان أم بعيدًا.
الجولةُ الثانية انتظمت أمسِ فى العاصمة السعودية، بعد نحو شهرٍ من سابقتها، وخمسة أسابيع منذ اكتمال السيطرة على تركة البعث. وإجمالاً؛ فلم يخرج النقاشُ عن المحاور العريضة، ولا دخلَ فى التفاصيل والفرعيَّات.
يسعى الجميعُ إلى دعم السلطة الجديدة، وتحفيزها على إنجاز الأولويات المطلوبة، وهى من جانبها تُخاطِبُ العالمَ بانفتاحٍ واضح؛ لكنها تحصرُ خطابَها فى الحقوق لا الواجبات، وتطلُبُ الاعترافَ وتطبيعَ موقفها المُهيمن، من دون التعهُّد بالتزاماتٍ حقيقية تجاه المَعنيِّين بالوضع السورى، ولا حتى تقديم خطَّة مَرحليَّة مُتدرِّجة بشأن ترتيب البيئة الداخلية، ووَضع الشعب فى صورة الإجراءات الوَقتيَّة وبعيدة المدى على طريق رفع الأنقاض، وإرساء ركائز النظام الجديد.
انطوَتْ أجندةُ الرياض على جلسةٍ عربيَّةٍ بحضور مسؤولى الدبلوماسية فى تسعِ دُوَلٍ، منها سوريا نفسُها، إضافةً إلى أَمِينَى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجى، ومن بعدها التحق بهم عددٌ من وزراء الخارجية الغربيِّين، بجانب المبعوث الأُمَمىِّ جير بيدرسون، ومُفوَّضة السياسة الخارجية بالاتحاد الأُوروبى كايا كالاس.
وبديهىٌّ ألَّا يخرج العنوان العريض عن نطاق الإغاثة وتدبير الاحتياجات العاجلة، فضلاً على البحث فى مسائل العقوبات، ومنح الإدارة الانتقالية صِفَة التمثيل الشرعىِّ الكامل للدولة، ما يسمحُ لها بقَدرٍ من حرية الحركة فى بناء علاقاتها الخارجية، وإبرام اتفاقاتٍ تُعزِّز جهودَ الإعمار وإعادة تنشيط الاقتصاد المأزوم.
لكنَّ الأسئلةَ الكُبرى تظلُّ مفصلاً عضويًّا فى أيَّة مُداوَلة سوريَّة، مع حُكَّامها الجُدد أو من دونهم، ولعلَّها أُثِيرَتْ فى النقاشات الثنائية وداخل الغُرَف المُغلقة، والمُؤكَّد أنَّ الردودَ فيها لم تَخرُجْ عن التعهُّدات الحاضرة بكثافةٍ على لسان الجولانى.
يصعُبُ القَفزُ على حقيقة أنَّ الإدارة الجديدة آتيةٌ من مساحة رماديَّة؛ لكنها ليست المُعضلة الأكبر فى النظر إلى ما تَسوقُه من وعودٍ أو تُبشِّر به من إجراءات. الحقائقُ على الأرض تكشفُ عن واقعٍ مُغاير لِمَا يُساقُ للوفود والزوَّار، وما صار رائجًا فى أدبيَّات سُلطة الأمر الواقع وجهًا لوجهٍ، أو عبر البيانات السياسية والإجراءات التنفيذية.
ويظلُّ الشاغلُ الأكبر فى المُحرِّكات لا تمثُّلاتها الماديّة؛ بمعنى أنَّ أجواء الانتقال تحتملُ السيولةَ والضبابيَّةَ وانعدام الرؤية مُؤقَّتًا، ولا يمنعُ هذا من الصبر والرهان عليها؛ شريطةَ أن تكون العمليَّةُ وطنيَّةً خالصةً، ومن داخل البيئة السورية بتناقُضاتها المُركَّبة، وبما فيها من عوامل القوَّة والضعف، وليست مُستوردةً أو مفروضةً عليها من الخارج.
وتيرةُ العمليات ذات الطابع الثأرى تُوجِبُ القلقَ قطعًا؛ لكنَّ التعثُّرَ فى المواقف الرسميَّة إزاء التوغُّل الإسرائيلى جنوبًا يُقلِقُ أكثر، والصمت على أنشطة ميليشيا حليفة لهيئة تحرير الشام شرقًا، مثل الجيش الوطنىِّ الحرِّ فى اشتباكه المدفوع من طرفٍ خارجىٍّ مع الأكراد، يبعثُ الشَّكَّ فى سلامة الرُّؤية الوطنية لدى القيادة الجديدة، واستقلال قرارها؛ لا سيَّما أنها لم تقترب على الإطلاق من الاحتلال الماثل الشمال، وكأنها مَردوعةٌ عن مُقاربة الشواغل الجُغرافيَّة للبلد لأسبابٍ أيديولوجية، أو لالتزماتٍ تُرتِّبُها عليها طبيعةُ الرعاية الخارجية، وهامشُ الحركة داخل تحالفٍ له صيغةُ التبعِيَة والإذعان.
كان نظامُ الأسد مَشبوكًا فى علاقاتٍ عابرة للحدود، أبرمَها على صِفَة الدولة، ثمَّ حَوَّلته إلى وضعيّة التابع. والجولانى منذ دخوله المُبكِّر فى الحرب الأهليَّة لم يَكُن مُستقلًّا على الإطلاق، وتحرَّك طوال الوقت تحت سحابةٍ من الوصاية الإقليمية.
وإذ ينتقلُ اليومَ من المُعارضة لمقعَدِ الحُكم؛ فإنّه يحملُ معه ذات التركيبة المُشوَّهة التى تسلَّطَتْ على سَلَفِه الراحل، بفارقِ أنه يبدأ بها، بينما انتهى إليها «بشَّار» بعد سنواتٍ من الفوضى والارتباك؛ ما يعنى أنَّ فُرَص التحرُّر من الهيمنة الخارجية قد لا تكونُ فى مُتناوَلِه أصلاً، وإن سعى إلى التمرُّد على الرُّعاة الحاليِّين فقد يتسبَّبُ فى أزماتٍ أكبر، لتيَّاره وللبلد بكاملِه على حدٍّ سواء.
كان مُقرَّرًا أن تستقبِلَ دمشقُ وفدًا من اتِّحاد البَلَديَّات التركيَّة خلال الأيّام المُقبلة. مَنحَتْ العاصمةُ مُوافقتَها على الاستقبال وجَدْوَلَتْه فى أجندتِها؛ ثمَّ عادت لتنقُضَ الاتفاق فى غضون ساعاتٍ. والسرُّ أنه كان مُرتَّبًا أن يصل الوفدُ بعد زيارة الرئيس التركى، وعندما أُرجِئَت تبدَّلَ المَوقفُ، وقِيْل للمجموعة التى تضمُّ شركاتٍ ورجالَ أعمال إنهم غيرُ مُرحَّبٍ بهم فى الوقت الراهن.
والمُفارَقَة؛ أنَّ الإلغاء كان يُمكِنُ إقرارُه فى أنقرة بآليَّةٍ مُؤسَّسيةٍ تضبطُ سياسةَ الدولة من داخلِها، ولا معنى للاستعاضة عن ذلك بتمرير المسألة من قناةٍ سُوريَّة؛ إلَّا أنَّ قرارَ «الجولانى» لا يُتَّخَذُ فى قصر الشعب حصرًا، أو أنَّ سُلطةَ صاحب القرار المُشار إليه على الشام، أكبر مِمَّا هى عليه فى الأناضول. لعلَّها الديمقراطية أو توازُنات السياسة هناك؛ لكنّه الاستتباع والتوجيه والإدارة من وراء ستارٍ هُنا.
والمثالُ السابق؛ إنما يفتحُ البابَ لتساؤلاتٍ مشروعة عن حدود السُّلطة الانتقاليَّة، وعن هامش حركتِها، وما يُسمَحُ لها به من الرُّعاة أو يُمنَعُ عليها. يُمكن أن نُضيفَ لهذا استقبال «الجولانى» لإرهابىٍّ إخوانىٍّ مطلوب على ذِمَّة قضايا فى مصر، وكان برفقةِ مُستشارٍ رفيع المُستوى فى بلدٍ مُجاور، وكذلك زيارة نجل القرضاوى ومُهاجمة عدَّة دُوَلٍ عربيَّةٍ من داخل المسجد الأموى، قبل توقيفِه وتسليمه للإمارات فى مسار عودته عبر لبنان.
وإلى ذلك؛ يُسرِفُ البعض من عناصر هيئة تحرير الشام والميليشيات المُتحالفة معها فى اتِّخاذ مواقف سياسيَّةٍ تتناقَضُ مع خطاباتِ القيادة المُؤقَّتة، وبَثِّ رسائل دعائيَّةٍ وتحريضيّة باتجاه عددٍ من العواصم بعَينها.
وهُنا يكون السؤال من دون مُواَربة: هل يقبلُ «الجولانى» تلك المُمارسات؟ أم أنها مفروضةٌ عليه، ويمنعُه الذين فرضوها من التصدِّى لها أو السيطرة على رجاله؟ وهل كلُّهم رجالُه فعلاً، أم أنَّ بعضَهم يُدَارون بتوجيهاتٍ مُباشرةٍ من وراء الحدود؟
وعلى ما فات؛ فإنَّ حالَ الانفلات فى الشارع تتلبَّسُ قناعَ الارتياب نفسه، ولا يعود الاشتباك معها محصورًا فى نطاق السيولة العارضة، وطبيعة المراحل الانتقاليَّة التى تتعثَّرُ قبل أن تَعثُرَ على طريقها وتنتظمَ فيه.
فما دام بعضُ القرار من الخارج؛ فليس فى الإمكان الفَرز بين المواقف والمُشاهدات ورَدّها إلى أبٍ بعَينه، بحيث نقول إنَّ هذا من فِعل هيئة تحرير الشام، وذاك من توجيهات المُشغِّل الخارجىِّ الجالس فى عاصمةٍ قريبة أو بعيدة.
ومَكمَنُ الخطورة هنا ليس فى كَون الخروقات تلعبُ أدوارًا تأجيجيَّةً مَعزولةً عن المصالح الوطنية؛ إنما أنَّ قرارَ إيقافها ليس فى الداخل، وصغيرها مُرشَّح للتضخُّم بحسب المَنفعَة، والتفاوض عليها لا يصحُّ أن يُدَار مع الجولانى فى قصر الشعب؛ أى أنها مرحلةُ انتقالٍ إقليميَّة لا سوريَّة، ولَعبٌ فى الأوضاع الجيوسياسية للمنطقة من جِهَة الشام، وليست تهيئةً لحقبةٍ عَفيّة فى بلدٍ أتعبَتْه تدخُّلات اللاعبين الخارجيين، بأضعاف ما أكلَتْ الحربُ الأهليَّةُ من عُمرِه، وشربت من دماء أهلِه المَنكوبين بين النقيضين.
والسياقُ على هذا المعنى، يُشبِه ما كان من الجمهوريَّة الإسلاميَّة إلى حَدِّ التطابُق. لقد كانت الأزمةُ السوريَّةُ فى زمن الشيعيَّة المُسلَّحة ودعايات محور المُمانَعة، أنَّ القرارَ يُتَّخَذُ فى طهران لا دمشق.
الحضور على الأرض، من خلال الحرس الثورى وحزب الله وميليشيات «فاطميون وزينبيون»، كان مُجرَّدَ تفصيلٍ عابر، أمَّا الأساس فيعود لكَون القيادة الشرعية فى عاصمة الأُمَويِّين تحوَّلَتْ إلى صورةٍ شَبَحيَّة تنوبُ عن أصلٍ «فوق وطنى».
وبينما لم تخرج السلطةُ الجديدة من ردائِها العِصابىِّ تمامًا؛ فإنَّ انتزاعَ القرار منها، أو مشاركتَها فيه بأيَّة نسبةٍ، لا يجعلُها بديلاً عن «الأسد» فى زمان العافية، بل عن الحزب والحَرَس وميليشياتهما فى أزمنة الهشاشة والوظيفيَّة المُقنَّعة.
الدُّوَل بالبِنيَة والتعريف لا تخرجُ عن ثلاثٍ: إقليم مُسيَّج، وشعب يجمعُه عَقدٌ اجتماعىّ، وسلطة تنعقِدُ لها شرعيَّةُ التمثيل بقرارٍ مُستقلٍّ ومُحتكرٍ للعُنف. والحال؛ أنَّ أيًّا منها لا يتحقَّق كاملاً فى المجال السورى الراهن.
وإذا جاز استيعابُ أنَّ مسائل القَضْم من الجغرافيا تخرجُ عن ولاية الحُكم الطارئ حديثًا، بل من التزيُّد إلزامَه بها فورًا وقد تجاوزتها العائلةُ الأَسَديَّة لعقودٍ؛ فإنَّ تَشرُّخَ الديموغرافيا داءٌ لا يُمكن العُبور الآمنُ دون التَّشَافى منه، وتَقعُ مَسؤولية الشفاء على مَنْ تصدَّى بإرادته لمهمَّة الهَدم والبناء، كما أنَّ ازدواجيَّةَ السلاح، أو شيوعَه، تخصمُ ما تبقَّى من الصيغة الدَّولَتيَّة.
وفى كلِّ الأحوال؛ لا يُمكن أن تنوبَ الوعودُ الورديَّةُ عن الاضطلاع بالمسؤولية الواجبة على المحاور الثلاثة، بحسب الظروف والإمكانات، وبما يُوجِبُ إظهارَ كرامةٍ مُعجَّلة فى أحدها على الأقل، كإشارةٍ لاكتمال رفع الأنقاض وبدء ورشة الإصلاح، وبشارةٍ لِمَا يترقَّبُه الناسُ فى بقيَّة الأُصول الضامنة للكيانيَّة الجامعة.
فى الانتقال الطبيعى الحُرِّ، يُقبَلُ النظرُ لعمليَّات الإعدام الميدانيَّةِ على أنها تجاوزاتٌ من أثر السخونة العاطفية، ويصحُّ القفز على الخروقات اليومية فى بعض مناطق الأقلّيات، أو الاعتداءات الهمجيَّة على مدنيِّين عاديِّين، أو شخصياتٍ عامّة كالمُمثِّل المعروف عبد المنعم عمايرى.
وحتى أحاديث تديين المجال العام، وتحجيم الحرية الشخصية فى نطاق الصدور وبين جدران البيوت، ستكونُ من نوعيَّة الحماسة التى تبدأ مُتفجِّرةً، ثمَّ ينطفى لَهيبُها مع المُمارسة؛ لكنَّ النظامَ المُؤقَّت لا يُقدِّمُ إشاراتٍ على أنه يُعادى تلك المُمارسات، أو ينشغلُ جدّيًّا بالتصدِّى لها كما يتوجَّب عليه.
والقائدُ إذ يمتنعُ عن مُصافحةِ وزيرةٍ أَوروبية؛ فإنه يُنشِّطُ غريزة القواعد لإعمال عقائدهم فى الناس على وجهٍ أشرس، ووقتَها لا تكونُ المواقفُ العَلَنيَّةُ من المستويات العُليا تعبيرًا عن قناعاتٍ، بل عن توازُناتٍ ظرفيَّة مُحدَّدة بإطارٍ غامض، وباختيارهم أو إملاء مُشغِّليهم.
وفقَ هذا التصوُّر؛ يُغازلون الخليجَ مثلاً لطَمَعٍ فى عوائد ماديَّة، أو لحساباتٍ لدى أباطرة العُثمانيَّة الجديدة بشأن مُستقبل الترتيبات الإقليمية، ويُسَعِّرون الهجومَ على دُوَلٍ أُخرى؛ لأنه لا مصلحةَ مُباشرة معها، أو لأنَّ السيِّدَ المُمسِكَ بزمامهم ينصُّ فى عقدِ الوِكالة على اضطلاعهم بتلك الأدوار.
كان وزيرُ الخارجية المصرى، بدر عبد العاطى، أكثرَ المُتحدِّثين فى الرياض جرأةً ومُكاشَفة. لقد أكَّد البديهىَّ عن موقف مصر الداعم لسوريا، وجدَّد التشديد على ضرورة أن تكون العمليَّةُ السياسيَّةُ شاملةً للجميع، بمِلكيَّةٍ وطنيَّة صافية، ومن دون إقصاءٍ أو إملاءات؛ لكنه دَعَا على قدم المُساواة لمجابهة الإرهاب بجهود إقليمية ودولية؛ بما يضمنُ ألَّا تكون سوريا فى عهدها الجديد حاضنةً للإرهابيين، ولا أن تخرُج عن دورِها تجاه محيطِها، ونفسِها أوَّلاً؛ بأن تكونَ عاملَ استقرارٍ، لا باعثَ فوضى.
والمُواكبةُ الهادئة لا تحجرُ على إثارة الهواجس؛ بل تُوجِبُ عليها المُبادرةَ لطَرحِها وتقليبِها على كلِّ الوجوه، والحفر الغائر فى المخاوف والمُؤاخَذَات، وعَرض التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة على الطاولة. كما لا تمنعُ واجباتُ الرعاية والاحتضان من المُطالبة بالتزاماتٍ واضحة، والدعوة لتفعيل مبدأ «الخطوة مُقابل خطوة» مع الإدارة الانتقالية، مثلما كان مرفوعًا أمام نظام الأسد فى زمن الحرب الأهلية.
عَمليًّا، ومن دون تجميلٍ أو مُداراة؛ فإنَّ سوريا تحتضنُ الإرهابَ أو بقاياه الكامنة حاليًا بالفعل. لا من ناحية ماضى الجولانى ومُعاونيه فى الحُكم فحسب؛ إنما لجهة الفُسيفسائيَّة العريضة من الميليشيات الأُصوليَّة التى لا تنتظمُ فى خيطٍ واحد، وترتبط بجهاتٍ شتَّى، وتتنازَعُ على الصغير والكبير فيما يخصُّ سوريا الجديدة، والعلاقة بين الدين والدولة، وصراعيّة المدنيَّة مع التمكين والذِّميّة وأفكار الولاء والبراء.
والدعوةُ لتخلِيصِها من الشَّرَك؛ تبدأُ وُجوبًا من وَضع هيئة تحرير الشام ذاتِها على طريق التغيير، ومن تحديد علاقتها ببقيّة المُكوِّنات الرجعيّة ومحترفة العُنف، ودخولها فى عقيدة الدولة بعيدًا من أيّة مُراوغةٍ أو مناورات لفظيّة وعَمليّة.
لا يستقيمُ الوَضْع والميليشيا فوق الدولة، وحُرَّاس الأمن يتخفّون وراء أقنعةٍ كقطّاع الطُرق المُلثّمين، ويتكلمون فى الاعتقاد أكثر مِمَّا يجتهدون فى قراءة كتاب المُواطَنة، والتعلُّم مِمَّا تركه فيهم الأسد سَلبًا، وما حقَّقته البلدان من حولِهم بالإيجاب.
لا مجالَ لبقاء الانفلات فى الشارع، ولا لأخذ الحقوق بالقبضة العارية، أو إلباس الهيئة ملابسَ سوريا الرسمية، من دون أن تلتزِمَ بما تفرضُه عليها الشرعيّة، من أوَّل احترام الهُويّة الوطنيَّة بثراء مُكوّناتها، وإلى فَرز عناصرها واستبعاد الطالح منها، فورًا، ودون استثناءات.
لا يستقيمُ أنْ يُقدِّمَ نظامُ الأمر الواقع نفسَه للعالم، بينما يفتحُ أبوابَه لمَنْ يُشبهونه فى ماضيه، ولا صِلةَ لهم بحقيقة سوريا الراسخة فى المكان والمكانة والتاريخ، أو بما تتمنّاه لنفسِها حاضرًا ومُستقبلاً، كما لا يصحُّ أنْ يَطلُبَ احتضانَ المحيط العربى، بينما يُبادِرُ باحتضان مَنْ يستهدفونَه أو يُصوِّبون عليه.
وبالمِثل؛ فلا معنى لأن يُقدِّم نفسَه للسوريِّين نائبًا عنهم؛ بينما يُصادرُ منهم البلدَ والقرار خارج أيَّة جداول زمنيّة، ويُطبِّعُ أوضاعَ مُقاتليه الآتين من أرجاء الأرض، تاركًا المواطنين الأصليِّين فى عراءٍ فادح، وتحت قلقٍ لا حدود له بشأن اليوم والغد.
رباطُ الشام مع العالمِ الآن يتَّصلُ بالحقائق الثابتة، والسابقة على رحيل النظام وتخليق بديلٍ عنه. يَنظرُ الجميع إلى سوريا، لا إلى الجولانى وعُصبَتِه؛ بما معناه أنَّ الشرعية فى الجغرافيا والديوغرافيا، وليست فى السلاح وسُلطة اللحظة القاهرة. وكلّما قَطَعوا خطوةً نحو الوِفاق تتوطَّد الروابط بالتبعية، وكلّما استمرأوا لُعبةَ الأقنعة وتوزيع الأدوار؛ ستتقطَّعُ الوشائجُ مع الآخرين أو بعضهم لا محالة.
للسوريِّين أن يُسامِحوا فى حقوقِهم، وأن يتقبلّوا طرحًا انتقاليًّا من دون سَقفٍ فى المكان والزمان، ويَصطَبروا على دستورٍ سيُوافيهم بعد ثلاث سنوات، وانتخاباتٍ قد تأتى بعده أو لا تأتى؛ إنما ما على الإدارة المُؤقَّتة للعالم لا يقبلُ التسويفَ والإرجاء؛ لا سيّما أنه لا يَطلُبُ سوى الحَدّ الأدنى الطبيعى فى كلِّ الدُّول، ولا يُحمِّلُ سوريا ما يَفوقُ طاقتَها؛ بل يُمكِّنُها من عبور جسور النار وحقول الألغام، بقدرٍ أعلى من الثِّقة والأمان.
العدالةُ الانتقاليَّةُ مطلوبةٌ على وجه الاستعجال، والحَسْم القاسى مع عناصر الهيئة والميليشيات الرديفة فى كلِّ خرقٍ وعدوان، ومطلوبٌ أيضًا تعقيمُ البيئة من الإرهابيِّين وشُذّاذ الآفاق، وتجنيبها مُنزَلَقَ أن تكون منصّةً للتهجّم على الآخرين، أو قاعدةً لإعادة إحياء مشروعٍ عُثمانىٍّ أو إخوانىٍّ طَمَرَتْه الأيَّامُ، وداسَتْه الشعوب تحت أحذيتها.
تحتاج سوريا لأن تكون نفسَها؛ وألَّا تنحرفَ عن وُجهَتِها لصالح تيَّارٍ منها، أو لاعبٍ خارجىٍّ بعباءةٍ محليّة. فترةُ السماح تُوشِك أن تنفَدَ، ولن يسهُل الإنكارُ بعدَها، ولا التهرُّب من تجاوزاتٍ فرديّة ستتَّخذُ طابعًا نظاميًّا واضحًا.
بين الدولة والميليشيا فالقٌ عريضٌ لا يَسهُل رَدمه، ولا تلفيق المُصالحة فيه بالخُطب والدعايات. وفاعليّة النظام تتحدَّد بإحكام قبضته على عناصره، بأكثر من قُدرته على خصخصة السياسة وابتلاع المُؤسَّسات. إمَّا أن يُولَد الجولانى فعلاً فى صورة «الشرع» ولادةً كاملة، وبالمُمارسة والبراهين العمليّة، أو يكون كلُّ ما يَقولُه بابتسامتِه الناعمة مُجرَّدَ غطاءٍ لِمَا يرتكبه رجالُه على الأرض، وما يُديره رُعاته من وراء الحدود.. له الاختيار، ولن يطول الوقت قبل تفكيك الظاهر وانكشاف الخفىِّ؛ والخبرةُ الدائمة مع الأُصوليّة أنَّ «ما خَفِى أعظم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة