أُرجئ الحوارُ الوطنىُّ لأجلٍ غير معلوم، وتُدار يوميَّاتُ الدولة السورية دون خطَّةٍ مُعلَنَة. المعنويَّاتُ أفضلُ مِمَّا كانت عليه فى زمن الأسد من دون شَكٍّ؛ لكنَّ الأمنَ لم يستتب بعد، والأوضاع مُرشَّحة للسيولة.
وصلَ تنظيم داعش إلى العاصمة مُؤخَّرًا؛ وقد أعلنت الأجهزةُ الأمنيَّة إحباطَ مُخطَّطه لتفجير مقام السيدة زينب، ما يعنى أن سكرةَ الفرح بإسقاط النظام تُسلِّمُ الرايةَ اليومَ لفِكرةِ الاستحقاقات العاجلة والمُرجَأة، ومخاطر التنازُع بين المُكوِّنات الأُصوليَّة، بينما لا يبدو أنَّ الشعبَ يتكلَّمُ لغةً واحدة حتى الآن.
كانت هجمةُ إدلب على أطلال السلطة الأَسديَّة رَدَّ فعلٍ لتطوُّرات الإقليم، وما تزالُ الإدارةُ الجديدة فى مخاض التغيُّرات التى أنتجها «طوفان الأقصى» وارتداداته المتواصلة حتى الساعة.
أفلتَ لبنانُ جزئيًّا من الكمين الذى أُرِيْدَ له فى لعبة «عضّ الأصابع» بين إيران وإسرائيل، وبقدر ما أنقذته التحوُّلات الدراماتيكية الأخيرة فى الشام؛ فإنه قادرٌ على المُساهمة فى إنقاذها اليوم، لجهة التأمين على قطع الروابط بين حزب الله وامتداداته القديمة فى الساحل السورى؛ وقبل ذلك ما يُقدّمه من عِظَةٍ واعتبار.
التسويةُ التى أفضَتْ إليها تفاهُمات بيروت، تُمهِّدُ الأجواء لدخول الضاحية الجنوبية فى أحضان العاصمة، وانضوائها تحت راية وثيقة الوفاق الوطنى. ثمَّة اعترافٌ ضمنىٌّ بالهزيمة؛ ولو أنكرها الحزبُ وقيادته وكُتلته النيابية. ومن داخله إيمانٌ بالحاجة إلى دِفء الدولة ومظلَّتها الجامعة، دون استئثارِ طرفٍ أو استبعاد آخر، وهو ما يغيبُ بدرجة فادحة عن السياق السورى.
خطابُ العماد عون فى مراسم أداء اليمين كان قويًّا وواضحًا، والأصوات التى أوصلته للرئاسة مَزيجٌ من كلِّ الألوان. وفى المُقابل؛ يكتفى «الجولانى» بالوعود الرومانسية والنبرة الهادئة، ويغتنى بفصيله عمَّا سواه من مُفردات البيئة الوطنية العريضة.
تَصعُب المُقارنةُ بين الحالين؛ ولو بُنِيَت إحداهما على الأُخرى، أو أنشأتهما مُسبِّباتٌ واحدة. المُعضلةُ اللبنانية تُختَصَرُ فى الحركة داخل دائرةٍ محلّ اتفاق، مع قائمة أزماتٍ موروثة، تنبع من داخلها وتستقوى على توازناتها؛ لكنَّ سوريا تحلّلت فى مدى الحرب الأهلية الطويل، وتحتاج للبدء من نقطة الصفر، مع فصيلٍ يحمل تعاريف مُغايرة تمامًا للثوابت الوطنية المعهودة.
والمعنى؛ أنها فى مرحلةٍ تُشبه تسعينيات بيروت، وتبحث عن صيغتها للوفاق الوطنى، وحدود التوازنات المقبولة بين جمهرةٍ من المكونات المنقسمة على نفسها، بما لا يَقمَعُ التفاعلات الاجتماعية، ولا يُطلقها تمامًا لتصير تهديدًا للكيانية الواحدة. باختصار؛ كانت سوريا سببًا فى أزمات لبنان قديمًا، وعليها أن تقرأ تجربتَه وتستلهم دروسَها الآن؛ لو أرادت ألا تستعير منه أمراضَه العضال.
حالُ الشبه بين البلدين عميقةٌ للغاية. كلاهما مُعبَّأ بالماضى وهواجسه العتيقة، وفيه من التنوُّع ما يُثرى نسيجَه ويُهدِّد بتفسُّخه فى آنٍ واحد. كانت وصايةُ الأسد عنوانًا حاكمًا لتفاهمات ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، ومثلها اليومَ وصاية الأتراك على السلطة الجديدة فى دمشق.
النكهةُ الدينية تسلّطت على المشروع السياسى، فأنتجت المُحاصَصَة المَقيتة فى نظر البعض، وصمامَ الأمان والتعايُش من مَنظور الآخرين، وبرغم التشدُّد فى نَفى التطييف وقسمة المجتمع السورى عَموديًّا وعَرضيًّا؛ فإنَّ لون السلطة الجديدة يُرشِّحُ الدخول فى أزماتٍ شبيهة بما كان لدى الجار الصغير. المَدنيَّةُ لها تعريفٌ واحد لا يقبلُ القسمةَ على عِرقٍ ودين، وكما تتصادَمُ عميقًا مع مُخرجات الطائف؛ فإنَّ صدامَها مع الورقة المُقترَحَة من هيئة تحرير الشام أعمقُ وأكبر.
قد يكون «الجولانى» صادقًا فى الصورة المُحدَّثَة لجماعته، وما يُسوِّقُه عن نفسِه فى الخُطَب واللقاءات السياسية؛ لكنَّ ظهيرَه العميق من الفصائل الرديفة والمُتحالفة يَرتكِزُ إلى قناعاتٍ لم تتحلَّل من نَفَسِها الأُصولىِّ تمامًا.
والحال؛ أنَّ وصولَ داعش للعاصمة أو الساحل يُعبِّرُ عن أثر انحلال السلطة المركزيَّة؛ لكنه قد يُشير إلى تداخُلاتٍ عميقة وغير منظورة بين الميليشيات الدينية، أو ذوبانٍ عارم للحدود الفاصلة بين النظام والفوضى/ الدولة والميليشيا، وذلك فيما يخص الشكل والمضمون على حدٍّ سواء.
صار أعضاءُ القاعدة وداعش السابقون قادةً شَرعيِّين، ورباطُ الاعتقاد أوثق من سياج المواطنة الطارئ عليهم، كما أنَّ الخلطَ بين المرافق العامة والنظام القديم يُضلِّلُ العابرين حديثا، بشأن الفاصل بين ميراث الأسد والأُصول الدَّولَتيَّة الباقية.
وهكذا؛ يَسهُلُ أن يَعبُر المقاتلُ غير النظامىِّ للمجال العام تحت ستار شَبِيهِه الذى انخرط فى المُؤسَّسة، بالتوافق أو التشابُه، وأن تتساوَى مقرَّات البعث مع المراقد والمزارات والكنائس، وغيرها من صُوَر التحقُّق الاجتماعى السابق على دخول الجهاديين فى شرايين البلد.
الأسابيعُ الماضية شهدت حالات انفلاتٍ أمنىٍّ واضحة، امتدَّت من الاشتباكات المُسلَّحة والتعدِّى على منشآتٍ عامة وخاصة، إلى تنفيذ إعداماتٍ ميدانيَّة خارج القانون. وما بين تهوين المُوالين للإدارة الجديدة، وتهويل المُختلفين معها والمُنزعجين منها؛ فقد تضيعُ الحقائق وتتشوَّه معانيها، ويُسَار لجدلٍ يَحرِفُ الأنظارَ عن الأسئلة الجادة.
المظالمُ ثابتةٌ وحقيقية، وللناس حقوقٌ واجبةُ الاستيفاء، كما أنَّ عليهم التزاماتٍ يجبُ ألَّا تُخرَقَ بالحماسة أو العاطفة. وهنا يتحدَّدُ مجالُ الضبط بالقانون، وعلى قاعدةٍ واضحة لإدارة فترة الانتقال، والفَصل الناعم بين القديم والجديد، بما يَمنعُ امتزاجَهما تمامًا، ويسمحُ فى الوقت ذاته بالمُجادلة والتقارب وفقَ ميزانٍ دقيق.
حتى اللحظة؛ لم يُعلَنْ عن أىِّ برنامجٍ واضح للعدالة الانتقالية، فلا يعرفُ أصحابُ الحقوق طريقًا لاستيفاء ما لهم على النظام القديم، ولا يَعرفُ رجالُ الحقبة السالفة على أىِّ معيارٍ سيُنظَرُ فى أعمالهم وتتحدَّدُ المواقفُ منهم. لا إطار دستورىّ يُحتَكَمُ إليه، ولا آليَّة إجرائية وقانونيّة تحمى المُنازعات العالقة من الضياع أو الثأر.
اكتفَتْ السلطةُ الجديدة بعد أكثر من شهرٍ بالقبض على مفاصل الحُكم، ولم تضَعْ جدولاً زمنيًّا للذهاب إلى إعادة إحياء الدولة نفسِها، من حيث كَونِها نظامًا مُؤسَّسيًّا وقواعدَ حاكمة. إنها مرحلةٌ فردانية بالكامل، وكلّ ملامحها فى ذهن الجولانى وحده، دون شريكٍ له أو رقيب عليه.
كان يُفتَرَضُ أنْ يتولَّى الحوارُ الوطنىُّ تخطيطَ الملعب وإرساء قوانين اللعبة؛ لكنَّ القصر اصطدم على ما يبدو بالخلاف مع بقيَّة التيارات على تصوُّره عن الطاولة والدعوات، ومَن يُريدُ استدعاءهم واستبعادهم، أو أنّه أراد بقصدٍ مُسبَقٍ أن يُخطِّطها بما يسمحُ بالتعطيل، ويُطلِقُ يَدَيه فى الانفراد بالمشهد لأجلٍ غير مُسمّى.
والخُلاصة؛ أنهم بعدما بشَّروا باللقاء فى غضون ثلاثة أسابيع من رحيل الأسد، عادوا لإرجائه حتى منتصف يناير، ثمَّ تحدَّث بعضُ أركان الإدارة المُؤقَّتة عن هامشٍ أطول. ومفاد الارتباك الراهن أنَّ السوريين قد لا يجتمعون معًا فى أمدٍ قريب، وعليهم السير فى حقل الألغام من دون خرائط، أو عنوانٍ للوصول.
تُرتِّبُ هيئةُ تحرير الشام قائمةَ أولويَّاتها على قاعدةٍ لا يراها الآخرون، ناهيك عن التوافق بشأنها والإجماع عليها. وما يتَّضح من مجموع الإشارات، أنَّ «الجولانى» يضعُ الاقتصاد قبل السياسة، ويتطلَّعُ للاعتراف العالمى بأكثر مِمَّا ينشغلُ بتأمين اعتراف الداخل ومَنحه شيئًا من الشرعيّة التمثيلية.
قد يتَّفقُ البعضُ على أولويَّة تثبيت الأوضاع، والبحث فى إغاثة مُجتمعٍ يعيشُ أكثرُ من أربعة أخماسِه تحت خط الفقر؛ لكنَّ ضبطَ الحالة الاجتماعية عمليَّةٌ طويلة وشاقة، وتتطلَّبُ سنواتٍ، إن لم تكن عقودًا، ولا وجاهةَ من أىِّ وجهٍ لإرجاء مهمَّة الإصلاح لحين استيفاء شروطها الكاملة.
وهذا، مع العلم بأنَّ سوريا لن تصلَ للحالة المثالية فى الحقوق قريبًا، ولا قبل أن تُحدِّدَ مَوقِفَها من الواجبات، كما لن تكتملَ صيرورةُ إعمارها من دون نظامٍ دائم باختيار الشعب ورضاه، ما يَرُدّنا جَبرًا إلى السؤال البدائىِّ الأزلىِّ عن «البيضة أوّلاً أم الفرخة».
لا سبيلَ من وجهة نظر «الجولانى» إلى عمليَّةٍ سياسية مُكتملة وشاملة من دون فضاءٍ اجتماعىٍّ هادئ وغير محكومٍ بالأزمات، وفى المُقابل لا مجالَ لتخليص البلد من أزماته إلَّا عبر بِنيَة مُؤسَّسيّةٍ ذات قبولٍ عام، وتَنبعُ من القاعدة العريضة على مُقتضيات إنتاج وشَرعَنة سُلطات الحُكم.
والقَصدُ؛ أنَّ الوفاء بالحاجات الضرورية لن يتحقَّق تمامًا دون قَطع خطواتٍ على طريق الوفاء بالتزامات الإدارة الانتقالية، وهى من جانبها تَطلُبُ إعانتَها قبل أن تُطلَبَ منها إعانةُ السوريِّين على أنفسِهم ونظامهم الجديد، ومجال التوفيق الوحيد بين المسألتين أن تسيرَ العمليَّةُ بالتوازى؛ إذ كلَّما تعطَّلت إحداهما، ستتعطَّلُ الثانية بالضرورة.
علَّقَتْ الولاياتُ المُتَّحدة مُكافأتها الموضوعة على رأس الجولانى؛ لكنها ما زالت تُصنِّفُ هيئةَ تحرير الشام فصيلاً إرهابيًّا. ومَوقفُ الأُوروبيِّين وأغلب دول العالم لا يختلفُ كثيرًا، وحتى لو رُفِعَت السلطةُ الجديدة من قائمة الإرهاب؛ فإنها ستظلُّ فى مجال الرقابة والتقييم المُتحرِّك للأمام والخلف بحسب التطوُّرات.
ستتحصَّلُ على مُكتسباتٍ بالطبع، ويُنتَظَرُ منها أن تُترجمَها إلى إجراءاتٍ عَمليَّة، وعلى إيقاع حركتها ستتقدَّم المُواكبة الخارجية بإرخاء القيود أو تشديدها.
وسيظلّ التطبيع الكامل مَرهونًا بالوصول إلى الوصفة المطلوبة، ولا أُفقَ للخروج من الدوَّامة طالما يَكتفِى الحُكَّامُ الجُدد بالأقوال عن الأفعال، وتَغلُب لِحيةُ «الجولانى» المُشذّبة وتحالفاتُه المشبوهة على ما يتفوَّه به، أو يقع على عاتقه من مسؤولياتٍ وطنيَّة ليست محلَّ اختلافٍ على الإطلاق.
أُزِيحَ نظامٌ ثقيلُ الوطأة؛ لكنَّ الفوضى أو السيولة لا يصلحان بديلاً مُقنعًا عنه. وإذا اقتضَتْ الضرورةُ أن يتأخَّر الحوارُ المُوسَّع فى كلِّ البنود والتفاصيل، وبعيدًا من الإملاءات المسبقَة؛ فليس الحَلّ أنْ يُستعَاض عنه بخصخصة الشأن العام، واحتكاره لصالح واحدٍ من أطيافه شديدة التنوُّع والفوران.
قد يكون الدستور بعيدًا نِسبيًّا؛ إنما الذهاب إلى إعلانٍ دستورىٍّ محدود المواد قريبٌ ومَيسور، ويُمكن أن يُتيحَ سياقًا ناظمًا للعلاقات فى المدى الانتقالى، ويُوازِنَ بين الحاجة لسُلطةٍ مُؤقَّتة، وضرورة تقييدها بما لا يجور على الثوابت المعروفة فى أيَّة دولةٍ مَدنيَّة حديثة.
وإذا كان الوصول إلى الانتخابات يتطلَّبُ أربع سنوات، كما قال الجولانى؛ فإنَّ توسيعَ الشراكة فى الحكومة لا يحتاجُ لأكثر من إيمانٍ صادقٍ بأنَّ البلد مِلكٌ للجميع، وأنه ليس فى مقدور طائفةٍ بعَينِها أن تضطلع بمهمَّة البناء بمَعزلٍ عن الآخرين، أو مع تغييبهم بقراراتٍ فوقيَّة، خَلقَتْها ظروفُ الحرب وجاهزيَّةُ السلاح لا أكثر.
عاش لبنانُ فوق السنتين من دون رئيس؛ لكنه كان يمتلكُ الوصفةَ اللازمة لإنتاجه، ولم يفقد الغلافَ الإجماعىَّ الضامن لسلطة الانتقال/ حكومة تصريف الأعمال؛ مع كلِّ الملاحظات على تركيبتها وأدائها. وإذا كانت الهزيمةُ قد روَّضَتْ نزوات حزب الله؛ فإنَّ القاعدةَ الدستورية الواضحة وحدَها أدخلته فى صُلب الدولة مُجدَّدًا، بعيدًا من كونه دخولاً حقيقيًّا أم احتيالاً وتقيّةً مُؤقَّتةً. وما صحّ معه؛ يصحُّ على بقايا النظام الأسدىِّ؛ إذ من دون بديلٍ سِلمىٍّ، تبدو السلطةُ الجديدة كأنها تفرضُ عليهم الحرب.
والمُراد؛ أنَّ الظروفَ الاستثنائيَّةَ لا تجُبُّ الحاجات الطبيعية، وأنَّ الأفراد على صفاء خطابهم، والنوايا مهما بدت بيضاء ومُطمئنة، كلها لا تغنى عن القواعد الواضحة، والمجتمعات أحوج للوصفات الرشيدة فى مراحل اعتلالها؛ بأكثر مِمَّا تحتاجُها فى أزمنة العافية.
العِلّةُ لدى نظام الأسد كانت فى الشموليَّة والاستبداد، ولا شىء آخر. البَطشُ عَرَضٌ للمرض نفسِه، والنجاة لها طريقٌ واحدةٌ تبدأ بالقطيعة مع النظام السابق فى كلِّ التفاصيل. واليومَ؛ لا يخلو المجالُ من خروقاتٍ أمنيَّة؛ لكنها لا قد تُثيرُ القلق؛ شريطة أن تُثبت سوريا الرسميّة حاليًا أنها جادّة فى التحرُّك للخروج من مستنقع البعث.
والحال؛ أنَّ وصولَ داعش للعاصمة يُضىءُ الأنوارَ الحمراء بشأن المسار، مثلما يُضيئها الالتفات للتفاصيل الهامشيَّة، وإعلاؤها فوق الأولويات الموضوعية الناضجة. كان تعديلُ الدستور أَوْلى من اللعب فى المناهج الدراسيَّة، وإدماجُ الصالحين من الهياكل الإدارية القديمة، أنفعَ من دَمْجِ المُقاتلين الأجانب فى الجيش وبقيَّة مرافق الدولة.
لا نتحدَّثُ عن مطالب مُرهِقة، ولا حلولٍ سحرية؛ إنما عن التناسُب فى القرارات والإجراءات التنفيذية، بما يُحقِّق المصلحةَ أوَّلاً، ويُكثّف الرسائل الإيجابية المطلوبة على وجه الاستعجال.
إمَّا أنَّ «الجولانى/ الشرع» لا يفهمُ طبيعةَ السلطة الانتقالية، أو أنه يتَّخذُ من فُسحةِ الانتقال قناةً للتغلغُل فى أعماق الدولة، وصَبغِها بلَونِه الواحد، وتأبيد هيمنة الميليشيات الأُصوليَّة على سوريا؛ ولو أفرزت الصراعات السِّلميَّةُ لاحقًا شكلاً مُغايرًا لِمَا يقترحُه اليوم.
لقد حذّر الغربُ من إدماج الإرهابيين فى النظام الجديد، ويتحسَّسُ السوريِّون من توزيع المغانم على الأجانب؛ بينما يسيرُ القائد دون منطقٍ أو رَويّة، وبعيدًا من أيّة مُبرِّراتٍ مُقنعة أو تفاسير عقلانية؛ ليجعلَ من المُؤسَّسة العسكرية مدخلاً إلى مَأسَسة الميليشيا، أو بالأحرى «مَلشَنَة الدولة»؛ رغم ما فى ذلك من صِدامٍ مع قضايا الوضع النهائىِّ؛ إن جاز التعبير، فيما يخصُّ هُويّةَ البلد، وتركيبةَ نظامه وسُلطاته، وتعريف المواطنة، وقوانين التجنيس، وكُلّها يُفترَضُ أن تُحسَمَ فى الحوار وداخل اللجنة الدستورية؛ لكنَّ الحَسْمَ استُبِقَ عَمليًّا بتثبيت الحالة المُؤقَّتة، وإكساب بعض الأطراف مراكزَ قانونيَّةً على حساب المجموع المتروك فى العراء.
للسُّلطة الظرفيّة أن تُدِيرَ الدولةَ؛ إنما فى الحدود الدُّنيا. عليها تنظيم الأمن، وضبط الأسواق، وتأمين احتياجات الناس، وتهدئة البيئة المُتأجِّجة، وتأهيلها للتلاقى على ورشة الإصلاح والبناء المطلوبة حاضرًا وللمستقبل. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ كلَّ ما يخصُّ شكلَ الدولة السورية، وهُويّتَها، وسرديّتَها التاريخية، وما تُريدُ تنشئةَ أبنائها عليه، لا يقعُ فى نطاق الاختصاصات الموكلة للإدارة الانتقالية.
وإزاء احتمال الخطأ فى الفَهم لحداثة التجربة؛ لا يمكِنُ أن ينصَرِفَ الذهنُ عن مخاطر الرؤية المُسبَقَة، والعمل وفقَ أجندةٍ مُعدّة سَلفًا، وفى ضوء عَونٍ خارجىٍّ، أو إملاءات من الحُلفاء القابضين على المشهد الراهن. ومِن نافلة القول؛ أنَّ واجب تبديد الغيوم والمخاوف من صميم مسؤوليات الجولانى، وعليه أن يُقدِّمَ شواهدَ عمليَّةً لا تقبلُ التأويل؛ وليس أن يُطلَب من الجمهور الصمت والقبول والرهان على حُسن النوايا فحسب.
المَنطقُ؛ أنَّ السياسةَ صورةٌ ناعمة عن الحرب، ويَصدُق ذلك على الداخل كما على الخارج. إنها مُحاولةٌ دائمة للتوفيق بين المُتناقضات، وترشيد الأطماع والخيارات الإلغائيَّة؛ لصالح التعايُش وضبط الحدود بين القُوى المُتصارعة. وعليه؛ فإنَّ هيئة تحرير الشام كأىِّ مُكوّنٍ آخر، تُضمِر خلافَ ما تُظهِر، أكان فى قليلٍ أو كثير، ولديها تطلُّعاتٌ تُلبِّى طموحاتها وتصوّرها عن ذاتِها، كما للآخرين أيضًا. ومن دون حدودٍ مرسومة بعناية، ومبكّرًا قدرَ الإمكان؛ فإنَّ المؤقَّتَ قد يكون وسيلةً سهلة لتوجيه الدائم، أو على الأقل إرباك المُنافسة المُنتَظَرة مُستقبلاً، لجِهَة أنَّ المزايا المُتحقِّقة للجولانى حاليًا تُكسِبُه وضعيّةً ماديّةً ومعنوية تتفوَّقُ على مُنافسيه، بحيث لا يبدأ معهم سباقًا طبيعيًّا؛ بل ينطلق من قُرب محطّة الوصول.
المؤكَّد أنه يُريدُ دولةً؛ لكن ما لا شَكّ فيه أنه يرفضُ أن تكون علمانيَّةً، أو مَدنيَّةً كما يقول الكتاب. يسعى لانسجام المُكوِّنات الوطنية معًا؛ لكنَّ الفارقَ عريضٌ بين المُواطَنة والذِّميّة، وكلاهما له معنى التعايش بحسب مرجعيّة كلِّ طرفٍ وأفكاره، ولا يُحبُّ قطعًا أن يُعيِدَ إنتاجَ الحقبة الأسديَّة؛ إنما الخيارات البديلة تتَّسعُ لصُوَرٍ شتّى مُزعجةٍ، من طالبان الأفغانية إلى التجارب الإخوانية فى السودان ومصر وتونس.
والجولانى إذ يستمتعُ بكلِّ مزايا السلطة؛ فإنه لا يلتزمُ أيًّا من أعبائها على الإطلاق، وأقلّها التعهُّد بباقةٍ من الثوابت الدستورية أو فوق الدستورية التى تُلبِّى تطلُّعات السوريِّين، وتُمثِّلُ قطيعةً واضحةً مع نظام الأسد، ولا ترتدُّ فى الزمن إلى حالةٍ رديئة ومُشوَّهةٍ من الرجعيَّة وصِيَغ الحُكم الدينية.
حاكمٌ فَردٌ فى قصر الشعب كما كان بشّار، وإعداماتٌ فى الشارع مثلما حدث فى صيدنايا وغيره من السجون، ووعودٌ لا يُقيّدها الزمن بالعَقد الاجتماعىِّ والدستور والانتخابات.. ولو غيّبنا فارقَ النِّسبة والتناسُب؛ فإنَّ سوريا لم تتجاوز ماضيها حتى الآن، وتقفُ على مُفترَقِ طُرقٍ يُهدِّدها بإعادة إنتاجه، بالتساوى وربما أكثر من المُناصفة مع آمال التشافى والبراءة التامّة.
ولِنَتَذكّر فقط أنَّ الأسد، والدًا وولدا، ابتدأ عهدَه بوعودٍ أيضًا، وما كان سفاحًا منذ اللحظة الأُولى، ولا رأى الناس فى بدايته ما آلت إليه الأحوال فى الختام.
إن كانت فى الانتقال فضيلةٌ واحدة لا يصحُّ التغافُل عنها؛ فإنها الشَّكّ والارتياب وافتراض الأسوأ دائمًا. تخرجً المجتمعات من السوء إلى السيولة، وتُحاولُ التجديف باتجاه الشاطئ؛ بينما تغوصُ بكاملِها فى مُستنقَعات الماضى.
وغياب الدولة والنظام؛ إنما يفرضُ أن تُرفَع المطالبُ كُلّها، وأن تكون الخطابات متوجّسَةً وساخنةً، وتكون البيّنة على مَن يدّعى أنه آتٍ من المستقبل، أو ذاهبٌ إليه بإخلاص، وليست على المُرتعدين لحاضرهم ومُقبِلِهم من طُول ما عانوه فى ماضيهم الأسود.
أخذ «الجولانى» كلَّ شىءٍ، وما منحَ السوريِّين إلَّا رسالةً مربوطةً بوردة لم تُزَلْ أشواكُها. سيرتُه تُوجِبُ القلق، وعقيدتُه تُجيزُ التقيّة والمعاريض، واستتباعُه لصالح أجندةٍ خارجية «فوق وطنيّة» يُبشِّر بأنَّ عليه ديونًا واجبة السداد.
وفى المقابل؛ تحمَّلَ الناسُ أربعَ عشرة سنة من الموت والجوع دون أُفقٍ واضح، وتُطلَبُ منهم اليومَ أربعُ سنواتٍ إضافيَّة تحت رحمة السيولة وإرادة الفرد، ومن دون برنامجٍ أو خارطة طريق؛ فكأنهم يخرجون من إذعانٍ لإذعان.
حقيقةُ أنهم ربحوا من الخارج تُوجِبُ عليهم قراءةَ أحوال المنطقة وتقلبّاتها، إنهم فى هامش «طوفان الأقصى»، وخيوط اللعبة مشبوكةٌ فى أصابع قُوىً لا رابطَ بينها، وإذا لم تكتب سوريا وصفتَها الكاملة؛ فقد تظلُّ عُرضةً للاستقطاب والتلاعُب وتداعيات الأعاصير المُتردِّدة وراء الحدود.
أفلت لبنانُ بالدستور، وتغرقُ غزَّة بالانقسام. إحلالُ العثمانية الجديدة بدلاً من الشيعية المُسلّحة لن يُبدّل التوازنات كثيرًا، كما لن يُروَّض الصهيونية الجائعة.
كان الأسدُ مُستبدًّا بحنجرةٍ قوميَّة زاعقة، وبديلُه مُستبدٌّ بابتسامةٍ أُصوليَّة لزجة، وكلاهما يُحرِّفُ الخريطةَ السورية عن مواضعها، وينتدبُها لأدوارٍ لا تُناسبها، ولا تليقُ بها.
لا يُمكنُ أن يكون الحوارُ مع العالم مُقدَّمًا على مُحاورة السوريين، وإقرار الخطط المرحليَّة فى الأناضول لا دمشق، ثمَّ نتحدّثُ عن مشروعٍ وطنىٍّ أو رؤية صافية من الهوى والإملاء.
البناء فورًا، وتأطيرُ صلاحيات السلطة المُؤقَّتة دون إبطاء، وفَتح أبواب الحوار والشراكة على آخرها، وإلَّا فلا ضمانةَ من تكرار التجارب الفاشلة: وعودٌ تتبخَّر، ونوايا تتوحّش مع الوقت، وحرائقُ تتناسلُ من رمادِ حرائق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة