"د. سترينجلوف: كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة"، يخاتلني عنوان الفيلم المثير الذي قدمه ستانلي كوبريك في العام 1962، بينما القلب موجوع بقصف القنابل ودوي الرصاص وأخبار الحرب التي تحاصرنا من غزة إلى الخرطوم إلى ما يحدث في لبنان الآن.. لم أتوقف عن القلق ولم أحب القنبلة حسب عنوان "كوبريك"، بل تذكرت جملة أخرى في فيلم آخر هو الوثائقي "قلقٌ في بيروت" (2023، 93 دقيقة) إخراج زكريا جابر:"في هذا البلد، هناك خياران: إما الطائرة وإما التابوت". جملة تحمل دلالات عدة نحو بلد مفتوح على الحرب والقتال والمحن.
مُذهل هذا الكَم الهائل من الأحداث والفواجع والخراب التي شهدها لبنان، عبرت عنها السينما بأحوال مختلفة، أظهرت الموت الكثيف ومحاولات الخروج من ساحاته والتحرر من القلق و"الكوبسة" و"العفرتة"، كما أفعل أنا الآن، حيث أثابر وأجتهد في مقاومة القلق، لكن الأمر يستحيل إلى صور ضبابية ترصد الحرب والقذائف والموت اليومي.. ما يحدث في لبنان ليس ابن اللحظة، إنه يفوق حجم البلد ومداه الجغرافي الصغير ويتجاوز الوحوش والقتلة الذين يتغذون على جرائم الحرب الممتدة من غزة والضفة إلى بيروت، العدوان والإبادة والفعل الإجرامي المباشر يفضح البغي والتعسف الاسرائيلي منذ طوفان الأقصى" (7 أكتوبر 2023)، ويتفنن في استعراض تجاسره وطغيانه بأساليب مختلفة.. جريمة أو مجزرة أو إبادة، الحاصل في لبنان وفلسطين فظيع، يوقظ الوجع الذي لم ينته وإن توارى بعض الشيء أحيانًا، فالعدو لا يتوقف ويفرض القتال كما لو أن "الحرب ربة الأشياء" حسب تعبير هيراقليطس في كتاب "جدل الحب والحرب".
كيف إذًا لقنبلة القلق أن تخمد وتنطفيء؟ العدوان مستمر، غير منقطع، وشبح الحرب يطارد الجميع، إنها قنبلة وحشية غير تلك التي كان يقصدها ستانلي كوبريك في عنوان فيلمه المثير، قنبلة السخرية والهزلية التي يفجرها فيلمه ويهندس لتمرد جديد على الحرب، مستعيدًا نوعية أفلام الكوميديا السوداء واستهزائها بالحروب وصانعيها، عُرفت هذه الأفلام في مستهل الثلاثينيات ومنها فيلم "حساء البط" (1933) أي قبل إندلاع الحرب العالمية الثانية بست سنوات، ربما متأثرًا بالحرب الأولى أو بفكرة نشوب الحرب من أساسها، إنه فيلم حربي ساخر من إخراج: ليو ماكايري، يرمي سخريته على الطغاة الذين يسعون لاحتلال دول أخرى ويتظاهرون بالصورة الحسنة والنية الطيبة، قمة العبثية يقدمها الفيلم بطريقة هزلية من خلال العلاقة بين دولتي فريدونيا وسلفينيا اللتان تبدوان في حالة سلام، لكن الرئيس روفوس ت. فايرفلاي (جروتشو ماركس) يصر على قيام الحرب بعدما أهان السفير تيرنيتو (لويس كالهيرن) كرامته، كان الرئيس يريد إثارة غضب السفير تيرنيتو لتكون حجة قوية للقيام الحرب.
كثف ستانلى كوبريك الكوميديا السوداء في اللقطة الأخيرة من فيلمه، لندرك حجم الألم في الواقع شديد العبثية وتلخص العسكرية الأمريكية، حيث تلقى الطائرة بالقنبلة الذرية على الاتحاد السوفيتي، لكنها تنحشر فى جهاز القذف، فيتعطل نظام إطلاق الصاروخ اﻵلي، هنا يتطوع راعي البقر الأمريكى (المايجور كينج كونج) لركوبها كما فى سباقات الروديو وهو يلوح بقبعته ويصرخ مزهوًا فيما يهبط بها.. ولأن "الجواب يبان من العنوان"، كما يقول المثل الشعبي، فمن العنوان الغريب "الدكتور سترينجلوف.. كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة"، تظهر رسالة الفيلم التهكمية إزاء واقع الحروب الذي يصنعه المهووسين، فلو قمنا بتقسيم "سترينجلوف" إلى كلمتين تكون ترجمتها الحرفية "الحب الغريب"، وهو ما يليق براديكالي متطرف وممسوس بفكرة صنع سلاح مدمر للبشرية، بقنبلته أو لعبته التي يشغف قلبه برؤيتها تسقط في مهب الريح وتزيد من جنونه، هذا التلاعب بمعاني الأسماء إنسحب من العنوان إلى شخصيات الفيلم، حيث نجد الجنرال "جاك ريبر" المعتوه الذي أمر بإرسال طائرة تحمل قنبلة نووية لكي تسقطها على الاتحاد السوفياتي، بينما يردد بعجرفة الجاهلين: "لن أسمح للخطط الشيوعية ولا المؤامرات الشيوعية أن تعكّر نقاوة سوائل أجسادنا الغالية"، إذ يستدعي على الفور اسم جاك السفاح، القاتل المتسلسل الشهير في لندن، واسم الرائد "كينج كونج" الذي يستلزم حضور صورة القرد الضخم، تمتد هذه المخاتلة من الأسماء إلى الشخصيات التي يظهرها الفيلم وكلها حمقاء: رئيس الجمهورية والجنرالات والسفير الروسي، حيث وضع فيها كوبريك طاقة كوميدية هائلة تبرز موضوعه الذي اقتبسه في سيناريو اقتسمه مع تيري ساذرن، عن قصة "إنذار أحمر" لبيتر جورج، وكي يتوغل أكثر في العبثية، يظهر الجنرال "باك تورجدسون" يتشابك باﻷيدي مع السفير الروسي في مشهد على قدر ما يؤكد هزلية الأحداث، فإنه يعبر عن مرارة واقع مناف للعقل والمنطق في عالم يحكمه مغفلون.
الهزلية في الفيلم تتحالف مع جنون الواقع، أو بالأحرى تلاحق هذا الواقع وتوشمه بالرعونة والغباوة، فالمسألة أكبر من جاك ريبر الذي أخذ قراره بإلقاء قنبلة نووية على السوفييت، وأوسع من رسالة تحذيرية يوجهها الفيلم من عواقب أفعال البُلهاء الذين يجرون العالم إلى حافة النهاية، فحتى لو كان ما يطرحه الفيلم مجرد إحتمال، لكنه إحتمال مخيف وليس هناك ما يواجهه إلا السخرية من طرفي العالم، لكن هل السخرية تضع حدًا للقلق؟.. إنه السؤال السَرْمَدِي، المُتواصِل، مُتَّصِل، المُنْتَظِم في هذا العالم المختل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة