ربما اقتصر مفهوم الإصلاح على السياسات الداخلية التي تتبناها الدول، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، وهو الأمر الذي ارتبط في الكثير من المراحل التي شهدها العالم، بما يسمى بسياسات "الانكفاء على الذات"، حيث تتخلى الدولة جزئيا عن قضية النفوذ الدولي، مقابل الإصلاح الداخلي، وهو ما ينطبق بصورة كبيرة على النموذج الروسي في بداية الألفية، عندما تولى الرئيس فلاديمير بوتين زمام الأمور في بلاده، حيث ارتكزت سياساته على إعادة البلاد إلى المسار الصحيح اقتصاديا في أعقاب عقد التسعينات وما تخلله من تحلل الاتحاد السوفييتي، والتخبط الاقتصادي الناجم عن التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية عبر سياسة إعادة هيكلة الاقتصاد، بينما قامت السياسة الخارجية مع انطلاق عهد بوتين على مهادنة الخصوم من دول المعسكر الغربي وعلى رأسهم الولايات المتحدة، بل واسترضائهم في أحيان كثيرة، إلى حد السماح للقوات الأمريكية بدخول أفغانستان في 2001، عبر الأراضي الروسية.
وتبدو سياسات الانكفاء على الذات، خلال عملية الإصلاح، منطقية إلى حد كبير خلال العقود الثلاثة الماضية، في ضوء العديد من المعطيات، وأبرزها الهيمنة الأحادية، على النظام الدولي، وغياب البدائل الدولية التي يمكنها أن تتحدى القوى الوحيدة الحاكمة للعالم، بالإضافة إلى ارتباط نظرية النفوذ بالقيادة الدولية أو الاقليمية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق لدول في طور الإصلاح وإعادة بناء البنية السياسية أو الاقتصادية في الداخل، خاصة وأن القيادة ترتبط في جزء كبير منها في وجود تجربة ناجحة يمكن تعميمها في المحيط الدولي والاقليمي، على غرار المفاهيم السياسية والاقتصادية التي أرستها واشنطن على غرار الديمقراطية وحرية التجارة والعولمة، والتي أثبتت نجاعتها في الغرب، ومنحتها قيادة معسكره خلال الحرب الباردة، ومن ثم سعت إلى تعميمها عالميا مع انطلاق حقبة الهيمنة الأحادية.
الهيمنة الأحادية، بمختلف مراحلها، وضعت قطاعا كبيرا من الدول، خاصة أولئك الذين احتفظوا بولائهم للقوى الكبرى، بين خيارين، إما الإصلاح أو الاحتفاظ بقدر من النفوذ، فأوروبا الغربية تخلت عن امبراطورياتها، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لإعادة بناء نفسها مجددا، في ظل هيمنة واشنطن على المعسكر الغربي، بينما لعبت دورا محدودا بعد ذلك، لم يتجاوز الدوران في فلكها، في حين اتجهت دولا أخرى للتخلي عن الإصلاح، مقابل الاحتفاظ بقدر من النفوذ، مما أسفر عن انفجار الداخل، أدى إلى الفوضى العارمة، وهو ما يبدو في منطقة الشرق الأوسط خلال حقبة الربيع العربي الذي اندلع مع بداية العقد الماضي.
وبالنظر إلى الحالة الإقليمية، وفي القلب منها النموذج المصري، نجد أن ثمة مسارا ثالثا، استطاعت تدشينه من رحم الأزمات العاصفة التي لاحقتها، ربما فرضته حقيقة مفادها أنه لا بديل عن الإصلاح، بينما عززته الظروف الدولية، التي أحاطت بالعالم خلال السنوات الماضية، أبرزها التراجع النسبي في الهيمنة الأحادية، لصالح قوى مؤثرة، منها روسيا والصين، ساهمت بصورة كبيرة في فك الارتباط بين نظرية النفوذ ومفهوم القيادة، سواء في صورته الدولية أو الإقليمية.
الصورة الإقليمية سالفة الذكر، تجد ترجمتها في الحالة الإصلاحية التي تعيشها مصر، في اللحظة الراهنة، والتي تراوحت بين مشروعات عملاقة، جنبا إلى جنب مع تعزيز دور كافة الدوائر المجتمعية والسياسية، وعلى رأسهم المرأة والشباب وذوي الهمم، مع تفعيل الدور الذي تقوم به الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، في إطار حوار وطني، بينما اتخذت في سياستها الخارجية منحى مختلف يقوم في الاساس على التحول من التحالفات القائمة على التبعية نحو تدشين شراكات قائمة على المصالح المشتركة، وهو ما بدا في تعزيز علاقتها مع القوى الصاعدة وعلى رأسها روسيا والصين والهند، مع العمل على إعادة استكشاف مراكز القوة في دوائرها الدبلوماسية، عبر الانفتاح على أفريقيا، والتوجه شمالاً نحو أوروبا، مع تعزيز وجودها في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما ساهم في تعزيز الدور وتشعبه بعدما كان قاصرا على منطقة واحدة، بينما لم يتجاوز حدودا معينة.
والمتابع للنموذج المصري في السنوات الماضية، يجد أن حالة الإصلاح لم تنال من النفوذ في مناطقها الاقليمية، ولكنها تزامنت معها، حيث استطاعت الدولة المصرية من خلق تجربتها وسعت إلى تعميمها عبر شراكات فاعلة، مع مناطقها الجغرافية، ليتحول مفهوم الشراكة بديلا ناجعا لمصطلح "الدولة القائد"، والذي طالما روج إليه البعض في التسعينات والعقد الاول من الألفية.
الشراكات التي خلقتها الدولة المصرية مع مناطقها الجغرافية، ساهمت بصورة كبيرة في خلق مساحة من التوافقات في الأزمات الكبرى، وآخرها ملف العدوان على غزة، والتي نجحت مصر خلاله في تحقيق طفرات كبرى انتصارا للقضية الفلسطينية، عبر استعادة مكانتها في أفريقيا بعد عقود من التهميش، بالإضافة إلى اقتحام أوروبا الغربية في إطار سلسلة من الاعترافات بدولة فلسطين من قبل دولا موالية لإسرائيل.
وهنا يمكننا القول بأن مصر خلقت نموذجا تمكنت من خلاله الجمع بين مفهوم الإصلاح ونظرية النفوذ، من خلال تحقيق خطوات جادة على كافة الأصعدة، ساهمت بصورة كبيرة لاستعادة مكانتها في كافة أقاليمها الجغرافية، عبر شراكات جادة ومجدية، تقوم في الأساس على المصالح المشتركة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة