هو الفرح الذى يعقبه حزن وشجن.. هؤلاء شباب من صعيد مصر بلا إمكانيات أو تجارب يصنعون فيلما بمساعدة متواضعة من مهرجان محلى ويملكون من الحساسية والقدرة على هزيمة كل عوامل الإحباط والحصار والقهر المحيطة بقريتهم الصغيرة والممتدة إلى ربوع وطن بدا وكأنه غير عابئ بهم وبمن يشبههم.. ها هم يصنعون فيلمهم ويصيغون حلما مكنهم من منافسة أعتى القوى والصناعات السينمائية فى العالم والفوز بجائزة كبيرة ليصبحوا حديث العالم.. فهل تعلمنا فى مصر هذه الرسالة؟
هل أدركت المؤسسات الثقافية والوزارة المسؤولة فحوى هذا الفوز؟ بل هل تأملت القوى السياسية المصرية التى تسعى لبناء دولة مدنية ديمقراطية على أرض مصر.. دولة تنتعش فيها حريات المواطنين وليس فقط حرية المبدعين.. دولة المواطنة الحقيقية حيث يستطيع المواطن البسيط أن يحيا بكرامة وألا تهدده رياح التعصب من كل نوع.. دينيا كان أو عرقيا أو جنسيا أو فكريا أو سياسيا.. هل تأملوا كل هذا ولو للحظة؟
هذا هو سبب الحزن الذى أعقب الإحساس بالفخر المقرون بالدهشة بعد فوز الفيلم الذى لم أتشرف بعد برؤيته، ولا أريد أن أبدو كعواجيز الفرح الرافضين للسعادة فى وقتها، ولكن الأمر جلل، فما حدث يلقى بظلاله على كامل عناصر الأزمة التى تواجهها صناعة السينما فى مصر.
وهو ما يفسر الاستقبال الفاتر لوزارة الثقافة لهذا النجاح، ونحمد الله على أنهم لم يبادروا بمنعه من العرض فى أى مكان دون أسباب أو مبررات.
هذا الفيلم وما سبقه من أفلام فازت بجوائز فى محافل دولية يشير إلى أزمة صناعة الفيلم، التى تستفحل كل عام، وتبدو بلا أب ولا نصير يمنع عنها مصيرها المحتوم.
أى عمل فنى هو نتاج لإبداع صانعيه، يقوم على عناصر أساسية، هى القصة أو الفكرة الدرامية ثم السيناريو ثم المخرج القادر على جمع هذه العناصر فى صيغة فنية باستطاعتها التواصل مع الجماهير، فى ظل عملية إنتاجية واعية وقادرة أيضا على تحقيق الحد الأدنى على الأقل من التكامل الفنى مع إمكانية التواصل مع أكبر قدر من الجماهير وإسعاد الناس وحتى تسليتهم والارتقاء بذوقهم والاحتفاء بمشاعرهم ورغبتهم فى الحياة، وهزيمة قوى الشر التى تحاول حرمانهم من حقوقهم الأساسية.
هذا هو التعريف البسيط السائد للعملية الفنية، وهو ما أعتقد أنه موجود فى كل بلاد العالم التى سبقتنا الآن، وأنهت أو كادت أن تنهى ريادة كنا نحتكرها فى عالمنا العربى على الأقل.. فماذا يحدث الآن؟
أصبح «النجم» بالمفهوم السطحى هو سيد العمل الفنى، وهو الذى بثقافته المحدودة الذى يختار النص، إن وجد، وهو الذى يختار كاتب السيناريو ثم المخرج ثم يذهب إلى أى منتج ممول، مجرد ممول، ليبدأ عملية صناعة «الفيلم» وقد يتجه بنفسه إلى عملية الإنتاج، عندما يشعر بأنه لا ضرورة فى تقاسم الأرباح مع أى شخص ما دام «جمهوره» لا يعبأ بكل هذه التفاصيل التافهة، وهو يستمتع بمشاهدة نجمه المفضل، الذى يهمه فقط اختيار عناصر تسمع الكلام، ولا تناقش فى اختياراته بدءا من المخرج إلى الممثلين إلى كل عناصر العمل.
أعرف أن الأمر ليس مطلقا، وأن هناك بعض النجوم يمتلكون من الثقافة ما يجعلهم جديرين بتحمل المسؤولية، مثلما كان يحدث فى الماضى عندما كان يتحمس نجوم مثل أنور وجدى أو ماجدة أو غيرهما لاستثمار أموالهم فى الصناعة المتوهجة، ولكننا نتحدث الآن عن أمر مختلف تماما، فهؤلاء كانوا يتجهون للمبدع الذى يناسب كل موضوع ويتركون له حرية اختيار باقى عناصر العمل وتطويره، كما أنهم كانوا يغامرون بأموالهم وليس بأموال غيرهم من الممولين، الذين لا ينظرون إلى السينما إلا باعتبارها تجارة مضمونة الربح فى أغلب الأحيان تاركين النجوم لأموالهم يستثمرونها فى المطاعم والكافيهات، التى تقيهم شر الزمن بعيدا عن الفن ووجع الدماغ.
فى ظل معايير رقابية صارمة، وجهاز متهالك، ورقيب مرتعش، ووزارة لا تعى دورها، وبيروقراطية متحكمة، تنهار الصناعة التى تتيح إمكانية صعود هؤلاء الشباب، فالأفلام يتم وأدها وهى فى مرحلة السيناريو أو قبل ذلك، وهى فكرة فى رأس مبدعها فى ظل شروط شبه مستحيلة للتصوير فى الشارع أو المسجد أو الكنيسة أو المطار أو الآثار المصرية أو المدارس وإلخ، وتضع من العراقيل المادية والإدارية ما يجعل صنع مثل هذا الفيلم مستحيلا. ولولا أن هؤلاء الشباب وجدوا بعض الحماية من «كبار» قريتهم، وهربوا من قيود الرقابة المصرية بطريقتهم ما خرج هذا الفيلم إلى الوجود.
كانت محافظة المنيا من المناطق التى سيطر المتطرفون على كثير من قراها، وعاثوا فيها فسادا، وحاولوا إقامة إمارتهم المظلمة فى جنباتها، وافتعلوا كل أنواع المشاكل مع أقباطها، محاولين زرع بذور فتن طائفية بين شعب دفع ثمنا فادحا لفكرة العيش المشترك بين عنصريه، وظل لقرون يضرب مثلا لكل شعوب الأرض فى كيفية الانتصار على عوامل الفرقة والتشتت.. فإذا بقرية معظم ناسها من الأقباط المصريين تخرج لنا برسالة محبة ورغبة فى معانقة الحياة والتواصل مع العالم وليس فقط فى حدود قريتهم الصغيرة.
غياب رعاية مثل هذه المواهب وتشجيعها وتمويلها والوقوف بجانبها فى مواجهة البيروقراطية والتعامل مع السينما كرفاهية زائدة يجب أن يتوقف، وأن تسود فى دولتنا هذه الروح فى جميع قرى مصر ومدنها بصرف النظر عن كل اختلاف دينى أو جنسى أو فكرى، فهذه هى الخطوة الأولى نحو مجتمع جديد نفخر به.
هل نبدأ بعرض هذا الفيلم وأمثاله فى دور العرض التى ما زالت تملكها وزارتنا قبل تصفيتها وفى مركزها وقصورها، بل وفى مدارسنا وجامعتنا ليتعلم الجيل القادم أننا قادرون على الحلم بغد أكثر إشراقا وتحضرا.. ومحبة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة