حازم حسين

الجنون وشبح الانقسام على الانقسام.. عن «العداوة والتخادُم» بين آمال نتنياهو وآلام غزة

الثلاثاء، 07 مايو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتُها فُرِجَت؛ على قول الإمام الشافعى فى قصيدته الشهيرة؛ غير أنه ليس من الثابت دومًا أنّ استحكامَ العُقدة مُقدِّمةٌ لحَلِّها، لا سيّما المسائل التى لا يسهُل قياسُها؛ لنعرف هل بلغت ذُروتَها أم ما يزال فى قَوسِها مزيدٌ من الكبت والانسداد. وإذا كان واردًا فى الأقدار والغيبيّات أن تهطلَ الحلولُ من سحائب الميتافيزيقيا، دون اجتهادٍ منك أو اعتبارٍ لرفض الرافضين؛ فإنّ نزاعاتنا الماديّةَ المحكومةَ بمواقفنا ومواقف خصومنا، لا سبيلَ لتفكيكها إلّا بالنزول عن الشجرة، وأن يحتكمَ الطرفان إلى خيار التعقُّل والوفاق، أو يتمكّن أحدُهما من تطويع الآخر وإجباره على الإذعان. والفاصلُ بين الخيارات الصفريّة والمُناكفات المُثمرة باهتٌ ودقيق؛ حتى لَيَنقلِب الواحدُ من نصرٍ لهزيمة، ومن سعةٍ إلى ضيق، على خلاف ما يسعى، دون قصدٍ أو دراية، وبينما يحسبُ أنه يُحسِن صُنعًا.


ينطبقُ القولُ السالف على بنيامين نتنياهو فى حربه الشعواء ضد غزّة، كما ينطبقُ على كثيرٍ ممّا سارت إليه حماس، أو انتهجته من مساراتٍ فى تسعير الصراع أوّلاً، ثمّ فى إدارته والتعاطى مع ما تولّد عنه من آثارٍ كارثية مُدمِّرة، للقطاع وأهله بمثل ما للحركة ومرافقها. الأوّل لم يقرأ الظرفَ الطارئ على وجهه الحقيقى، وكونه حصيلةَ عقودٍ من الخنق والتنكيل وتسويد الأُفق السياسى، وعائدَ تجارته فى الانقسام وكَسر السلطة الشرعية لصالح انفراد خصومها القسَّاميّين بالحُكم على ساحل المتوسط؛ لأجل أن تتباعدَ ضِفَّتا الدولة المأمولة، ويستعصى إنضاجُ المشروع التحرُّرى تحت راية الإجماع الخالصة لوجه الوطن. والأخيرةُ داست الفخَّ قبل عقدين، ولم يسترعِ انتباهَها ما وراء الأَكَمةِ من نوايا قاتمةٍ ومُخطّطات شديدة التوحُّش والعداء.. وعلى قضيبين مُتوازيين سارا معًا: القاتل يُسمِّن ضحيَّته مُكتفيًا بتقليم أظفارها فى ضربةٍ خاطفة بين وقت وآخر، والضحيّة تنتفعُ من إسناد العدوِّ على أمل أن تكتمل عدَّتها لتُلاقيه فى الميدان؛ والخلل أنها كانت علاقة تخادُمٍ من بدايتها، وعلى أىّ وجه تتطوَّر أو تحتدّ؛ فلن تصيرَ مواجهةً حاسمةً لأحدهما. إذ يتربَّحُ كلُّ واحدٍ فيهما من الآخر؛ لدرجة أن صارا مُعادلاً موضوعيًّا لبعضهما، ونُسخةً أُصوليّة واحدةً بوجهين: صهيونىّ توراتى، وإخوانى إسلاموى.


ربما تجاوزنا التأصيلَ لمنشأ اللعبة بين يمين غزّة ويمين تل أبيب؛ أقلُّه فى المدى الراهن، وقد فرضت النارُ قانونَها على المُتحاربين، ولا شىءَ يعلو فوق مهمّة إسكات البنادق، وإنزال المدنيِّين عن مذبح المُحتلّ والمُقاوم. لكن ما يستدعى العودةَ إلى البدايات، أنّ كثيرًا من سلوكيات نتنياهو والسنوار تبدو كما لو كانت من مشكاةٍ واحدة، وأنهما يقرآن منهجًا إجباريًّا تتشاكلُ صفحاتُه فى المضامين، وإن اختلفت فى الرسم والإملاء. يطلُّ رجل الكابينت على غزّة؛ فينعكس وجهُ سيد الأنفاق فى مجلس الحرب، ويقولان إنهما ماضيان فى أهدافها إلى آخر الدرب، ثمّ ينخرطان فى ورشة الحوار غير المُباشر، ويخرجان منها لفِعل ما ينقضُ التفاهمات ولا يُحقِّق الغايات، بينما تدوسُ المُجنزرات على حدِّ السيف، وتحت حدِّه الآخر رقابُ الغزّيين؛ فيصخبُ المجنون الصهيونى عن الخطر الذى يحيق بدولته، وينتشى المُغامر القسّامى الرزين بحصّته المعنوية من البطولة والفخر، ويموت النساء والأطفال بصمتٍ وكَمَد.


وبعيدًا من العواطف الزاعقة، والتحزُّبات الرومانسية التى لا تُعيدُ أرضًا ولا تُوقِف مَقتلة؛ فإنّ فلسفةَ الجهاد نفسها بالفَهم الشرعى تُفرِّق بين المشروعية والمصلحة، والتعبُّد بالوسائل لا يقلُّ قُدسيّةً وطلبًا عن الطمع فى إصابة الغايات. وإنْ تيسَّر أن نجدَ مُبرّرًا لطوفان الأقصى قبل سبعة أشهر، من زاوية الجمود واتّساع بقعة الزيت الموصوفة عَرضًا بالتطبيع الإبراهيمى؛ فلعلّنا نتحيَّر كثيرًا فى تبرير أغلب ما جاء بعدها، وآخره الضربة المُتزامنة التى أطلقها ربُّ الحماسيِّين من خندقه السحيق؛ بينما مُداولات الهُدنة تُوشك أن تنعقدَ على اتّفاقٍ يُجمِّد الميدان ويتشفَّع لطابور الأُضحيات المتروكة فى العراء. فمهما كُنتَ عارفًا بالقضية وتاريخها؛ يتعذّر أن تفهم ما يدورُ فى خلد الفصائل الغزِّية، ولا ما يتقصّدونه فعلاً من الحرب والتهدئة. وتلك إشكاليةٌ تستوجِبُ التوقُّفَ والفحص؛ إذ الأصلُ أن يكون السلاحُ فى خدمة السياسة، وأن يكونا معًا لأجل فلسطين، وإذا شُرِّعت الأبوابُ وفُعِّلت كلُّ الأدوات ولم تكسب الدولةُ الضائعة ماديًّا أو معنويًّا؛ فربما تكون العِلّة فى الرؤية والحركة والولاءات، بقدر ما فى جنون العدوّ وانحياز مُشايعيه.


صمتت «حماس» لأكثر من أربعة أشهر قبل أن تُصدر ورقتَها الإيضاحية المُعنونة «لماذا طوفان الأقصى». وقد سردت فيها كلَّ خروقات الاحتلال المعهودة منذ عقود، وطوال سنوات انقلابها والانفراد بالقطاع وشؤونه وساكنيه. ولم تُقدّم تفسيرًا مُقنعًا بحجم الهجمة وميقاتها؛ كما لو أنها لا تملكه أصلاً، وبالتبعية لا تعرف الوجهةَ التى تمضى إليها بالعملية وارتداداتها. وعندما قَبلت الهُدنةَ الأُولى أواخر نوفمبر الماضى، صِيغَ الأمرُ بوصفه استجابةً عاقلة للأزمة الإنسانية، ورغبةً فى تمكين الناس من فُسحةٍ لالتقاط الأنفاس؛ لكنّ الأوضاع آلت لأصعب ممّا كانت عليه قبل خمسة شهور، والأبرياءُ المنكوبون فى عَرض ساعةٍ يُضمّدون جراحَهم أو يُشيِّعون موتاهم، ما يعنى أنّ الهدنةَ اليوم مطلوبةٌ أكثر من أىّ وقتٍ مضى، ومهمّة المقاومة التى صارت حكومةً بالقوّة وسُلطة الأمر الواقع، أن تُوازِن بين شَبقها الجهادى ومسؤولياتها الإدارية والأخلاقية، وألّا تُمكّن غريمَها النازىَّ الهائج من فتيل القنبلة، أو تمنحه ما يبتغى من تعلُّلاتٍ للتصعيد وإدامة اللوثة الحارقة. وإذ يحدثُ أن يستجيب السياسيّون منها بالقول؛ فسرعان ما يرتدّ العسكريون عن الاستجابة بالأفعال.
قطعت جولاتُ القاهرة شوطًا بعيدًا فى ردم الفجوات التى يحفرُها نتنياهو وحكومته، وبدا فى الأيام الأخيرة أن المراكبَ الضائعة بين تلاطُم الأمواج أوشكت أن تجد مرافئها. وفجأة تخرج بقايا كتائب القسّام من خنادقها لتطوِّح زخّاتٍ من القذائف والصواريخ تجاه محور نتساريم وجنوب مدينة غزة، وأخطرها ما طال محيط معبر كرم أبو سالم. والمفارقةُ أنها كانت صامتةً، أو فى شبه سُبات طويل، لأسابيع عديدةٍ خَلَت، ولا تُفهَم استفاقتها الأخيرةُ على أىّ وجهٍ ساعٍ للحل؛ بقدر ما تُشير إلى أحد أمرين، أحلاهما مُرّ ومُزعج ويُثير الأسى: إمّا أنّ تيّارًا على أرض الصراع يخدمُ نتنياهو فى محنته، ولا فارق بين القصد والعفو، أو أنّ حَمَاسَين تختصمان فى الجسد الواحد؛ فيغيب الوفاق الواجب بين الخنادق والفنادق.


رأيتُ خبرَ القصف عنوانًا قبل التفاصيل؛ فتخيّلتُ للوهلة الأُولى أنها لعبةٌ صهيونية يجترحُها رئيس الحكومة المُختل على عادته، وقد نشرت صحفٌ عبريّة مثلاً أنه يُصدر بياناتٍ من مكتبه منسوبةً لمصدرٍ دبلوماسىّ مجهول، تعترض على التوصُّل لصفقةٍ تُعيد الأسرى وتُوقف الحرب. ولأنّ سوابقَه تحملُ كثيرًا من الشُّبهات الشبيهة، فى تفعيل «بروتوكول هانيبال» سرًّا للخلاص من ورقة الأسرى، أو التحرُّش شمالاً بإيران وأذرعها خاصّة حزب الله؛ فقد اعتبرتُ الاستخلاصَ الأوّل وجيهًا ومُقنعًا، إلى أن اصطدمتُ ببيان الحماسيِّين الذى يتبنّى العملية، ثم بتحديثاته الشارحة عن قصف نقطة تمركُزٍ فى شمال القطاع، ومحور نتساريم فى وسطه، وكرم أبو سالم فى جنوبه الشرقى، والأخيرة تحديدًا خرجت قذائفها من رفح التى تُسَنّ لها السكاكينُ اليمينيّة فى تل أبيب؛ فكأنّ السنوار ورجاله يقولون لنتنياهو وعصابته هاكُم الحجّة التى ضيّعتها عليكم الوحشيّةُ وغبار المعارك، وأفسدتها صلابةُ الموقف المصرىّ وما تلاها من تحوُّلات الرؤى فى الإقليم والعالم، وبدلاً من مظلوميّة نحو 1.4 مليون يتكدّسون فى أقلّ من 60 كيلو مترًا مربعًا تحت ظروفٍ إنسانية شديدة العُسر والإيلام، سنختزلُ المدينةَ فى لواءٍ قسّامىٍّ واحدٍ تبقّى من معركتنا الخاسرة، وسنمنحه عن طيب خاطرٍ لتُجدِّدوا به سردية الخطر الوجودى، والحرب التى يتعيّن إكمالها على جُثث العُزّل المساكين قبل الحديث عن أيّة تسوية أو أمان.


وفّر الصراعُ الطويل لإسرائيل معرفةً عميقةً بالعرب وسيكولوجيّاتهم؛ لكنّ الفلسطينيين إمّا لم يُذاكروا عدوَّهم أو يتناسون دروسَهم تعمُّدًا واستخفافًا. إنهم يعرفون يقينًا كونَها مُساجلةً طويلة المدى، ومع غريمٍ يكذبُ كما يتنفّس، ويعشقُ القتلَ بأكثر ممّا نتأهّب للشهادة ونحتمل مرارتها، ومن ورائه إسناد عربى طاغٍ لنا أن نُدينه، وعلينا أن نُكيّف أحوالَنا على طبائعه الظالمة. وبالوجود والوظيفة فإنه فى بحثٍ دائم عن الصدامات التى تُخفِّف وطأةَ الديموغرافيا عليه، بالإماتةِ أو الإزاحة والتهجير. على هذا المعنى؛ فإنه يُجرّب خصومَه كلما أراد افتعالَ حربٍ؛ والواجب ألّا ينخرطَ النابهون فى التجربة وألّا يذهبوا للميدان على شرطه وعقارب ساعته. وقد سبقَ له اختبارُ المسألة عندما قصفَ القنصلية الإيرانية فى دمشق، مُستدرجًا رأسَ المحور الشيعىّ لمُغادرة مُعتكفه الآمن تحت راية «الصبر الاستراتيجى» وحروب الظلِّ، وإرجاء الردود دائمًا إلى الوقت والمكان المناسبين، وغالبًا لا يأتيان، ومن وراء استثارتها فى «ليلة المُسيَّرات» أعاد فوهرر تل أبيب تنشيط سرديّته، والتلطِّى وراء ستار الضعف والعداوات الأُصولية الراديكالية، فتداعى له الأمريكيّون والأُوروبيون وتدفّقت المُساعدات التى كانت مُعطّلةً، وأُحبِطَت خطوةُ استيلاد فلسطين من مجلس الأمن بفيتو واشنطن، وربما حصل على ضوءٍ أخضر بشأن تطوير عمليّاته صوب رفح وجنوب لبنان. والخُلاصة أنه يعيش على الأزمات ويزدهر فى إطارها، وآخر ما يخدمُ القضية أن يتطوَّع بعضُ أبنائها بمَنحه هديةً مجّانية فى توقيتٍ دقيق، وقبل ساعاتٍ من استخلاص اتفاق على الهُدنة التى يحتاجها الغزِّيون أكثر من الصهاينة.


لو وقعت الهجمةُ قبل أسبوعٍ أو أكثر؛ لكان مُمكنًا أن نحملَها على الضغط المقصود لتحسين شروط التفاوض، أو مُعادلة الصورة فى مُقابلة التشدُّد العبرى والتصعيد دعائيًّا وسياسيًّا. إنما ما حدث أنها جاءت مُتأخّرةً كثيرًا عن مرحلة الشدّ والجذب، وبعدما أبدت الحركةُ قبولاً ظاهرًا للورقة فى صيغتها الأخيرة، وتردَّدت إشاراتٌ إيجابية من ناحية تل أبيب، كان ختامها ما أوردته هيئةُ البثّ الإسرائيليةُ بالتزامن مع رشقات حماس، بشأن إجماع مجلس الحرب على المُقترح المصرى. وإذا نحّينا فرضيّةَ أن يدًا خفيّة بالقطاع تعملُ لصالح نتنياهو وائتلافه اليمينى؛ لأنّ فيها اتهاماتٍ نُنزِّه الجميعَ عنها؛ فالبديل الوحيد أنّ حماس السياسية تتفاوضُ لأجل ما وصفته بوقف الحرب وإنهاء مُعاناة شعبها، وحماس العسكرية لا تقبلُ هذا انتصارًا لسُلطتها على المشهد، أو رغبةً فى استمرار احتفاظها بالشعب رهينةً لأجندتها، ومِتراسًا تتخفّى وراءه إلى أن يهبط عليها الوحى من سماء مُحور المُمانعة، أو من عنديّات «السنوار» بحسبةٍ واعتبارات لم يُصرِّح بها، ولا يعلمها أحد.


سبق الضربةَ قرارُ الحكومة الصهيونية بإغلاق قناة الجزيرة؛ تفعيلاً لإجراءاتٍ تمهيديّة اتُّخِذت قبل شهورٍ بشأن المسألة. ويُحتَمَل أن تكون القذائفُ ردًّا انفعاليًّا على الخطوة، وربما ثأرًا مطلوبًا أو تطوّعيًّا للحليف الإعلامى.. أمّا التداعيات فتشمل آثارًا مُباشرةً وغير مباشرة، على الميدان وفى السياسة وغُرَف التفاوض. شمالاً قد يعود الاحتلالُ لتنشيط وجوده فى المساحات التى غادرها، وتكثيف ضرباته الجوية والبريّة تجاه ما تبقّى من جيوبٍ بشرية، والتصويب على محور نتساريم الذى يقسمُ القطاعَ نصفين، وقد يتبعه تعزيزُ التمركزات الإسرائيلية وتوسعةُ الشريط العَرْضىّ، والتشدُّد فى مسائل عودة النازحين وتمرير قوافل الإغاثة.

وفيما خصَّ «كرم أبو سالم» فالصهاينة أعلنوا سريعًا إغلاقَ المَعبر، ما يضغطُ على تدفُّق المُساعدات انطلاقًا من أنه الأكبر والأكثر استيعابًا، ويتّصل بآليّة التفتيش للشاحنات الداخلة من بوّابة رفح؛ فكأن المُغامرين تجاهلوا الآثارَ القاسية على الإمدادات المطلوبة، بينما يُشرِف الغزّيون على المجاعة، أو تقصَّدوا دفع عدوِّهم المخبول إلى الحافة لأجل هذا القرار. وإلى ذلك؛ فالمُتوقَّع حُكمًا أن ينقُضَ تفاهُمات الهُدنة، أو يُناور بشأنها ليُعيد صياغة شروطه بقيودٍ أقسى، وفى كلِّ الحالات سيذهبُ لإرجاء الصفقة هروبًا من الهزيمة المعنوية وجُرح الكبرياء؛ حال تزامنت أو جاءت تاليةً لتصعيد القسّام، إذ يصيرُ التوقيع وقتَها إقرارًا بالضعف، وتأكيدًا للعجز عن الحسم، وهو ما يُضادّ خطاب نتنياهو ورُزمة أهدافه المُعلَنة، ولا يُمكِّنه من تسويق التهدئة باعتبارها نصرًا لإسرائيل أو كَسرًا لحماس.


كتبتُ قبلَ شهورٍ أن «حماس» قد صارت جسمين فى عباءةٍ واحدة، وما كُنّا نقوله بالاستقراء والتحليل، يبدو أنه أطلّ برأسه علنًا دون مُواراةٍ أو تأويل؛ إذ لا معنى للاتّفاق فى بنودٍ من الهُدنة والتفاوض على غيرها، والتردُّد بين القاهرة والدوحة للمُداولات والردّ واستجلاء ردود الغريم، ثمّ تنفتحُ فوهات الأنفاق لتُطلِقَ رسائلَ مُضادّةً للتهدئة أكثر من كونها عبواتٍ مُتفجّرةً؛ إلّا أنَّ عقلَ الحركة وعضلاتها ليسا على موجةٍ واحدة، ويغيب عنهما التوافقُ العضلىّ العصبىّ. ونِتاج ذلك أنه كلّما صعّد المُقاتلون تتآكل أوراقُ السياسيِّين، والأخيرون كلّما ضعفوا يتعرَّى الأوّلون من غطاء الدبلوماسية ومن إسناد القوّة الليّنة؛ فكأنهما يتكفّلان باستنزاف السلاح والسياسة لصالح المُحتل، المُسلَّح إلى العَظم ومُحترف التفلُّت من الالتزامات، منذ القرارين الأُمَميّن 181 و242 وما بعدهما، من النكبة والنكسة إلى اليوم.


سيستفيدُ نتنياهو ممّا جرى ولم يكن يحلُم به. كانت الموجةُ عاليةً حواليه فى الحكومة وكابينت الحرب والشارع، والإجماع على استعادة الأسرى ولو تعلّقت على شرط إنهاء القتال، ولعلّه كان يُفتّش بملء طاقته عن منافذ يتسرَّب منها ليُفسِد المشهدَ أو يُبقيه مطمورًا بالركام ودخان الميدان. والهدية التى تلقّاها من أشرس خصومه بالتنظير، وأوفى أصدقائه بالتطبيق، ستسمحُ له بتعطيل التسوية حتى حين، وربما التحضير لاجتياح رفح، وقد هدَّد به وزيرُ الدفاع يوآف جالانت علنًا، ولوَّح بوقوعه فى غضون أسبوع. والرهان الوحيد الذى ما زال قائمًا ينحصرُ فى القاهرة؛ سواء لجهةِ تفانيها فى تذويب الخلافات وإنقاذ التهدئة، أو فى رفضها المبدئىّ الصارم للتوغُّل جنوبًا والاقتراب من خطِّ الحدود، بما يُلقيه ذلك من ظلالٍ رماديّة على اتفاقية السلام وبروتوكولات المعابر.. الترجيحُ الأقرب أن تستمرّ السخونةُ، وألّا يقع الاتفاق المأمول، مع اتساع رقعة المواجهة حجمًا وكثافة؛ إنما يبقى الأملُ قائمًا فى اختراق تتغلَّب به الوساطةُ المصرية على الشدِّ والجذب، وألاعيب الحمائم والصقور من الناحيتين. وفى الأخير؛ يبدو أن القاتلَ يعرفُ نفسَه والآخرَ جيدًا، ويسير فى مُخطّطه الوقح بتُؤَدَة وثباتٍ؛ بينما القتيلُ لا يعرف كيف ينجو، ولا كيف يموت بطريقةٍ لا تسُرّ عدوَّه ولا تزيد مواجع الأرض والقضية.


صار تكرارًا سخيفًا أن نتحدّث عن أولوية إنهاء الانقسام، وترصيص الصفوف، وإنجاز مُدوّنة وطنية جامعة، لا تطمسُها الأيديولوجيا ولا تُلوِّثها الأهواء؛ لكنها تظلُّ الحقيقةَ القاطعة التى لا خلاصَ من دونها، وبالتوازى أن يفتتح الحماسيِّون ورشةً جادة وأمينة لتقييم المواقف وتقويمها، ويكفى الاعتراف بالخطأ شريطةَ الرجوع عنه. المحتلُّ ظالم وقاتلٌ وسارق ومُتوحّش وافتح قوسًا وقُل ما شئت؛ لكنّ الاكتفاء بالإدانة والهجاء دون ترميم البيت ومُداواة خطايا الذات لن يقود لمَخرجٍ آمن، ولن يستخلصَ فلسطين من الدوّامة المُزمنة: ما تربحه بالسياسة يُضيِّعه السلاح، وما يُحرزه المقاتلون يبدده المفاوضون، وما يتمناه العوام يسعى المُهيمنون لعكسه تمامًا.. ستضعُ القضيةُ قدمَها على أوّل الطريق الصحيحة؛ عندما تتحرَّر من نزوات المُتحدِّثين باسمها تفويضًا وغصبًا، ومن شجارات الأُصوليّة والمَحاور والزعامات المُتضخّمة، وتكون نِدًّا لعدوِّها بسُلطة الحقّ العادل، وبالضعف والمظلومية كما بالقوّة والمقاومة الرشيدة، وإعادة الاعتبار للنضال بالحياة بدلاً من الانكفاء على غرام الافتتان بالموت. الندّية أن تكون الروحُ بالروح، لا أن نرتضى مُبادلةَ ضحايانا بالرصاص ونتصبّر ببطولاتٍ عاطفية زائفة. وإذا لم تَخلُص جردةُ الحساب المُقبلةُ إلى أن نحو 35 ألف شهيدٍ أهمّ وأكثر إيلامًا من عدّة مئات حصدهم الطوفان فى غلاف غزّة، وأنّ بيوتَنا أغلى من ذخائرهم، وأشلاء أطفالنا أثمن من هلع مُستوطنيهم؛ سيظلّ الوهمُ حاكمًا، واختلالُ الرؤية أفدح من احتلالِ الأرض، وسيظلُّ الأبرياءُ الذين لا يُستَشَارون قبل الزجّ بهم فى المقامرات، يتقلَّبون من نكبةٍ لمحرقة، ويُجبَرون على تقديم قرابينهم البشرية لخَصمٍ باطش، مُضطرّين دومًا لابتلاع الدعايات المُهينة من يمين القلنسوة والعمامة، ثمّ طَىّ الصدر على الوجيعة بين نَزفٍ وكَىّ، والاكتفاء بمواساة الخارج حينًا وحنجوريات الداخل فى كلِّ الحالات والأحيان.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة