حازم حسين

مسلسل جودر ورهاناته الصعبة.. لعبة الخيال بين الحنين والمنافسة وبراعة الاستهلال

الخميس، 28 مارس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

للفانتازيا سحرُها الذى لا يُقاوَم؛ لكنّ الخروج بها من المحكى إلى المرئى مُغامرةٌ محفوفة بالتحدّيات، وفى حالة «ألف ليلة وليلة» تحديدًا يصيرُ الرهان أصعب؛ لأنه بمثابة مُنافسةٍ صعبة مع الخيال أوّلاً، ثم مع النوستالجيا وموقع القصّة من الذاكرة، لا سيما أنها ظلَّت لعقودٍ عمودًا أصيلاً فى معمار المواسم الدرامية، للإذاعة والتليفزيون، وتأسَّست عليها ذائقةُ أجيالٍ عدّة، وتفضيلاتهم فى الفُرجة والتسلية. والواقع أنّ كلَّ تحدٍّ مع الماضى قد يكون بالبديهة لصالح القديم؛ حتى لو لم يكُن الأجملَ والأكثر إتقانًا، إنه سحر الطفولة، وأثرُ الحنين الذى يُسبِغ رونقًا جليلاً على البدايات، ولعلّ هذا أول امتحانات «جودر» وأهمّها؛ إذ يُداعب الغابرَ بوعى الحاضر، ويُعوِّض بالتقنية ما كان يتحقَّق بالدهشة البِكْر، قبل أن تتطوَّر المعارفُ وفنون الصورة، وتتفتَّح عيونُ المشاهدين على تجارب عالمية شديدة الثراء فى سَردِها وصُورتها. وبينما يصعُب الحُكم من حلقةٍ أو اثنتين؛ فإن المُقدِّمات تُبشّر بتحقيق مُعالجة بصريةٍ قادرة على الاستجابة لشروط اللحظة، وتجديد جاذبية الأُسطورة ولياليها المُترعة بالغرابة والتشويق والأطياف المُلوَّنة.


فى خريطةٍ درامية مُزدحمة بأعمالٍ مُتنوّعة فى مضامينها ورهاناتها الجمالية، وُضِعَ مسلسل جودر بين عروض الجولة الثانية من رمضان. والانطباعُ الأوّل أنّ المنافسةَ مُحتدمةٌ للغاية مع مشاريع مُمتدّة، حجزت أماكنها وانتخبت جمهورها، وصار لكلٍّ منها رصيدٌ يتعذَّر تعويضه على المُلتحقين بالسباق من منتصف الطريق؛ كما أنَّ باقةً أُخرى من المسلسلات القصيرة أنجزت فُروضَها كاملةً، وما تزال حلاوة بعضها فى عيون الجمهور، وصداها يتردَّد فى صدورهم، ومثلاً فإن «مسار إجبارى» أغلقَ دفترَه ومضى؛ لكنه لم يُخلِ موقعَه تمامًا، بما قدَّمه من حكايةٍ مُشوِّقة، وسَردٍ مُتقَن، ورؤية إخراجية وأداءات تمثيلٍ عالية القيمة، وكذلك لا تسهُل مُزاحمة «الحشَّاشين»؛ وقد رفع سقفَ التوقُّعات لأعلى مدى، واجترح مسارًا غير اعتيادىّ فى رَسم عالمه الثرىّ على تُخوم الواقعية والتخييل، وحقَّق اختراقاتٍ مُلفتةً فى الصورة والموسيقى والمُؤثّرات ومستوى المعارك. والمثالان يحتملان أعمالاً أُخرى أصابت قدرًا من القبول الجماهيرى؛ لنجوميَّة صُنّاعها أو حِرفيّة إنجازها، وهكذا لا تبدو مهمَّة النسخة الجديدة من ألف ليلة وليلة سهلةً؛ لأنها تقع فى مَوضع المُقارنة مع نماذجها القديمة بكلِّ تنويعاتها، وتلتحقُ بمضمار الموسم مُتأخِّرةً عن ثلاثة أرباع الخريطة على الأقل.


ربما لم يكن القَيِّمون على التجربة عارفين مُسبقًا بموعد العرض؛ لكنهم لم يُفوِّتوا أيّة فرصة للاشتباك الجاد منذ اللقطة الأولى. صحيح أنَّ الحلقة التى شاهدتُها لا تصلح للتقييم العادل، وقد يأتى بعدها ما يتجاوزها أو يُطفئ بريقَها؛ إلّا أنّ الإشارات الافتتاحية فيها ما يكفى للاستدلال على الجدّية، وأنهم تصدّوا للعالم الساحر بمنطقه، وحسب ما يُلائم إعادةَ إنتاج الدهشة اليوم، والواقع يتلبَّس قناع الأساطير ويبتذلُ وهجَها، وقد صار الخيالُ صناعةً سهلة بالتقنية، وشديدةَ العُسر فيما يخصّ الجَمع بين الغرابة والإقناع، والدقائقُ الأُولى من الشريط عبرت فخّ الافتتاحات الباهتة، وقدَّمت نفسَها على أحسن ما يكون؛ لناحية تأسيس الحكاية، وعَرض الشخصيات، وإرساء مُفردات التعاقُد الضمنىّ على الخداع اللذيذ، دون إفراطٍ فى الإيهام أو تفريطٍ فى هندسة الحالة الملحمية، بكلِّ ما ستتأتّى بعدها من شطحاتٍ وإيغالٍ فى الفانتازيا وعوالمها الغرائبية.


تبدأ اللعبةُ مُباشرةً، وينخرط اللاعبون فيها بكلِّ طاقتهم ومُفردات صنعتهم. فيتجاوز «التتر» حالَ الشارة التمهيدية، إلى تقديم مُعادلٍ كاملٍ للحكاية، عبر تتابُعٍ بصرىّ يتصاعُد بترتيبٍ مُواكب للأحداث. من الإعلان عن شهريار وشهرزاد، إلى ولادة جودر، والإشارة لخصومه «الشمعيِّين»، واستعراض لمحاتٍ مُتلاحقة من المُغامرة والمؤامرة، ولا ينشغل شريطُ الصورة بالإبهار، قدر ما يشتغل على تلخيص موضوعه فى ضفيرةٍ مُتجانسة من التعبير والإيحاء؛ حتى أنك قد تستكشف منه تفاصيلَ القصّة كلها؛ ولو لم يسبق لك الاطّلاع عليها؛ كأنّ المقصود استبعاد عامل المُفاجأة من عَقد الفُرجة المُنتظَرة، والاتفاق على أننا ندخلُ لعالمٍ بسيطٍ فى علاقاته، معروفةٌ مآلاتُه، ولا يتطلَّع إلى خَلق انحرافاتٍ سرديَّة تكسر التوقُّعات؛ إنما يُراهن على تحقيق المُتعة والمُغايرة من بوَّابة الجودة والإحكام، ولأنَّ المُقدّمة اختِير لها أن تكون معمارًا قائمًا بذاته، فقد عمل عليها فريقٌ خاص لتحقيقها بصريًّا وصوتيًّا، باثنين من المونتيرين، ومُؤلفٍ موسيقىّ من خارج نسيج الدراما. نجح عمر عبد القادر وأحمد زين فى بناء التتابُع السردىّ بانتقائيّةٍ مُتقَنة، وإيقاعٍ مُريح ومُتدفّق، كما ترك عزيز الشافعى مع توزيعات أسامة الهندى بصمةً ملحمية، تختلف بوضوح عن موسيقى العمل، ولا تُفارق أجواءها، وتمزجُ نكهةً تُراثية بروحٍ تجتمعُ فيها المُعاصرة بالطابع المخملى، عبر زَخْم الوتريّات والإيقاعات الشبيهة بحالة النوبة وأجواء المُوشَّحات والموسيقى الأندلسية، وإجمالاً يصحُّ النظر للتتر بوصفه إبداعًا خالصًا لذاته، ودالّةً مُغلقةً على تأويلاتها؛ من دون أن يُقصِّر فى مهمَّة التمهيد والتشويق، وفى أن يُبشِّر بمسار الصراع، مع تجدُّد معانيه وإحالاته كلَّما تقدَّمت الأحداثُ من حلقة لأُخرى.


الافتتاحيةُ تستعرض مدينة شهريار وقصره، ومن التقطيع بين مُبارزةٍ حامية واستدعاءات ذهنية لخيانة الملكة/ الزوجة الأولى؛ يُؤسِّس السيناريو قاعدةَ الحكاية، ويَعرض دمويّةَ الملك ويُفسّرها، وفى تسع دقائق يضع القدرُ شهرزاد أمام مصيرها الاضطرارى، وتُقدِّم نفسها أُنثى وزوجةً وحكيمةً وحكَّاءة، وتقصّ شريطَ الليالى من الذروة: طفل يُولَد على شَرط الأسطورة، وقبيلة من السحرة السوداويين، وسرّ عظيم يحرسه رَصَدٌ من الجِنّ والطلاسم، وعجوز جمع كنوزَ الأرض ومبلغَ قوِّتها فى غُرفةٍ تنتظرُ حاملَ مفتاحها المخبوء فى الغيب.. ومن جديدٍ؛ تُطرَح الأوراقُ كلُّها على الطاولة؛ فالعُقدة أنَّ الخير يُخبّئ أدوات الدمار، والشرَّ يُفتِّش عنها، والصغير «جودر» سيقضى رحلتَه على حدِّ السيف بينهما، وها قد علمتم كلَّ شىء تقريبًا؛ فدعونا نلعبُ معًا لُعبةَ الخيال، ونُجرِّب الفانتازيا العارية من الأسرار والتحوُّلات العاصفة.
لا يُهدِر الشريطُ لَقطةً واحدةً فى غير موضعها، أو من دون أن تدفعَ السَّردَ قُدمًا، وتجمع التأهيل المعرفى بالتأويل الدلالى والمُتعة البصرية. فى مشهد «السُّبوع» يُدَقّ الهَون للرضيع، وتقف بومةٌ على الجدار بنظرةٍ مُثيرة، تنفتح على دلالاتٍ عدّة: التربُّص الذى يلمعُ فى عينى شقيقه بعدما أصابته الغيرة، وفأل الشؤم الذى يتشكَّل فى عالم السحر الأسود، واتساع عيون القدر على الوليد، أو عينى «جودر» نفسه على ما رُسِمَ له من مقادير، لتطير البومةُ بعدها إلى الشمعيِّين وسط طقوسٍ دموية ينحرون فيها طفلاً، وينقلب الطائر إلى جنىٍّ خادم/ على صبحى، ومن إفادته وتَدخُّل شهرزاد/ ياسمين رئيس، نعرفُ قصّة الكنوز الأربعة «السيف والخاتم والمكحلة ودائرة الفَلَك»، ونتعرَّف على الحكيم شمردل/ رشوان توفيق، وتفاصيل قواه المرصودة، وماهيّة الطلسم الذى انتخب جودر من بين مواليد العالم؛ ليكون المُختار وحامل السر.


الكتابةُ ألمع ما فى التجربة. ولا ينفى ذلك أنَّ تنفيذَها قطعَ شوطًا بعيدًا فى التقنية والتخييل والإجادة، لكنّ طبيعة تلك النوعية من الأعمال تتّصل بطريقة الحكى قبل البحث فى ترجمتها المرئية، والسيناريو أجاد إرخاءَ الخيوط بتَوازٍ واتزان؛ ليُنجِز افتتاحيّةً لامعةً تتحقّقُ فيها براعة الاستهلال، على ما كان يُوصَف الشعراءُ قديمًا إذا أجادوا الصنعة، وأتقنوا ابتداءَ قصائدهم بما يُصيب أغراضَها ويستحوذ على اهتمام مُستمعيها.. وقد بُنِى التمهيدُ على تقاطُع السرد الخَطّى فى ثلاثة مستويات: القصر، والحارة، وصراع شمردل والشمعيِّين، وعبر مَزجها معًا، والتبديل بينها، وتقنيات الاستباق والاسترجاع، يستخلصُ العملُ خليطَه الزمنىَّ وإيقاعَ انتقالاته، ويتقافزُ بخِفّةٍ بين أزمنته الثلاثة: الحاكى فى سياقه الحاضر، والمَحكِى فى مستويين من الماضى.


إتقانُ السيناريو يكتمل بحصافة الحوار؛ إذ هو أحدُ ألمع عناصر العمل، عبر ما يُحقِّقه من تدفُّقٍ سردىٍّ، ونَقلٍ كُفء للأجواء النفسية وتركيبة أبطاله، مع الحفاظ على حَدٍّ من البلاغة المُعبّرة، بإيقاعٍ مشدود وجماليّات مفتوحة على التأويل. ولعلَّ الفضل فيه لخِبرة كاتبه أنور عبد المغيث مع التراث والتيمات الشعبية، ما يسَّر له الحفاظ على قَصٍّ جذّاب مع لُغةٍ مُكثّفة، قادرةٍ على التوصيل إيفاءً لدورها الدرامى، وعلى الإمتاع كأنها نصٌّ أدبىٌّ مُستقل، ومن رُوح الأداء اللغوى تتابعت التفاصيل، بمحافظةٍ دقيقة على الجمالى والدلالى معًا؛ فجاء الديكور مُتدرِّجًا فى طرازاته وألوانه، بما يُناسب فضاءات القصّة، ويُشكِّل سيمفونيّةً بصريةً مُتناغمة، تلعبُ فيها التكوينات والظلال وتأثيرات الإضاءة أدوارًا حيويّة فى تقريب الصور لبعضها، وتعويض بذخ الثراء فى جانبٍ، بالتناسق والمجاميع والنور على جانبٍ آخر؛ فلا يصير القصرُ بفخامته مُتجاوزًا لجماليّات الحارة بتقشُّفها، ولا لإيحاءات العالم الغرائبى الموازى بمساحاته الشاسعة وجَوِّه القاتم ومستوياته التشكيلية المُتراكبة.


موسيقى شادى مُؤنس من نِقاط التميُّز الواضحة، ولعلَّه تفوَّق بوضوحٍ على مُقدّمة عزيز الشافعى فى التتر، ليتبدَّل بهدوءٍ بين الخطوط الدرامية مُتماشيًا مع طابعِ كلٍّ منها، ومُحافظًا على التجانُس والهارمونية بينها جميعًا، مع التنويع على جُملة «شهرزاد» الشهيرة من سيمفونية ريمسكى كورساكوف، واللعب الهادئ بالإيقاع والوتريات وصولاً إلى مزيجٍ حالمٍ وملحمى، فيه من مخمليّة القصر وغُموض السحر وطزاجة الحارة وطُقوسها الشعبية، وكذلك كانت أزياء منى التونسى التى تراوحت بين التعبير والرمز حينًا، والواقعية القريبة للقرون الوسطى أو حقبة المماليك أحيانًا؛ فكانت خليطًا من المُقاربة التاريخية التى يمكن رَدّها إلى مرجعيّةٍ زمنيّة، والتحرُّر الخيالى الذى يدخلُ لعالم الأُسطورة بمنطقٍ وظيفىّ، عَموده جمالُ الصورة وغايتُه العاطفة والتأثير النفسى.


يحقُّ التوقُّف أيضًا أمام مكياج أحمد شوقى، خصوصًا مع شخصيّات الشمعيّين بملامحهم الشاحبة، وتشوُّهات الوُجوه، وأختام العنكبوت عليها بما يشبه الكَىّ بالنار، كما يستعرض التتر تيماتٍ إضافيّةً يظهر فيها الإتقانُ وابتكار حلولٍ بسيطة لتوقيع التخيُّلات الغرائبية دون تزيُّدٍ أو استسهال، وكذلك استعراضات هادى عواضة، وقد حملت المُقدّمة مُقتطفاتٍ من لوحتين تُظهران تناسقًا دقيقًا فى التشكيلات، مع اعتماده على انسيابية الحركة واللعب بالأقمشة والدفوف، صانعًا صورة ثريّة فى الألوان والتكوينات، وفى البهرجة التى تُناسب شخصية شهريار وبيئة القصور، وتُكمِل حالةَ الأسطورة وعالم المُتعة الحِسّية، أمَّا مونتاج رجب العويلى فكان مُوفّقًا للغاية فى الحلقة الأولى؛ إذ أوفى المشاهدَ حقَّها دون إبطاءٍ يكسر الإيقاع، وتنقَّل بينها على وَترٍ مشدودٍ من غير أن يلهثَ أو يبتُر أطرافَ الحكاية ويخنق استرسالَها، والحقيقة أن المونتير من أبطال الصفوف الأولى فى نوعية الفانتازيا، خصوصًا مع تجربةٍ مُركَّبة كألف ليلة وليلة؛ لأنه مسؤول مُباشر عن التوازن بين الحَكى الشَّجىّ والوئيد على طريقة الجدّات، وألّا يرتخى الحبلُ أو يفقد زَخْم الإثارة والتشويق، أى أنه واقعٌ بين التزامه بأن يُمهِل اللقطات لتترُك أثرَها المُشبِع للعين، وأن يضبط التتابع بما يكنس الرتابة من طريق الخيال، وهو مَلولٌ بطبعه ويُطفئه الاعتيادُ والألفة.
نأتى للصورة، وهنا يُطلّ تيمور تيمور برأسه واثقًا، تجربته السابقة «رسالة الإمام» كانت شديدةَ التميُّز والجمال، على مستوى تكوين الصورة وتوزيع الإضاءة واللعب بالظلال، وضمان أن يتدفَّق النورُ طبيعيًّا بما يُحقِّق يُعبِّر ويُمتِع، ولا يفتئِت على الأحداث وزمانها. وفى «جودر» يُكرِّر التجربة مع تحسيناتٍ تُتيحها سحرية الخيال. وقد كان بليغًا ودقيقًا فى خَلق التوازنات بين الكُتل والحركة، وتدرَّج فى إضاءته بما يُناسب القصر والحارة وعالم ما تحت الأرض، مع وَضعِها فى نسيجٍ جامع يُحقِّق التمايُز والانسجامَ معًا، واكتمل الرهانُ بالتلوين وما بعد الإنتاج، فكان الجرافيك ودمجه مُتقنًا، وأضفت المُؤثّرات البصرية أبعادًا جمالية وتعبيرية عزَّزت من قيمة وتأثير ما صنعه مدير التصوير وفريقه. وفى كلِّ ذلك أبدى إسلام خيرى فهمًا عميقًا للتجربة وحدودها، واقترب من الورق بوعىٍ، دون اكتفاءٍ به أو افتتان بالتقنية على حسابه. كان قد حقَّق عملاً شبيهًا بالموسم الماضى، مسلسل جت سليمة، وهنا يبدو مجالُ الحكاية أعرض، وفهمه لها أعمق، وأدواته فى أوج نضجها واكتمالها. وكان إنتاجه السابق سخيًّا للغاية، لكن «جودر» أكثر سخاءً؛ ما ساعده على تلافى مُلاحظاتٍ سابقة على السرد والصورة والألوان والمُؤثّرات؛ لتبدو التجربة الأخيرة فعَّالة أكثر على مستوى القَصّ والرؤية والمُعالجة والإمتاع، وباختصار؛ فإننا إزاء مُخرجٍ بخيال خصب وعين مُثقّفة، صار مُتمرِّسًا فى الاقتراب من جحيم الفانتازيا المُغرى والمرعب، وقادرًا على دخوله والخروج منه بأمان، وعلى تفعيل أدواته بكفاءةٍ وانضباط، فلا تفقد الدراما تماسُكَها، ولا يشتطُّ الإبهارُ فيستحيل تهويمًا وأحاجى خرساء وخارج السياق.


الخلاصة؛ أننا بصدد تجربة درامية مُبشِّرة، لا تفتقر للحكاية المُسليّة ولا لتقنيات التنفيذ المُتقَنة. وكلّ عناصرها تبدو مُتناغمةً ومضبوطة على موجةٍ واحدة.. لو أكمل المُسلسلُ على حالته تلك فسيكون عملاً مثاليًّا فى بنائه وإتقانه ومُتعته، إذ تتحقّقُ فيه الثلاثية النموذجية: دراما مسبوكة بعنايةٍ، وخيال خلّاق وقادر على الاسترسال والإدهاش، وصورة بليغة وأخّاذة فى كلّ تفاصيلها، لا أستبِقُ الأيامَ بالحُكم من حلقةٍ واحدة؛ إنما أقول إننى استمتعت ببداية الرحلة، وأنا أحد المُغرمين بألف ليلة وليلة وأجوائها، وأرى من المُقدِّمات وبراعة الاستهلال أنها تجربة لا تُقصِّر فى التزامها تجاه سحرية الفانتازيا، وتُشمِّر ساعديها لمُنافسةٍ احترافية جادّة، والأهم أنها لا تتعالى على رواسب طفولتنا الباقية، ولا تخون الحنين.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة