تؤكد ماهية المواطنة المصرية على أن الفرد يُشكل نسيج مجتمعه، ومن ثم فهو عضوٌ فاعلٌ فيه، يعي كافة ما يمر به هذا المجتمع، ويدرك شئونه، وله دورٌ فاعلٌ في نهضته وتقدمه ورقيه ونماؤه ويعمل على تحقيق مصالحه، وحماية مقدراته، وأمنه القومي، كما يسارع في المشاركة السياسية، وما يقره الدستور من استحقاقاتٍ بغية استقرار كيان الدولة، وفق ما يتطلبه الصالح العام، ولا ينفصل ذلك عن امتلاكه للقيم المجتمعية النبيلة من ولاءٍ وانتماءٍ وحبٍ للوطن، متمسكًا بعقيدته مدركًا لواجباته ومسئولياته وحقوقه، واثقًا من ذاته وتأثيره الحيوي في الوجود بهذا الوطن العظيم الشامخ.
وفقه الدولة بالشخصية المصرية مكنها من أن تعمل على خلق بيئةٍ عادلةٍ يسودها حريةٌ مسئولةٌ وشعورٌ بالأمن والأمان، وتتبع حيال هذه الغايات الكبرى منهجيةً واضحةً تقوم على التعليم المقصود المدعوم ببرامجٍ بعينها، واستنارةٍ تستكملها مؤسسات الدولة المعنية؛ ليتأصل في النفس ماهية الشراكة الوطنية بغض النظر عن الانتماء السياسي، أو العقدي، أو الاجتماعي؛ فالوطن للجميع دون جدالٍ أو اختلافٍ على هذا الأمر الجامع، بما يلزم بقبول بعضنا البعض عند عرض الرؤى والآراء، أو عند عقد الحوارات الوطنية التي تهتم بالشأن العام، أو عند صياغة استراتيجية الدولة الطموحة، ولا يخفى علينا بأن ذلك يؤدي إلى فرض المسئولية الجماعية التي تحقق أمن البلاد والعباد على السواء.
وما يُسهم في تعظيم هوية الفرد أن يستشعر دوره في المجتمع، وأن يرى غاياتٍ وطنيةً للدولة تجعله يبذل كل ما في وسعه كي يشارك في تحقيقها وفق مراحل الخطة الاستراتيجية، ومن ثم تتفجر إبداعاته وطاقاته؛ لتحدث تغيرًا ملموسًا في مجال تخصصه، وتخرجه من حالة الانعزالية لحالة الجماعية، في صورة التعاون والاعتماد الإيجابي؛ بعيدًا عن فكرة الفردية والشخصنة، وتحقيق الذات على حساب الآخرين، والسعي الدؤوب تجاه المصالح الخاصة بغض النظر عن تبعاتها غير المحمودة على الصالح العام، وهنا لا ندعي مثالية، بل هو ذاك الواقع المعاش الذي نراه في اصطفاف الجميع خلف وطنهم وقيادتهم في مشهدٍ مهيبٍ يخيف العدو ويقهر ويدحر مخططاته المغرضة وغير السوية.
ونتفق جميعاً على أن العالم الافتراضي ساعد على فرض الهوية الرقمية لدى الأجيال الحالية، وهناك من يحاول أن يجعلها مهيمنةً على الهوية الوطنية وتعمل على تآكلها بصورةٍ متدرجةٍ وممنهجةٍ؛ حيث تساعد الفرد على أن يستغرق جُل وقته في جنبات وتفاصيل الثقافات المستوردة؛ لينتقي منها ما يتناسب مع سد احتياجاته وتلبية ميوله وملء فراغه وإفراغ طاقاته وتبنيه لأهداف قد تبدو خياليةً؛ ليبدأ مسيرة التيه التي تخرجه من جلباب هويته الأصيلة راضيًا مرضيًا بزخم وبهرجة الهوية الرقمية، التي تعزز لديه فكرة الانفتاح غير المنضبط والحرية الشخصية التي تعلو حرية الآخرين، والمسئولية عن النفس دون الغير، وقيمة الوطن التي لا تتعدى الحدود الجغرافية بشواهدٍ وأدلةٍ مزيفةٍ.
ويوظف العالم الافتراضي سلاح لغة التأثير على المشاعر لدى مستخدميه، ويعزز ذلك بالعديد من الوسائط الاحترافية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المتجددة التي تصبغ الأكاذيب وتجعلها أقرب للواقع والمنطق، بل وبديلًا للحقيقة التي لا تقبل الشك، ومن ثم تصل بالفرد لقناعاتٍ يقينيةٍ لديه تجعله يدافع عما اكتسبه بكل ضراوةٍ، موظفًا لغة العقل والمنطق التي اكتسابها من طرائق المحاججة والجدال غير الصحي، والتي دومًا ما يؤدي بالفرد إلى الانحراف عن الإيمان بالقيم الأصيلة التي توصف بالنبل في مكونها ومكنونها، وهذا نذير خطرٍ جارفٍ، لا يقف عند حد تهديد المجتمع فقط؛ لكنه سرعان ما يساعد في هدم بنيانه؛ لتحل محله مجتمعاتٌ فاقدةٌ للهوية القومية.
ومما لاشك فيه أن طرائق الحلول لدينا معلومةٌ؛ حيث تبدأ من أسرةٍ تدرك أهمية الهوية الوطنية وتصقلها في أذهان منتسبيها بكل رويةٍ وهدوءٍ؛ إذ تؤصل للولاء والانتماء وحب الوطن والتضحية من أجله، وتضاعف المراقبة تجاه السلوك غير المنضبط لدى أبنائها وتعمل فورًا على تقويمه، وبصورةٍ تدعوهم للتقبل لا للنفور، وتعظم من شأن القيم النبيلة ومنها الصدق والأمانة في القول والعمل؛ حيث السبيل للنجاة، مع كامل التركيز لتعضيد الفكر الصحيح، وتصويب الفكر المنحرف أو الأفكار الشاردة من هنا وهناك؛ بالإضافة للأحاديث والحوارات المفتوحة في كل وقتٍ وحينٍ؛ ليجد الأبناء من يغمرهم بالمحبة والاحتواء؛ فتنمو صحتهم النفسية بصورةٍ سويةٍ بعيدًا عن الأمراض المهلكة والتي تؤدي للاكتئاب أو التطرف بكل أنماطه.
ويتكامل دور المؤسسات التربوية والتعليمية مع ما تؤديه مؤسسات المجتمع الخدمية وغير الخدمية الرسمية منها وغير الرسمية، في صقل الهوية الوطنية لدى الأفراد والأجيال القادمة، من خلال تناول الظواهر والمتغيرات الوافدة علينا، والقضايا في عالم متغير مليءٍ بالتحديات والمتغيرات العالمية، بالدراسة والتحليل والتفنيد والنقد، وإذكاء الوعي القومي بها، وتثقيف الشباب والمجتمع حولها، وإكساب وتنمية مهارات التفكير العليا لديهم، وإيضاح ما تتمتع به هذه المتغيرات الوافدة والقضايا العالمية، من إيجابياتٍ وما يتمخض عنها من سلبياتٍ تواجه المجتمع.
وتحديد المتطلبات اللازمة للموجهة للحد من السلبيات والتغلب عليها وتحويلها لنقاط قوةٍ، ويأتي علي رأس آليات المواجهة تعظيم القيم الدينية والأعراف والتقاليد المجتمعية المحمودة في إطار مناهجها القويمة، للتأكيد في النفوس الانتماء والولاء للوطن والمحافظة علي الهوية القومية المصرية العربية الإسلامية، مع القدرة على التكيف وفهم الثقافات المتعددة واستيعاب الأخر، والتأكيد علي أن حالات الفساد والإفساد والخروج عن النسق القيمي ومخالفة القوانين التي يتعرض لها المجتمع وتصدر من البعض الأفراد، هي وضعٌ استثنائيٌ سيزول أثره بالعلم والمعرفة والتوعية المستمرة، والتمسك بالهوية القومية، ومن ثم نصبح مأثرين وفاعلين ومتفردين.
وهذا يكسب المنعة والفهم والوعي المسؤول والقدرة على التفكير والتحليل، والتي تساعد في تشكيل الوعي الصحيح بالمجتمع، ويستطيع الأفراد من خلاله، بجانب المرجعية الإيجابية التي تتمتع بها الشخصية الوطنية والقومية التي تؤمن بالعقيدة المجتمعية الداعمة لسُبل الخير المعضّدة للسلوك السوي، والتي تسهم في وقاية المجتمع والأجيال المستقبلية من خطر ما يتعرضون له من غزوٍ يوصف بالمجهول وغير مأمون، خاصةً على مستوي الفكر والثقافة والقومية والهوية؛ ولكنه مجتمع متسلحٌ بقوة العقيدة وأصالة الهوية والقومية وثابتهما؛ فلا يتأثرون بتعرضهم لمزيدٍ من الانفتاح علي الثقافات المتعددة، وما يعج به الفضاء الإلكتروني، ويظل الوطن في وجداننا واضح الملامح، وتبقى هويتنا الوطنية القومية وتاريخينا الزاخر، وحضارتنا العربية والإسلامية الأصيلة، التي عُدت منارة العلم والنهضة بالعالم، هي مرجعنا الرئيس، ومصدر عزتنا واعتزازنا وفخرنا.
حفظ الله وطننا الغالي وشعبنا الأصيل الآبي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة