حازم حسين

مهمة البحث عن لاعب سيرك.. طريق فلسطين لعبور الغابة وترويض ذئاب القوة والقانون

الأربعاء، 21 فبراير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
طلبت الجزائر أن يُطرَح مشروعها للتصويت فى مجلس الأمن الثلاثاء؛ فلوَّحت الولايات المتحدة ببطاقتها الحمراء. وما طلبه القرار وقف النار فى غزّة لاعتبارات إنسانية، وإطلاق كل الأسرى ورفض التهجير القسرى، ويُفترَض ألَّا تكون كلها محلَّ خلافٍ أصلاً. لكن السيدة جرينفلد مندوبة واشنطن قالت إن الاقتراح يصطدم بمفاوضات الهُدنة، ويُعطّلها، وقد يضرُّ التهدئةَ بدلَ خدمتها، ثمّ سرَّبت بعثتُها للإعلام معلوماتٍ عن مسوَّدةٍ بديلة، تُشير لتوقّف مُؤقّت فى أقرب فرصة، وتُضيف على سبيل الوصف لا الإدانة أن اجتياح رفح قد يُلحِق مزيد الأذى بالمدنيِّين ويسوقهم لدول مجاورة. والغرضُ أن تُوضَع الورقتان فى تضاد؛ ليكون التفاوض على صيغةٍ وسيطة تُفرِّغ الأولى من مضمونها، وإن أصرَّ الجزائريون فالفيتو فى الانتظار، ولن تكون سابقةً منذ طوفان الأقصى؛ إذ فعلتها مرَّتين فى عدّة أسابيع، وعشرات المرّات على طول الصراع الذى صار جرحًا مُزمنًا، لا لفلسطين وحدها؛ بل لضمير العالم واستقامته الأخلاقية.
 
أُعِيد تكييفُ وضعيّة مجلس الأمن عكس فلسفته. كان المقصود أن يكون رادعًا استباقيًّا عن نشوب النزاعات، وإن تفجّرت بغتةً فإنه الإطفائى الجاهز على وجه السرعة. وما حدث أنه صار خازنًا لنيران الأزمات؛ أقلُّه عندما تتّصل بالغرب مُباشرةً، أو بوكلائه كحال إسرائيل. فقد استُخدِم لتمرير أجندة أمريكا فى أفغانستان بعد 11 سبتمبر، وتعطَّل وأغمض عينيه عندما قرَّر بوش الابن أن يغزو العراق دون غطاءٍ دولى. وفى حرب القطاع اليوم يقف راعيًا للمقتلة؛ إذ بقراره السلبى ألَّا يتصدَّى للجنون الصهيونى، يبدو كما لو أنه يصبُّ الزيتَ على الجمر، وهو المَعنِىِّ الأوَّل بإسكات البنادق وانتشال الأرواح من الجحيم. ربما لهذا طلب رئيس البرازيل النظرَ فى إصلاحه، وأن تبدأ الورشةُ بإسقاط امتيازات دائمى العضوية، وكان من جُملة موقفه أن وَصَم تل أبيب بالنازية، ووقع اشتباك دبلوماسى صعَّدت فيه حكومة الدم بإعلانه شخصًا غير مرغوب فيه؛ فاستدعى الرجل سفيره وطرد مندوب الاحتلال. والمشهد مُرشَّح للتكرار مع عواصم أخرى؛ بأثر اللوثة الصهيونية وفجاجة الانحياز الأنجلوساكسونى، وقد بدأ بدعمٍ كاسح ولم ينته عند تحييد المنظومة الأُمميَّة، ولعلَّ هذا أيضًا من مسؤوليات مجلس انعدام الأمن.
 
العالم كاملاً، باستثناء إسرائيل طبعًا، تنضبط لُغته السياسية على موجةٍ واحدة. ثمّة اتفاق على أن ما يجرى فى غزَّة فاق الحدود، والتلويح باجتياح رفح كارثة، واستمرار الحرب ولو باستبعاد الجنوب لا يقلّ فداحة؛ لكنّ المُقاربة لا تتجاوز سقف البلاغة المشحونة عاطفيًّا. إجماعٌ أن الإناء أوشك على الانفجار؛ ولا أحد يتحرَّك لكَتم الحُمَم الحارقة. وفى عُرفِ الدبلوماسية دائمًا ما يكون المُعلَن أقلّ من المسكوت عنه، فكأنَّ الرسائل الأخلاقية الساخنة تتوخَّى تبريد الشوارع وإبراء الذمة، وكأنَّ الإحجام عن اتخاذ إجراءات عملية يتقصَّد إفساح المجال أمام نتنياهو وعصابته. أمَّا التذرُّع بالتوازنات الدولية أو ضعف الغربيين أمام سرديّة اليهود؛ فإنه لم يعد فعّالاً إزاء محرقةٍ تُبَثّ على الهواء، ويُرادُ طمسُها بأخرى مُستدعاة من التاريخ والفلكلور. على أرضيّة الحلبة مُصارعٌ يلعبُ فوق وزنه، وانتهت الجولة؛ ويصرّ الحُكّام على إدخاله فيما بعدها شرطًا لإنقاذه أو إنهاء النزال غير المُتكافئ. ولأنها أطول مُباراة دمويّة فى التاريخ؛ فإنّ بطش الجانى وهشاشة الضحيّة لم يكونا غائبين عن الأنظار منذ اللكمة الأولى، وما كانت فى الأمر مُفاجأة مهما نُسِب لعملية حماس. بل ربما يصح اليوم أن نتوجَّس من كونها لُعبةً مُرتّبة، لا بين المقاومة وعدوِّها؛ إنما بين العدوّ ورعاته. ولا فارقَ بين الاستدراج المقصود والاستثمار اللاحق. لقد رأوا أجساد الغزِّيين حطبًا جافًا على بارود الغضب؛ فأشعلوا الشرارة وجلسوا يتغزّلون فى الضوء ويشجبون الصهد.
 
فى خصومته مع اليسارى اللاتينى دا سيلفا، لم يُدافع نتنياهو عن أفعاله قدرَ ما استهجن تشبيهه بالفوهرر أدولف هتلر. هذا جوهر الذهنية الصهيونية ولُبّ مشكلتها؛ أنها تأتى أفعال النازيين وتكره أن يُعلَّق الجرس فى رقبتها، وأنها احتلالٌ يتطلَّع لإجبار الجميع على أن يروه بائع ورد، وبهذا الاعتلال تبتلعُ الأرضَ وتُلصِق التهمة بأصحابها. هنا تقفز فى المُخيِّلة عجوزهم جولدا مائير بقولها البائس: يُمكن أن نُسامح العربَ على أى شىء؛ إلَّا أنهم اضطرّونا لقتل أطفالهم، وعلى خُطاها كان أوفير جندلمان مُتحدّث رئيس الحكومة، طالبَ الفصائل بالاعتذار عن دفعهم إسرائيل لإحراق القطاع. فجأة يصير تلاميذ بحر البقر ويتامى المُخيّمات أُضحياتٍ لا صاحبَ لها ولا مُدانين فى ذبحها.. بلدٌ مُلفّق يخرج من صفحات التوراة، يريدُ أن يقتل باسمِ الربّ، وأن يُذعِن له القتلى ويمتدحه الأغيارُ جميعًا، وبالضرورة لا يُؤمن بشراكةٍ فى الجغرافيا أو الحياة؛ إذ الآخرُ أقلّ قيمةً دائمًا، والأرضُ عطيّة إلهية لا تُقسَم على اثنين. تكونُ الأداة عصابةً طالعةً من كيبوتس، أو جيشًا مُتستّرًا برايةِ دولةٍ عصرية، أو خداعًا مُتّصلاً على طاولات التفاوض؛ المهمّ ألّا يرفع القانون صوتَه أو يُظهِر الضمير يقظته، وبعدها سيكون إفساد الأحلام سهلاً وقليل التكلفة.
 
فى البيت الأبيض، كما فى غيره من قصور الحُكم الكبرى، يأتى السياسى حاملاً برنامجًا عموميًّا، وورقةً خاصة فى جيبِ سترته؛ لسرقة زمن ولايته من عُمر فلسطين. كلّ ما يشغل السياسىَّ منهم أن يُمرِّر سنواته فى السلطة دون أن يستثير ذئاب تل أبيب؛ أما لو دهسَ حِملان الضفّة والقطاع فلا مشكلة. قال وزير خارجية بريطانيا إنهم قد يعترفون بدولةٍ فلسطينية، وتبعه آخرون، وسرَّبت واشنطن شيئًا شبيهًا على سبيل مُغازلة العرب أو ترويض الصهاينة. أمَّا حكومة الليكود والتوراتيِّين فرَدّت بإجماعها رفضًا للاعترافات الأحادية، أو ما أسمته الإملاءات الدولية؛ بل طلب وزير ماليّتها البغيض سموتريتش تصويتًا على رفض فكرة الدولة بالإجمال. وبينما تقتلُ فى غزَّة، وتبتزُّ العالم فى الهُدنة، فعَّلت برنامجًا سابقَ التجهيز بأربعة بُؤرٍ استيطانية فى القدس الشرقية؛ لتقليص نسبة العرب لرُبع ما هى عليه، ولئلّا تظل المدينة صالحةً كعاصمة مُستقبليّة للفلسطينيين.
 
صارت الضفّة قطعةَ جُبنٍ سويسرية، تستعصى ثقوبُها على الترميم أو إنجاز صفقة مُبادلات منطقية، والقطاع آلَ لسجنٍ كبير ويتشدَّدون فى الإمساك بسلطته الأمنية بعد الحرب؛ أمَّا تطمينات المجتمع الدولى بلافتة «حلّ الدولتين» فإنها فصلٌ جديد من بلاغةٍ قديمة. ليس لمُعضلة الأرض المُقطَّعة فقط؛ إنما لأنها تُساقُ من مُنطلَقٍ خاطئ. والأصلُ أن تتحقَّق الندّية قبل أن تُوضَع الخريطة بين الشريكين؛ أى يُعاد الصراعُ لنقطة الصفر بين جماعتين، أو يُدفَع للذروة فيصير بين بلدين مُتكافئين. ولأننا إزاء كيانٍ مُهيمن وشعبٍ مُستلَبٍ؛ فإمَّا ترتدّ إسرائيل لقبل التقسيم أو تتقدَّم فلسطين لِمَا بعده. ولأنه يصعبُ أن تُسحَب الشرعيَّة من الدولة القائمة؛ فالأيسر أن يتحقَّق طرفُها المقابل ماديًّا. ولعلَّه لا أملَ فى التسوية دون اعترافٍ دولى يسبق التفاوض، ولو غضب التوراتيّون والقوميّون ودبدبوا بأقدامهم، ثم ينحصرُ الاشتباك فى قضايا الوضع النهائى، لا فى الصفة على ما أرادته تل أبيب ورسَّخته طوال الوقت، وكلُّ التجارب السابقة تُؤكّد أن الذهاب بالأمل وحده؛ سرعان ما ينتهى للرجوع بحصَّالةٍ خاوية وإحباط مُتكرّر.
 
عندما انشقّ شارون عن الليكود أسَّس حزب كاديما، وخلفه بعد غيبوبته إيهود أولمرت لبُرهة؛ ثم ورثت زعامته وزيرة الخارجية تسيبى ليفنى، ورغم إحرازها أكبر كُتلة فى كنيست 2009 رفضت الائتلاف مع نتنياهو، وقرَّرت البقاء مع المعارضة إيمانًا بحلّ الدولتين، حسبما برَّرت. كبُرت السيدة عُمرًا وصغُرت روحًا وإنسانيّة، واليوم تقف على يمين الجميع، ليكوديِّين وتلموديين وجنرالات. قبل أيّام اشتبكت مع رئيس وزراء بلجيكا، ألكسندر دى كرو؛ فاتّهمت منظّمات الإغاثة بدعم الإرهاب، واحتدّ الرجلُ مُتمسِّكًا باستمرار التمويل. حدث ذلك فى ميونيخ، ثالث كُبرى المدن الألمانية وعاصمة بافاريا الحرَّة؛ وصفة الحرية لم تمنع برلين أن تكون صهيونيةً أكثر من كابينت الحرب. وعلى هذا المنوال تُعاد صياغة القِيَم بتحريفٍ شائن: الذين ذاقوا ويلات الفاشية الأوروبية صدَّروا قنابلَها الصدئة للشرق، واليسار اليهودى يسكنُ بيوت الفلسطينيين ويتحدَّث عن العدالة والضمير، والأُمَم المتحدة التى بُنِيت على بركة الدم لأجل أن تسدّ منابعها؛ صار أقصى وِسعها أن تكون حانوتيًّا يُشيِّع قوافل الموتى بالتأسِّى والرثاء المُنمّق.. وبين رصاص الاحتلال وفِخاخ الرُّعاة الدوليين؛ يُحبَس بعضُ القضية فى زنزانةٍ شفافة، ويسقطُ بعضُها مُضرّجًا بدمائه، وكلَّما انتهت مُطاردة تبدأ تاليتُها على ما تبقَّى من طرائد مُنهَكة.
 
يُعلِّق نتنياهو على صدره نيشان المحارب التوراتىّ الكاسر. ما أحرز نصرًا ولا منع هزيمة، بل إنه يتعقَّب «السنوار» اليوم بعدما أخرجه بيده فى صفقة شاليط؛ لكنه يفخر دائمًا بأنه الرجل الذى أحبط التسوية وأوسَد أوسلو التراب. ولأجل إنجاز المهمَّة أضعف السلطةَ، واستثمر فى «حماس» قبل الانقسام وبعده. صحيح أنه انتفع طويلاً برواية غياب الشريك؛ لكنه اليوم بين نارين: التشدُّد فى إفناء الحماسيين لإطالة عُمره السياسى، والحاجة لبديلٍ عنها فى غزَّة كى لا يعود بنصر تكتيكىٍّ وهزيمة استراتيجية، فيما لو بقى القطاع بيئةً سائلة وعصيَّة على الانتظام. والحق أن الفصائل أخفقت فى إدارة تناقضاتها، وقدَّمت لخصمها المجنون هديةً على صحنٍ من الطين والجماجم. لقد سعت مصرُ جاهدةً لترميم البيت، ورعت عشرات الحوارات بمُفردها ومع شركاء، وكان فى نفسِ «عباس» شىءٌ من تمرُّد مشعل وهنيّة، وفى نفسيهما أشياء من غطرسة القوَّة ومطامع الصعود على أطلال الفتحاوى العجوز. وبحلول نهاية فبراير يُنتظَر أن يلتقى الجميع فى موسكو لثلاثة أيام، بدعوةٍ من معهد الاستشراق لأكاديمية العلوم الروسية. اللقاء غير رسمى، لكنه الأول منذ الطوفان، وعلى أجندته مسألةُ تكوين حكومة فنيّة غير مؤدلجة، وبحث انخراط حماس والجهاد فى مُنظمة التحرير. والظرف يقتضى أن ينزل أهلُ السلاح عن الشجرة، ويلتحقوا بالسلطة على برنامجها الوطنى والتزاماتها القانونية. ليس بإمكان المقاومة أن تُدير المرحلةَ بعدما وُصِمت بالتوحُّش وصارت هدفًا للتصويب، ولا يتيسَّر لنخبة رام الله أن يتصدّروا المشهد الجديد دون إجماعٍ عام. فالمصلحةُ مُتبادَلة وتُوجِب إغلاق الصدور على ما فيها من تشاحُنٍ وبغضاء؛ إذ يحتاج المُقاتلون غطاءً شرعيًّا يُخرجهم من الخندق، ويحتاج السياسيون بيئةً لا تتمدَّد فيها الفُرقة والمُزايدات الزاعقة؛ وإلَّا فالمنحازون لن يحتاجوا لتبرير انحيازهم، وسيكون طبيعيًّا أن تنحسر موجةُ المُراجعة وتمحيص المُمارسات.
 
آخرَ الأسبوع الماضى نظرت محكمة العدل مذكرةً إضافية من جنوب أفريقيا، أُلحِقَت على دعواها بشأن الإبادة الجماعية، وطلبت إجراءً إضافيًّا إزاء التهديد باجتياح رفح. قال القضاةُ إنه لا حاجةَ لتدبير جديد، انطلاقًا من أن التدابير الستة المُقرَّرة فى 26 يناير تشمل القطاع كاملاً، من شماله لجنوبه. لكنّ قطاعًا من إعلام الغرب المُلوَّن كيَّفَ المنطوق تكييفًا مُضلِّلاً؛ فادعى أن المحكمة رفضت مذكرة بريتوريا. لم تعد خريطة الاصطفاف غامضةً؛ إنما المنطق أن السلام يُصنَع بالأساس مع الأعداء. وإذا كان بعض الغربيين وضعوا أنفسهم موضعَ العداوة؛ فقد صاروا بالضرورة طرفًا صالحًا لاختبار التقارب؛ طالما يعزّ تفعيله مع إسرائيل مُباشرةً فى الراهن. والشرط أن يرتقَ الفلسطينيون ثقوبَهم، وألَّا يُفتَنون بثنائية الأبيض والأسود: براديكالية عقائدية أو هوى شخصى. آفةُ القادمين ممَّا وراء البحار أنهم يرون المنطقة سبيكةً واحدة؛ وبالمثل يُغرِق بعضنا فى التنميط أحيانًا، بينما يصحُّ الرهان على اللون الرمادى؛ لعلّه يكسر أمثولة الشياطين والملائكة.
 
تطبخُ إسرائيل طبقًا مسمومًا، على نار التنازُع ورغبة كلِّ تيَّار أن يأكل مُنفردًا. تُبيد غزَّة، وتُصعِّد فى الضفَّة، وإن تعذَّر التهجير ماديًّا تُفتّش عن بديلٍ معنوى بذات الأثر. لهذا تختصم «أونروا» لاستكمال غرضها فى تجريف الحياة، ولأنها الجهةُ المعنية باللاجئين وحقّ العودة، وحال تصفيتها سيتبخَّر أصلٌ ثمين من أصول القضية. والغرب الذى يدعمها ضد حماس؛ فإنه يتصدَّى لها دعمًا للوكالة. الوئام الكامل ضار كالخصام المطلق، والوسط بين الضررين أن تحتفظ فلسطين بعقلها وعضلاتها، وتُعزِّزهما بمهارة لاعب السيرك. الخطابُ الواحد حارق كما يحرقُ الصمت المُطبق، والحيلةُ أوَّلها الضعف الظاهر والقوَّة المُضمَرة، وإتقان التقافز على الأحبال دون صدامٍ أو سقوط. لو كانت العُقدة بين النهر والبحر، فالحلّ وراء البحار والمحيطات كلِّها، والذين نخاطبهم هناك أقرب إلى العدوِّ روحًا وثقافة، وبعضهم ينتدبه مُمثّلاً حضاريًّا عنه، وآخرون يتّخذونه قاعدةً مُتقدّمة، والبقيَّة يُسدِّدون ديونًا عن مظلمةٍ قديمة أو يسدّون ثغرة الهجرة العكسية. ما أصعب أن تُحاول الفوزَ بأوراق القوَّة فى فريق الخصم؛ لكنه لا بديل عن التجربة والخطأ واستمرار المحاولات، دون يأسٍ أو ملل.
 
على العالم أن يكون جادًّا ويصدم إسرائيل بدلَ مُناشدتها، وعلى الفلسطينيين أن يُشجّعوه على مُغادرة مُربّع الاعتياد الآمن؛ بكل ما فيهم من آمال وجروح وصراعات.. يسهُل الركون إلى المظلمةِ العادلة، ولا ملامةَ على من يملأ فمَه ببكائيّةٍ رسّختها السوابقُ: إنهم مُنحازون وكذَّابون وشهود زور؛ لكنّ المعارك الوجودية لا تعرف الخصام، وتُفضّل المناورةَ على القطيعة، وتمتحنُ بأس المحاربين بالليونة لا الغلظة؛ حتى لَيَفوز الأقدرُ على مُراقصة العاصفة وتعقُّب الضوء ولو من ثُقب إبرة.. بقدر ما فى المحنة من انكسارات؛ فإنها فرصةٌ استثنائية لوَضع العربة على مضمارٍ جديد. استنزف الانحيازُ مداه، وقدَّم الفلسطينيون قرابينَهم كاملةً، وكلُّ تنازلٍ من الفصائل للشرعية، ثمّ للضامنين والميّالين لهم عاطفيًّا؛ سيُجنَى مُستقبلاً داخل البيت وعلى رقعة الصراع. كلُّ الدعم فعّال وذو أثرٍ مهما بدا خافتًا، والذين يُلقون السلام على شجر الزيتون مُخلصون كالذين يُضمّدون الجراح ويجلبون الطعام، ومَن يرفعون عَلَم فلسطين أو يُذخِّرون سلاحَها برصاصٍ نظيف. ثلاثةٌ فقط يرقصون على الأطلال والجُثث: إسرائيل، والجالسون معها فى قُمرة الدبابة، والذين يُغذّون الانقسام ويُستثمرون فيه، ويُفاوضون بالقضية لفائدة رجعيّةٍ هنا أو مذهبيّةٍ هناك، وفى الأُصوليّات الجارحةِ لا فارقَ بين عمامة الفقيه وقلنسوة الحاخام.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة