حازم حسين

أحلام بنيامينية تحققها حماس.. رسالة ترامب عن الأسرى بين عشاء سارة ونداء عيدان

الأربعاء، 04 ديسمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

جاءت الرسالةُ مُفاجئةً تمامًا فى اللغة والتوقيت. الرئيسُ الأمريكىُّ المُنتَخَب يُهدِّدُ بأثمانٍ باهظة فى الشرق الأوسط، بعدما أرسى خطابَه السياسىَّ ودعائمَ حَملَتِه الانتخابيَّة لولاية ثانية، على مَوعدةِ إنهاء الحروب الدائرة، والكَفِّ عن توريط الولايات المتحدة فى نزاعات الآخرين، والنيابة عنهم فى سداد تكاليفها المُرهِقَة.
وما دَعَاه للانقلاب السريع على نفسِه، شىءٌ من سُوء التقدير وخطأ الحسابات، ارتكبَتْه «حماس» من دون قَصدٍ، أو بمُراهنةٍ خفيفةٍ وطائشةٍ على استجابةٍ مُغايرة؛ فاصطدمت بأنها أصابَتْ لديه معنىً غير المقصود، وتلقَّت منه جوابًا غير ما كانت تتوقَّعه أو تتمنَّاه تمامًا.


مُلَخَّصُ المَوقف، أنَّ الرجلَ كتبَ منشورًا على منصَّته الرقميَّة الخاصة «تروث سوشيال»، يُحذِّرُ فيه من مغبَّة احتجاز الأسرى الإسرائيليين فى قطاع غزَّة، وأنه لا يستبعدُ الاشتباكَ الخَشِنَ من باقةِ خياراته، وينهى حديثَه عالى النبرة بتوجيهٍ على صيغة الأمر: «أَطْلِقوا سراحَ الرهائن».


وبقَدرِ ما يُتَرجِم موقفُه سلوكًا لا ينقطعُ عن مسار إدارته الأُولى، واتِّجاهًا للمُداومة على الانحياز الذى مارسه جو بايدن وفريقُه طوالَ الشهور الماضية؛ فإنَّه ربَّما يكشفُ أيضًا عن نجاح حكومة الليكود فى تمرير سرديَّتها للحليف الجمهورى، وعن إخفاق الفصائل الغَزِّية فى امتصاص أثر الدعايات المُوجَّهة، وإحكام رُوايتها، وتسويقها بما يُحقِّقُ الإقناعَ، أو يُؤمِّنُ التحييدَ على الأقل.


والارتباكُ المقصودُ هُنا، ما حدثَ على مرحلتين فى غضون يومين: الأوَّل عندما بثَّت «حماس» مقطعًا مُصوَّرًا لأسيرٍ يحملُ الجنسيَّة الأمريكية، اسمه عيدان ألكسندر، يُطالب نتنياهو بإرخاء قبضة التشدُّد بشأن الهُدنة وصفقة المُبادَلة؛ لكنَّ الجديد أنه يُناشِدُ «ترامب» نفسَه أن يتدخَّل لحلحلة الوّضع، واستعادته ورفاقه من أنفاق القطاع.


ولاحقًا، أعلنت الحركةُ عن مقتل ثلاثةٍ وثلاثين من جُملة الأسرى، جرَّاء عدوان الاحتلال وعمليَّاته الحربية المفتوحة منذ خريف العام الماضى، وبينهما كانت زوجةُ زعيم الليكود على طاولة العشاء مع الرئيس المُنتَخَب، ويبدو أنَّ لها تأثيرًا معنويًّا عليه بدرجةٍ ما؛ فأجَّجَتْ فى صدره عاطفةَ الإشفاق والتوحُّد مع الدولة العِبريَّة، بينما تكفَّلتْ كمَّاشةُ الدعاية الحماسيَّة الهوجاء، قبل المُقابلة وبعدها، بتوفير الدافعيَّة وإنجاز الأثر النفسىِّ المطلوب.


كان «الطوفان» مُجازفةً كاملةً من السنوار؛ لكنَّ أخطرَ ما فيه أنه عزَّز موقفَ نتنياهو المُتراجِع فى بيئتِه وقتَها، وبدا أنه يُقدِّمُ مُعالجةً عشوائيَّة فى الزمان والمكان؛ حتى لو توافرَ لها المُسوِّغُ الشرعىُّ، من مُنطَلَق المظلوميَّة والحقِّ الدائم فى النضال.


والمُؤسِفُ أكثر؛ أنه أُدِيْرَ تاليًا بالخفَّة ذاتِها، أكان فى التباهى بالهجوم وتوثيقه بصريًّا، والتطوُّع الساذج بتوفير الحجَّة المرئيَّة على سُلوك بعض مُقاتلى القسَّام، أم بتهديد مُتحدِّثهم المُلثَّم «أبوعبيدة» بقَتل مُحتَجَزٍ عن كلِّ مجزرةٍ أو عملية قصف.


ومِن وَقتِها؛ تجلّت أزمةُ القيادة الميدانيَّة فى القطاع، ومحورُها أنها لا تُجيدُ إدارة معارك السلاح أو الدعاية، ولا تُحسِنُ اتِّخاذَ الإجراء الصائب فى المَوعد السليم، كما تُخطئُ فى لُغَة الرسائل ومراميها، أضعاف خطاياها فى المُمارسة اليوميَّة.


والمُحرِّكُ لهذا أنها تضعُ عَينيها على بيئتها المحليَّة، وتُخاطِبُ جمهورَها بدلاً من مُخاطبة العالم، وغايتُها لا تذهبُ للضغط وتحسين شروط التفاوض، بقدر ما تتقصَّدُ التعبئةَ والتوجيه، وتثبيتَ القُلوب المُوالية لها بالأساس.


حاصرَ «ترامب» خُصومَه الديمقراطيِّين عندما كان مُرشَّحًا؛ لكنَّه حُوصِرَ منهم ومِن غيرِهم بعدما صار رئيسًا، وقبل أنْ يَعبُرَ عتبةَ البيت الأبيض ويُمسِكَ بزمام القرار. لم يَبْدُ أنَّ صديقَه «بوتين» يتعاطى إيجابيًّا مع أُطروحته بشأن الحرب الروسية، وقد عقَّدَ له «بايدن» المهمَّة بسَماحِه لأوكرانيا أنْ تستخدِمَ الصواريخَ التكتيكيَّة الغربيَّة بعيدةَ المَدَى وراء الحدود.


وبينما تقبَّل على مَضضٍ، ولحاجةٍ سياسيَّةٍ واستهلاليَّةٍ لولايته، أنْ يدعمَ سَلفَه العجوزَ فى إنجاز صفقة لبنان؛ فإنَّ اشتعال الجبهة السورية يُلقِى عليه مزيدًا من الأعباء، ويُقلِّصُ حظوظَ نجاحه فى ترتيب أوضاع المنطقة على وجه الاستعجال.


لن يكون بمَقدورِه سَحبُ قوَّاته من شرقىِّ الفُرات ليترُكَ الأكرادَ وحدَهم فى عين العاصفة، كما لا يُحبُّ أن يَسقُطَ «الأسد» الآن، ولا أن تتغوَّل إيران ببقائه وتوسيع سيطرته. والعراق مُتداخِلٌ فى الحسابات، وأوراسيا مَشبوكةٌ مع الشام فى ضفيرةٍ واحدة. ومن مجموع التناقُضات الصارخة؛ لم يَكُن لصالح «حماس» أن تدخُلَ على خطِّه الساخن الآن.


النزعةُ الانعزاليَّةُ لدى الرئيس الجمهورىِّ لا تنطلقُ من انسحاقيّة تتسلَّط عليه، ولا من تَصوُّرٍ محدودٍ لمَوقعِ بلاده فى النظام الدولىِّ. بمعنى؛ أنه لا يرتدُّ إلى حدوده؛ إلَّا ليُعظِّمَ من فاعليَّة الامبراطورية، بحسب رؤيتِه.


وبهذا؛ فانصرافُه عن القضايا الساخنة، أو إبداءُ رغبتِه الافتتاحيَّة فى ألَّا يكون مُحفِّزًا لتأجيج غيرها، وتركيزه على موضوعات الداخل، تظلُّ كلُّها محكومةً بإدامة الهيمنة الأمريكية، وبأنْ يتقدَّم البلدُ على مُنافسِيه جميعًا، أو يتصدَّر بعضَ الملفَّات والساحات دون مُنافسةٍ من الأساس، وهكذا يُفهَمُ شعارُه عن «جَعْل أمريكا عظيمةً مُجدَّدًا» على أنه طَلبٌ للقوَّة الكاملة، وليس تعبيرًا عن ضَعفٍ كامن فى نفسِه، ولا تعهُّدا مُبرَمًا لا يقبلُ النقضَ بالانسحاب النهائىِّ، وبعدم التصدِّى للالتزامات الضرورية والامتحانات الواجِبَة.


ربما فَهِمَتْ الجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ شيئًا مُغايرًا، أو انساقَتْ وراء دعايات الليبراليين عن انكسار الزمن الأمريكىِّ؛ فسارَتْ فى المُغامرة المفتوحة من جنوب لبنان، وعبر مُناوشاتِها المُتقطِّعة مع إسرائيل؛ على أمل أن تُطَوِّع بايدن، أو تستفيدَ بجاهزيّة ترامب لإبرام الصفقات بروحيّة رجال الأعمال.


وما حدث لاحقًا؛ أنه قدَّم رسائلَ الترغيب مَمزوجةً بالترهيب، وبدا فى تشكيله لأركان إدارته أكثرَ مَيلاً للصراع من الوِفاق، وأنه يتَّخذ مَنحىً يَمينيًّا صاخبًا، وعندها ارتدَّت طهران على عَقِبَيْها، وسَعَتْ للنزول عن شجرتها العالية؛ فاستعاضت عن الصبر الاستراتيجى، بالتراجُع التكتيكىِّ.


تقبَّلتْ إنقاذَ حزب الله بصفقةٍ لها نكهةُ الاستسلام، وبادرَتْ للتفاوضِ مع الترويكا الأوروبية، ووصلَتْ فى الغَزَل إلى الحديث عن الأُخوّة مع الأمريكيِّين، وعن الدور التاريخىِّ للدولة الفارسية فى إنقاذ اليهود، وأنها جاهزةٌ للتفاوض على كلِّ شىء تقريبًا؛ ولو كان أثمنَ أُصولِها، أى البرنامج النووىِّ وأذرُع الشيعيَّة المُسلَّحة.


الحماسيِّون تأخَّروا فى الفَهْم غالبًا، أو قرأوا المُقدِّمات على غير حقيقتِها؛ فاستخلصوا منها نتائجَ مُضلِّلةً تمامًا. والحال؛ أنَّهم عندما أخرَجوا جُنديًّا صهيونيًّا من ذَوِى الجنسيَّة الأمريكية، كانوا يتقصَّدون استمالةَ الرئيس الجديد عاطفيًّا، وتعزيز ميولِه المُصرَّح بها سابقًا إلى التهدئة.


فى المُقابل، أرسل نتنياهو زوجتَه «سارة» لمُقابلَة الحليف المُنتَظَر، والآتى على رغبةٍ واشتياقٍ عَميقَين، وبالتزامُن كان وزيرُه للشؤون الاستراتيجية وأقربُ مُستشاريه، رون ديرمر، يعقدُ لقاءً ثانيًا معه خلال أقل من ثلاثة أسابيع.


ويبدو أنهما نجحا فى تحريف رؤية ترامب، أو أقنعوه بما لم يَكُن على لائحة اهتماماته، ثمَّ أنجزَتْ الحركةُ، برعونةٍ أو عَشمٍ زائف، مهمَّةَ الإسناد الدعائىِّ لهما؛ بتصريحها شديدِ السذاجة عن عدد القَتلى الساقطين من محفظة الرهائن.


كان الخلافُ فى كلِّ مُداولات الهُدَن السابقة، أنَّ تلَّ أبيب تطلبُ بياناتٍ إحصائيَّةً دقيقةً عن الأحياء والأموات من أسراها، و«السنوار» ورجالُه يرفضون إمدادَها بالتفاصيل؛ انطلاقًا من أنها جزءٌ مُتَمَّمٌ للصفقة، ومعلوماتٌ لا يَصِحُّ أنْ تُهدَى مجَّانًا ومن دون مُقابل.


حافظَ لها مَوقفُها المبدئىُّ على ستارٍ من الغموض، وأبقَى ورقتَها التفاوضيَّةَ الوحيدة سليمةً كما كانت منذ اليوم الأوَّل، مع قُدرةٍ مُتجدِّدة على إحراج الحكومة اليمينيَّة المُتطرِّفة فى بيئتها، والضغط عليها بحاضنتِها الشعبية، وتحييد أيّة دَعَاوى انتقاميّةٍ تتأسَّسُ على دعايات العجز عن حماية الرهائن، أو اتِّخاذهم دروعًا بشرية للقيادات والمُقاتلين.


وإذ يَقضِى المنطقُ بأنَّ ما تبقَّى فى حَوزَتها أقلُّ كثيرًا مِمَّا كان؛ فلا مُبرِّرَ على الإطلاق لرجوع الحركة عن ثابتِها القديم، ولا لأن تُفصِحَ عن سِرِّها الأَقْيَم، بكلِّ ما يترتَّب على ذلك من تداعياتٍ؛ أقلّها إنهاء حيرة العدوّ.


الصحافةُ الأمريكيَّةُ والإسرائيلية أفاضَتْ خلالَ الفترة الماضية فى الحديث عن المسألة، لا من ناحية «حماس» وسُلوكها؛ إنما ما تعرَّضَ له ترامب من خديعةٍ، مارسَها عليه نتنياهو شخصيًّا، واستمرأ تكرارها من خلال أركان حكومتِه أيضًا.


والفكرةُ؛ أنهم حاولوا تقليصَ الضغوط الواقعةِ عليهم من الناحية الإنسانية؛ فأخبروه أنَّ أكثرَ من نصفِ الأسرى الباقين فى القطاع قد قُتِلوا بالفعل، وبدا بعدها أنه ربما تصالحَ مع واقع خَوض المُواجهة لآخرها، وإرخاء الحَبْل لجيش الاحتلال أنْ يستكمِلَ أجندتَه الحارقة، كما يتصوَّرُها قائدُه السياسىُّ.


ومع استيعابِ أنَّ الحماسيِّين ربما تَقصَّدوا من التصريح تبيانَ الحقائق الغامضة، ووَصْمَ الإدارة الصهيونيَّة بالكذب والتضليل؛ فإنهم عَمَّقوا أثرَ الضغوط المَعنويَّة على الرئيس الجديد، خصوصًا مع استباقِها بفيديو المُجنَّد المُتحدِّث إليه رأسًا؛ فكأنهم كانوا يُذكّرونه بأنَّ السكاكينَ على الرقاب، والهامشَ ضَيِّقٌ، والغنيمةَ أكبرُ مِمَّا كان مُتوقَّعًا، بجانب وَضعِه فى حالٍ شبيهةٍ بصرخة «وامعتصماه» الشهيرة فى مأثورِ الحكايات العربية.


لم تُوضَّحُ الحركةُ خفايا الأرقام ومراميها. قالت إنَّ القَتلى بلغوا 33 فردًا، ولم تُشِر إلى ما إذا كانت تقصدُ عدَّاد الضحايا من أوَّل الطوفان، أم فيما بعد الهُدنة الوحيدة أواخر نوفمبر قبل الماضى، أو مع اشتداد التصعيد منذ اجتياح رفح. والمُراد؛ هل كانت تُنَسِّبُ الحَصرَ إلى جُملة 250 أسيرًا عادت بهم من غلاف غزّة، أم إلى نحو 101 يتبقّون فى حَوزَتِها، وهل تضمُّ إليهم نحو عَشر جُثثٍ أو يزيد استعادَها الاحتلال، أم تُقرُّ بأنها لا تعرفُ شيئًا إلَّا عن 68 رهينةً فقط؟!


والسؤالُ الأهمُّ هُنا، عن الوَهْم الذى غَذَّى لدى الحماسيِّين فكرةَ أن يُخاطِبوا ترامب، أو يَسعوا إلى «عَضّ إصبَعِه». وإذا كان مَقطوعًا بأنَّ المَقاطِعَ المُصوَّرة تُنتَجُ تحت إشرافٍ كاملٍ من جهاز الحركة الدعائىِّ، ويُمْلَى على الأَسْرى ما يَقولونه بالتفصيل؛ فإنَّ الذهابَ لافتتاح الرقصة مع الرئيس الجديد، لا ينطلقُ من رؤيةٍ عقلانية ناضجة، ويَفترِضُ فى الرَّجُلِ ما لم يُعْهَد مِنه على الإطلاق.


إنه مُنحازٌ لإسرائيل حتى النخاع، وربما بأكثر من انحياز «بايدن» الذى يَعتبِرُ نفسَه صهيونيًّا مُخلِصًا. والحركةُ مُصنَّفةٌ على لائحة الإرهاب لدى الولايات المُتَّحدة، وإن كانت الإدارةُ المُقبلة ستسعى للتهدئة كما سَعَتْ سابقتُها؛ فلا هدفَ إلَّا تحرير الرهائن، وتحييد المخاطر المُحيقة بالدولة العِبريّة، وليس الاعتراف بالفصائل وأجندتها ورُعاتها، ولا حتى بالحقوق الفلسطينية العادلة، حتى لحظةِ الفيديو؛ ربما لم يَكُن «ترامب» يعتبرُ نفسَه طَرفًا فى المحرقة الغَزيَّة، ولا بقيَّة الارتدادات الناشئة عنها على امتداد الإقليم. مَنحَ مُوافقتَه الضمنيّة لمبعوث بايدن إلى لبنان، واستعجلَ نتنياهو فى إنهاء عملِه بالقطاع قبل وفادتِه على المكتب البيضاوى، وبدا مشغولاً بالدرجة الأكبر بأنْ يتسلَّم المنطقةَ باردةً تمامًا، أو على وَشْك البرود.


ولعلَّه كان يُخطِّطُ لأنْ يَصرِفَ جُهودَه المُبكِّرةَ لاستدراك ما عقَّده الديمقراطيون مع روسيا، ثمَّ للخصومة التجارية المُرتَقَبة مع الصين، وقبل كلِّ هذا أنْ يخوضَ صراعَه مع الدولة العميقة، ويُفعِّلَ تصوُّره الخاص عن الأجهزة الفيدرالية، وما يحتاجُه من إجراءاتٍ لتصفية الحسابات العالقة، وتمكين «الترامبيَّة» من المُؤسَّسات التنفيذية، وصولاً لتثبيت شيفرتها البرمجيَّة فى عقل الدولة ودواخل منظومة الحُكم.


وعلى ما فات؛ استُدعِىَ الرئيسُ لمهمَّةٍ «شرق أوسطيَّة» قبل أن يتجَّهز لمراسم التنصيب. ولا مُبالغةَ لو قُلنا إنَّ «حماس» حقَّقت لنتنياهو واحدةً من أغلى أمانيه؛ إذ كان يتطلَّعُ جاهدًا لإقناع صديقِه التاجر بأنْ يدعمَ برنامجَه الساعى لتصفية القطاع، أكان بالوجود أم بالأثر والرمزيَّة على الأقل، وأن يُلاقِيه على رؤية التصعيد باتجاه إيران، واستكمال تطويق الشيعية المُسلَّحة من الأطراف إلى المركز. وبينما تبدَّى أنه عاجزٌ عن استمالته بمنطق الربح والخسارة؛ فقد أعانته الحركةُ على إنجاز المهمَّة.


لم يتداخَلْ الرجلُ حادُّ الطِّباع من نقطةٍ تتقاطع مع جهود واشنطن الراهنة؛ إذ لم يتحدَّث عن الهُدنة، ولا مَرَّر مَقصودَه عبر الدعوة إلى تنشيط التفاوض، وإزالة العقبات السالبة على طريق الصفقة. قال بوضوحٍ إنَّه يطلبُ الأسرى، وليس التهدئة، وبينما حذَّر المَسؤولين عنهم من ضرباتٍ ستكون الأشرسَ فى تاريخ بلاده، بحسب تعبيره، هدَّد بأنَّ الجحيمَ سيَنفَتِحُ على الشرق الأوسط، وستُدفَعُ فيه أثمانٌ باهظةُ. وهكذا تسقطُ كَفُّ التحذير فى حِجر حماس؛ لكنها تُشيرُ بأغلب أصابعِها إلى أطرافٍ أُخرى.


وإذا كان الأسرى فى قبضة الحركة؛ فإنَّ القرارَ ليس من رأسِها حَصرًا. هذا ما يَقصدُه بمُخاطبة الآسرين مُباشرةً، وبتوسعة مدى الاستهداف ليشملَ الإقليمَ بتوصيفٍ عُمومىٍّ.. وهو إن كان يعرفُ أنَّ المفتاح فى طهران؛ فلا يتغافَلُ عن التأثير المعنوىِّ لبعض العواصم الإقليمية وثيقة الصِّلة بالأُصوليَّة على الفصائل، ويتركُ الجميعَ ليَضربوا أخماسًا فى أسداس، ويتبادَلوا الاتِّهامات، وليَنظُرَ كلٌّ منهم فى مِرآتِه؛ فيَأسَى ويَرتَبِك، ويُمارس ما وَسِعَه من ضغوط.


وعلى الجانب الآخر؛ فإنَّ صيغةَ الوعيد أخرجَتْ زعيمَ الليكود وائتلافَه المُتطرِّفَ من زُمرة المَقصودين، ولم يَعُدْ عليه أن يتقهقرَ عن مَواقفِه المُتصلِّبة، ولا أن يُقدِّم تنازُلاتٍ تآكلَتْ أصلاً عمَّا كانت عليه قبل شهور.


والمعنى؛ أنَّ استنفارَ «ترامب» صَبَّ عَمليًّا فى مصلحة نتنياهو، وقد يُشجِّعه على مزيدٍ من التعنُّت وتشديد الشروط، وعلى استكمال خطَّته بشأن الهيمنة على حاضر القطاع ومُستقبله، وهو يَعرفُ أنَّ «محطة 20 يناير» لم تَعُد حدًّا فاصلاً بالنسبة له بين الحرب والتهدئة؛ بقدر ما صارت قيدًا غليظًا على خُصومِه فى الميدان، وفى السياسة أيضًا.


كأنَّ «حماس» قَلَبَتْ الساعةَ الرمليّة، وتبقَّتْ لها سبعةُ أسابيع تحت النار؛ لا على وَعد التبريد وتحسين الأوضاع بعدَها، إنما انتظارًا لمزيدٍ من النوازل والضربات الثقيلة. والخيارُ اليومَ بين أنْ ترتدَّ إلى ما كانت ترفضُه، أو تُواصِلَ التمسُّك بغاياتها المُضمَرة، وتُغامر بالوقوع بين أنيابِ نُسخةٍ أشدّ شراسةً من العدوان، أو بالصدام رأسًا مع الامبراطورية الراعية، عندما تنقلبُ من وسيطٍ أو ضامنٍ، إلى عدوٍّ على التصريح، وليس من وراء ستارٍ كما كانت فى السابق.
ضاقَتْ الخياراتُ تمامًا على الحركة؛ إذ من ناحيةٍ أَوصَلَها حُلفاءُ المُمانَعة إلى الميدان وغادروا، وقد نَفَضُوا أياديهم منها تمامًا، ولا أملَ لديها الآن فى إعادة وَصلِ الساحات المُنقطعة عن بعضِها. يُضافُ لهذا ما قد تُمارِسُه عليها طهران من ضغوطٍ؛ لتتجنَّب أثرَ التسخين الذى يُطِلُّ برأسِه من ثنايا تهديد ترامب.


لن يَعودَ الأصدقاءُ الآخرون مُرَحِّبِين بالارتباط بالأجندة الحماسيّة، ولا بإبداء أىِّ تعاطُفٍ معها. سيتقلَّصُ حضورُها فى البيئات البديلة، وسيكونُ هو نفسُه طَوقًا جديدًا فى عُنقِها.. وبهذا؛ لم يَعُد التشدُّدُ اصطفافًا مع الشيعيَّة المُسلَّحة، أو بقايا الطَّيْف الإخوانىِّ فى المنطقة، مُقابلَ التمرُّد على دُوَل الاعتدال وخطابِها، بل سيصيرُ أقربَ إلى انشقاقٍ عن كلِّ الأطراف، وإلى حربٍ عليهم جميعًا، وخروجٍ عن مظلَّات حمايتهم أيضًا.


الحسبةُ العثمانيَّة والفارسية مُعقَّدةٌ فى سوريا، ولن تُحَمَّلَ نفسَها أعباءَ مَزيدٍ من التعقيدات من جهة فلسطين. حزبُ الله مُنكَسِرٌ ويبتلعُ الإهانات يومًا بعد آخر، وسيبتلعُ أضعافَها مهما كانت مُرَّةً وقاسِيَة. والقطاعُ مُختَنِقٌ بنَكبَتِه واحتياجاته، ولا سبيلَ لإنقاذه إلَّا أنْ تتجرَّع الحركةُ «كأسَ السُّمّ»، أكان بالرضوخ الكامل للاحتلال، أم بالتنازُل للسلطة الوطنية؛ وكلاهما معناه مُغادرة المشهد لمَدىً زمنىٍّ طويل، وربما من دون فُرَصٍ وثيقةٍ للرجوع.


ستنشَطُ المُقارباتُ ووُرَشُ العمل؛ لإقناع الحماسيِّين بالنزول عن الشجرة، وسيتشدَّد نتنياهو بأكثر مِمَّا كان. الصفقةُ صعبةٌ للغاية على مقياس الفصائل ورُعاتها؛ لكنها مطلوبةٌ، بل تكاد أنْ تكون اضطراريَّةً. وبإيجازٍ؛ خسرَ القطاعُ فى الطوفان، وخَسِرَ من إدارة حماس لتداعياته، ويخسران معًا اليومَ من مُبادَلةٍ إجبارية ستُقوِّضُ التنظيمَ، ولن تكون فى صالح البشر والحجر.


إنها الخِفَّةُ مُجدَّدًا، وشَعبويَّةُ التعاطى مع المسائل الجادَّة، واتخاذ القرارات الوجودية بنزعةٍ فرديَّة، وعلى مقاييس تنظيمية وأيديولوجية جامدة.. خطأُ الحساب، وخطأُ التقدير، وخطيئةُ المُكابرة فى زمن القوَّة وأزمنةِ الضعف على السَّواء. الحركةُ ضعيفةٌ فى الميدان قياسًا على عدوِّها؛ لكنها أضعفُ فى الدعاية، وآلتُها الإعلاميَّةُ أسوأُ أعدائِها على الإطلاق.


وإذا كانت الصهيونيَّةُ أنزَلَتْ بالفلسطينيين ما يفوقُ نَكبتَهم الأُولى؛ فإنَّ الوحشَ الأمريكىَّ قد يَختِمُ على المأساة بما يفوقُ أسوأ الخيالات والمخاوف، وقد تتَّصل مسألةُ الحرب والأسرى، بتسريع برنامجٍ سياسىٍّ يُعزِّزُ هيمنةَ الاحتلال، ويُقوِّض السُّلطةَ وما تبقَّى من شرعيَّة أوسلو، ويبتلعُ الأرض بعدما ملأها بأشلاءِ سَاكنِيها.
لعبةٌ ظالمةٌ من دون شَكٍّ؛ لكنها لم تَكُن غامضةً ولا عَصيَّةً على الفهم، الآن أو سابقًا، ويُلامُ فيها مَن دَخلَها دون قُدرةٍ على النصر، أو تعريفٍ مَوضوعىٍّ للهزيمة، ودون لياقةٍ أو امتلاكٍ لأدوات اللعب أصلاً.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة