تبدأ الثوراتُ نظيفةً ثمَّ تُلوِّثها السياسة. التاريخُ مُتخَمٌ بالتجارب، والحاضرُ لا يتوقَّف عن إمدادنا بالمزيد. ربما كان الربيع العربىُّ انفعالاً شعبيًّا صافيًا من المؤثرات، وجرى التلاعب به لاحقًا، أو كان مُوجَّهًا من البداية للمنتهى!
المُهمّ أنَّ أغلبيَّة الهاتفين فى الميادين والشوارع كانوا يتعشَّمون فى واقعٍ أفضل، وما خرجوا على أيَّامهم الرماديَّةِ لتعميق مَساوئها، ولا لإعادة إنتاج نُسخةٍ رديئة من مواضيهم البائسة. لكنْ «ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدركه»، والطريق إلى الفوضى تَحُفُّه النوايا الطيِّبة، ويُعبِّدُه الإفراط فى النظام حينًا، والهَلَع منه فى أغلب الأحيان.
انقضَتْ ثلاث عشرة سنة على تسونامى 2011. قطعَتْ المنطقةُ شوطًا طويلاً، وما تزالُ سوريا فى ربيع العام نفسِه، أو بالأحرى خريفه. تُظلَمُ الدولةُ إن حُشِرَت فى خندق السنوات المسروقة غصبًا لصالح نظام الأسد، ويُظلَمُ الشعبُ إذ يُجبَرُ على تكرار المآسى، وعلى ألَّا يبدأ مِمَّا انتهى إليه الآخرون.
والنصرُ الموقوتُ على ساعة الحاضر؛ يتعيَّنُ النظرُ إليه فى سياقه المضبوط، بحيث يكون تصويبًا بأثرٍ رجعىٍّ، وبَترًا جِراحيًّا للزائدة الدُّوديّة المُتضخِّمة، قبل أن تنفجِرَ فى داخل البطن؛ بينما تختصمُ بقيَّةُ الأعضاء فى سائر الجسم، بدلاً من أن تتدَاعى له بالسَّهَر والحُمّى.
الشامُ آتيةٌ من حربٍ أهلية، لا من نُزهةٍ بين قصور الأمويِّين. والوقوف على اللحظة الراهنة، يُظَهِّرُ مُعادلةً سياسيَّةً لا تصبُّ فى صالح الثورة، ولا الشعب فى مجموعِه العريض بالتبعية.
الأهميَّةُ الأُولى والأكبر للرجوع فى الزمن؛ أنه يُحرِّرُ السياقَ من غبار المعارك وقرقعة الأسلحة، ومن فائض القوَّة المُتراكِم لدى تيَّارٍ، مُقابلَ جمهورٍ عريضٍ من العُزَّل المنكوبين.
وإلى ذلك؛ فإنَّ تصحيح التقاويم يُعيدُ الحالةَ التحرُّرية إلى وجهِها الثورىِّ الخالص، بمعنى أنْ تكون الانتفاضةُ مُوجَّهةً ضد النظام لا الدولة، ومن أجل التغيير الحقيقىِّ، وليس إعادة إنتاج الحالة القديمة بغلافٍ جديد.
الشُّموليّةُ كانت العُقدةَ الكُبرى، وما تفرَّع عليها من بطشٍ وانفرادٍ بالسلطة، وتحصين لها من جانب معنوىٍّ بالقوميَّة والمُمانَعة وكلِّ الشعارات الساخنة، ومن جانبٍ اجتماعى مادىٍّ بالتطييف والفئوية وبناء شبكات المصالح. «الأسد» كان تمثيلاً للعِلَّة؛ لكنه ليس جوهرها الحقيقى.
وعليه؛ فبالإمكان القول إنَّ إيران أيضًا كانت عَرضًا ظاهرًا، ولم تكن المرضَ الكامنَ فى خلايا الجسد. وإزاحتها قد تكون أوَّلَ العلاج؛ لكنها ليست آخره، ولا مُنتهى التشافى.
والقطيعةُ مع الحالة المُنشئة للمأساة، تتطلَّبُ استبدالَ الركائز لا العناوين، أىْ إعادة الاعتبار للجغرافيا بعيدًا من هواجس التاريخ ورواسبه العالقة، وللديموغرافيا خارج الأيديولوجيا والانتماءات الأَوَّليّة الضيِّقة.
عندما أشعلَ البائعُ الجوَّال، محمد البوعزيزى، النارَ فى جسده؛ اعتراضًا على سلوك بَلديَّة سيدى بوزيد ضد عربته وبضائعه، كانت لاحتراقه نزعةٌ إصلاحيَّةٌ لا ثورية. فالثوَّار قد يقبلون الموتَ؛ لكنهم لا يُبادرون إليه!
اندلعَتْ الشرارةُ فى تونس، ومنها إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن. ولم يَكُن إسقاطُ الأنظمة المَطلبَ الأَوَّلَ على اللائحة؛ لكنه تَدَاعى مع حماوة الاحتجاج، وسوء إدارة السُّلطات.
وبمَنطق التراتُبيَّة الزمنية، كانت سوريا الأخيرةَ فى مُتوالية أحجار الدومينو. بمعنى أنها تحفَّزت بطَاقةِ التجارب السابقة، واستلهمت حركتَها من أثر النجاحات السريعة فى بعضها، ولم تتوقَّف وقتَها أمام الإخفاقات؛ أمَّا اليومَ فواجِبُها أن تستضىء بخُلاصة المرحلة كُلِّها، وأن تستوعب ما فاتها من دروس؛ لئلاَّ تسقُطَ فيما انزلق إليه غيرها.
ما من شَكٍّ فى أنَّ السوريين امتلكوا مُوجِبات الثورة، وتجذَّر فى نفوسهم ما يُعزّزُ الرغبات التحرُّرية والانتحارية على حدٍّ سواء. ومع الإقرار بمَحليّة الغضب ومِلكيَّته الوطنية؛ فإنه كان واقعًا تحت سطوة الأجواء الإقليمية، ومَحكومًا بحال العواصم المُحيطة، وليس بما يجرى فى دمشق وحدها.
والقصدُ، بمعنى أو آخر؛ أنَّ توافُرَ الزيت لا يكفى لاشتعال النار. ومنذ كتَبَ مُراهقٌ على أحد جدران درعا «جاك الدور يا دكتور»؛ بدا أنَّ الشامَ حلقةٌ فى سلسلة، ولا فارقَ بين أن يكون ذلك عَرَضيًّا أو بتخطيطٍ مُسبَق، وكلُّ ما تلا تلك اللحظة التأسيسيَّة كان مشبوكًا مع الخارج بدرجةٍ من الدرجات.
سقوطُ ثلاثة رؤساء شجَّع الشوام، وهدوءُ الانتقال فى مصر وتونس، إزاء ما يُلاقونه من البعث وشبّيحته، غذَّى مشاعر الحنق ورفعَ وتيرة الاعتراض. وبقَدر ما يُحتَمَل أن تكون الفوضى الليبيَّةُ قد أزعجتهم؛ فربَّما استبشروا بالخلاص من ظِلِّ الرجل الأوحَد فى اليمن؛ مهما كانت التكاليف.
لم يتوقَّفوا طويلاً أمام مُشاغبات الإسلاميين فى البيئات كُلِّها. والهَديَّةُ التى قدَّمها «الأسد» للأُصوليّة، جهلاً أو غباءً؛ أنه نصَّبَ نفسَه نموذجًا للشرِّ المُطلَق، وحَرَف أنظارَ العوام عن مخاطر تديين الغضب؛ ما جعلهم يُطَبِّعون مطالبَهم التقدُّميّة مع حاملٍ رَجعىٍّ فرضَ حضورَه على السياق، ويتصوّرون بالتبعية أنَّ أىَّ بديلٍ عن النظام القديم، سيكونُ أفضلَ منه بالضرورة.
لو أطلَّ «الجولانى» على الناس فى فاتحة الثورة؛ لَمَا تقبّلوه بين الهاتفين. اليومَ؛ يبصمون له على ورقة القيادة، ويرتضون أنْ يَحِلَّ على عاصمة الأُمويِّين حاكمًا بمنطق الأمر الواقع، كما لو أنهم يستبدلون بندقيّةً بأُخرى.
وإذا لم يكن بمَقدور الشارع أن يتوسَّد الحُكمَ، أو يُملِى إرادتَه على السلطة الانتقالية؛ فالغريب أنه يُؤخِّرُ النقدَ ويتقاعَسُ عن اقتراح البدائل. والصمتُ قد يُحمَلُ على القبول؛ أقلّه فى وعى الصاعدين الجُدد، وفيما تُنتجه المُواكبة الدوليَّةُ من مُقارباتٍ للمشهد السائل.
يبدو أنَّ أحدًا فى سوريا لم يَستفِد من حوادث الربيع العربىِّ؛ اللهم إلَّا الميليشيات الأُصوليَّة، ومن يقفون خلفَها بالرعاية والتخطيط والتوجيه. وإذ تحتفى الجماهير بالنصر كما لو أنه جرى فى موعده الأوَّل، أى بالعام 2011، يتحرَّكُ القابضون على القرار بوعىِ اللحظة، وفيما يُشبِهُ القراءةَ من كتاب الإخفاقات السابقة، والانقضاض على الفواعل المُهدِّدة بالاستدراك والتصويب.
وَثَبَتْ التيَّاراتُ الدينيَّةُ على المشاهد الساخنة بامتداد الإقليم، وإذا كانت صلابة المُؤسَّسة العسكرية أنقذت مصر، بجانب اليقظة الشعبيَّة؛ فإنَّ الذخيرة المدنيَّة ساعدَتْ تونس على تصحيح مسارها، وانزلقَ اليمن وليبيا فى أتون الحرب بأثرِ القَبَليَّة، وانقسام المُؤسَّسات، و«مَلْشَنَة» البيئة السياسيَّة.
وأوَّلُ ما فعلته السُّلطة الجديدة فى سوريا؛ أنها اشتغلت على تفكيك أجهزة الدولة. صار الجيش مَوصومًا بكامله فى الداخل؛ فتَقبَّلَ الناسُ صامِتين أنْ تُجهِزَ إسرائيل على ما تبقَّى من مُقدَّراته. وفى علاقة التخادُم تلك، تربحُ الميليشيا سياقًا سائلاً دون قوىً وازنة، ويضمنُ المُحتلُّ إدامةَ الهشاشة لوقتٍ أطول من تخيُّلات «البعثيِّين الجُدد».
كانت سوريا ضعيفةً، وصارت أضعف. صحيحٌ أنَّ قوَّتَها النسبيَّة خدمَتْ السُّلطة السابقة، ولم تصُبّ فى صالح الدولة؛ لكنها لم تَكُن مِلكيَّةً للنظام ولا من تَركة العائلة الأَسَديَّة. المُؤسَّساتُ أصولٌ لا ينبغى التفريط فيها، وإقالتُها من العثرة والانحرافات أسهلُ وأجدى من الهَدم وإعادة البناء؛ حتى لو لم تكن أبنيَّة مُلوَّنةً ولصالح طرفٍ على حساب آخر، كما يحدث الآن.
يُدعَى فاروق الشرع للحوار؛ أكان لتقديرِ الشخص أم لرباط القُربَى مع القائد، لكنّه فى النهاية انتقاءٌ من نسيج النظام القديم. يُسوَّى موقفُ لُواءٍ بارزٍ على صِلَة عائليَّة بالأسد، وتُفتَحُ قناةٌ مع الدروز فى السويداء.
بقيّة التيَّارات تأخذُ من طرفِ اللسان حلاوةً، أو تُنسَى بالكُليَّة. الطاولةُ الجامعةُ لا أُفقَ لها، ولا يُبشَّر بها بمَنطقٍ واضح، والفعاليَّات الجُزئيَّة تبدو كأنها مُحاولةٌ ناعمة للفَرز والتصنيف، وتأليب المُكوِّنات على بعضِها.
القَولُ عن المصالحة، والفِعلُ فى التقسيم وإثارة الفِتَن الناعمة. والمَنفعةُ الوحيدة من تسطيح البلد لمنسوب الصفر، وهَدم أبنيته وتُراثه المُؤسَّسى، أن تصيرَ «أجندةُ إدلب» البديلَ الوحيد المُنتدَب عن الفوضى، وحالما يُبنَى الاستقرارُ على ركائزها؛ فلن يَعودَ خَلعُها من البِنية الدَّولَتيَّة سهلاً، ولا إزالة صبغتِها الأُصوليَّة عن المسار الجديد فى المُتناوَل؛ ولو تُرِك القرارُ للناس فعلاً، دون ترهيبٍ أو توجيه.
الحاضنةُ العُثمانيَّة استوعبَتْ دُروسَ الربيع، وقرَّرت ألَّا يكون خريفًا على أدواتها الرديفة فى دمشق. تجتهدُ لإطالة زمن النشوة بالخلاص من المُستبدّ، وإبقاء «الجولانى» تحت طائلة الاحتفاء المُؤقَّت، والقبول الصامت، مع تجنيبه أثرَ الإجماع عندما يتحدَّثُ السوريِّون جميعًا بلُغةٍ واحدة.
فى حروب الأيديولوجيا تربحُ الفوضى، ويَخسُر المُتحاربون جميعًا. وعندما قرَّرت الولايات المُتحَّدة مثلاً أنْ تُوظِّفَ الأُصوليَّة الإسلاميَّة فى صراعها مع الاتحاد السوفيتى، لم يَدُر فى خاطرِها أن تُضطَرَّ للاشتباك مع حركة طالبان بعد سنواتٍ قليلة من نصرها المعنوىِّ على الشيوعيّة، وأنْ تُكلِّفها الإدارةُ الرديئةُ لتوازنات القُوى عقدين من القتال المُلتَهِب، قبل أن تُسَلِّمَ كابول للحليف الذى صار عَدوًّا.
واليومَ، أصبح الخيالُ واقعًا؛ ولو لم يكتمل بنيانُه القانونىُّ أو تترسَّخ مَشروعيَّتُه الدولية. انتقلت الميليشيا للدولة أو العكس، وتعقَّد الصراعُ داخليًّا، بين تأسيسٍ عَقَائدىٍّ يتنافى مع الحداثة ويتنكَّر لها، ومُقتضياتٍ عَصريَّة يَشِقُّ عليها احتواءُ الرجعيَّة، كما يستحيل الذوبان فيها، وتتبخَّر فى شجارِهما كُلُّ فرصةٍ للتصالُح أو المُساكَنَة.
هبة الله أخوند زادة هناك ليس أعنف من أبى محمد الجولانى هنا؛ لكنه قد لا يكون على مستواه من الذكاء. سياق الانتقال مختلف، والبيئة والتركيبة الاجتماعية، والأوضاع الجيوسياسية والجيوستراتيجية أيضًا؛ لكنَّ ماءَهما من نبعٍ واحد. الغايةُ تلوين العالم بالدين: أحدهما يخلطُه مع الدم، والآخر يَعجِنُه بكلامٍ معسول.
الخطورة فى المشهد السورى، وبعيدًا من أيّة انفعالاتٍ عاطفيَّةٍ ضد النظام أو لصالح ضحاياه؛ أنه يُقدِّم مُعالجةً مُنقَّحة للحالة الأفغانية. ليس على معنى الانغلاق ومُخاصمة الواقع تمامًا بالضرورة؛ إنما لجِهةِ حَوكَمةِ الميليشيات وتقنينها، وتسويغ فكرة الانتقال السهل من الإرهاب إلى الحُكم.
تُنزَعُ الحصانةُ عن الدولة الوطنيَّة، وعن فكرة الاستثناء فى استبدال الخشونة بالصراعات السلميَّة، وانتقال المُجتمعات من المَأسسة للانفلات، ومن الثورات إلى الحروب الأهلية. وكأنَّ العالمَ يَبصُم للتيَّارات العنيفة على مُقترَحٍ بديلٍ لإحلال الأنظمة، ويُخَطِّئُ نفسَه فيما مضى من اعتراضٍ على القاعدة وداعش، وكلِّ أجندةٍ شَبيهة.
والتناقُضُ الهَيكلىِّ؛ أنَّ الأديانَ إصلاحيَّةٌ بطَبعِها، وأثرها الثورىّ إنما يتحقَّقُ بالاشتغال الحثيث، والتراكُم المُتَدرِّج. وبالصيغة الجديدة، تُمسَخُ العقائدُ ذاتُها، وتصيرُ بالعُرف والإقرار أداةً لتوليد النزاعات، ومَدخلاً مُعتمَدًا لحَسْمها، وطاحونةَ دمٍ تستندُ لمرجعيَّاتٍ عُليا مُقدَّسة، لا تقبلُ الفِصالَ أو المُواءمة.
وعندما يُقدِّم «الجولانى» نفسَه ثوريًّا؛ فإنه ينقلِبُ على منظومته الفِكريَّة العميقة. وإذ ينتقل لمقعَدِ السُّلطة تحت ظلِّ السلاح، يُعلن بالمُمارسة العمليّة أنَّ الدولةَ مُؤمَّمةٌ لصالح الشريعة، أو يرتضى بالمواءمة المرحليّة احتكامَ الأخيرةِ إلى الصناديق، وتحكيمَ الناس فيما يقعُ ضمن ولاية السماء. وإمَّا أنْ تُصَدِّقَه فى الثانية مع خطورة الرهان، أو أنْ تَستوقِفَه فى الأُولى مع فداحة الصِّدام!
المَمَرُّ الشرعىُّ إلى مُحاسبة نظام البَعث عن خطاياه، تُشَقُّ منه طريقٌ التِفَافيَّةٌ إلى اختصام الدولة فى جوهر وُجودها. تغييبُ الناس عن اللحظة دليلٌ عَمَلانىٌّ على القطيعة مع 2011، وعدم الانتساب إلى الثورة الشعبية؛ ولو أفرَطَتْ القيادةُ فى استعارتها بين رُزمة ما تُمرِّر به نفسَها من قنوات الداخل والخارج.
والحال؛ أنَّ الصاعدَ على جناح القُوّة، وتحت ظِلِّ البندقيَّة العثمانيّة السُنيّة، وراية هيئة تحرير الشام؛ قد يَنزلُ للعوام خطابيًّا على فكرة الشراكة، والحَقّ المُتكافئ فى اقتسام المنافع، وبناء السياق الجديد على قاعدةِ النديّة والمساواة؛ لكنه بالقَطع لا يَعتبِرُ أنّه مَدِينٌ لشركاء الدين والمذهب القاعدين عن الجهاد؛ ناهيك عن الأغيار من بقيّة الأعراق والمُعتقَدَات.
شرعيَّتُه الوحيدةُ إلى الآن مَكتوبةٌ بالنار والدم، وتحت عجز البيئة المُتشظِّية عن إنتاج بديلٍ أصلح. ولا سبيلَ للانتقال إلى شرعيَّةٍ بديلة؛ إلَّا أنْ يُدعَى الناسُ لامتلاك زمام أَمرهم، والاتِّفاق على صيغةٍ جامعة لإرساء الدولة الجديدة.
وهُنا، لا تصلحُ النوايا وحدها للحُكم على المسار؛ إذ تتقاطَعُ فيه طبيعةُ الفصيل، مع مصالح الرُّعاة، وغابة الاختلافات المُتوقَّعة بين بقيّة القوى الاجتماعية والمَدَنيَّة؛ وما لا يُحسَم بالحوار؛ فقد يَحسِمُه السلاح، أو السُّلطة الظرفيَّة القاهرة.
الشخصيّةُ السوريَّةُ مَيّالةٌ لليمين بتلاوينه؛ وإذا خُيِّرت فى مَروحةٍ من الخيارات تنحو إلى أقصاها، ولا فارقَ بين المدنيِّين والأصوليِّين. أقلُّ من سياقٍ عَلمانىٍّ يحتكمُ لدستورٍ عصرىٍّ لن يُرضى القُوى الحَيّةَ، وما دون الدولة الدينيَّة الكاملة سيكون أقلَّ من طُموحات الميليشيَّات، والتوفيق بينهما قد يُنتِجُ مُسخًا مُشوّهًا، ولا يُقنعُ هذا أو ذاك.
يتحوَّلُ «الجولانىُّ» أسرعَ من المجتمع، وعلى النقيض من ثوابته. ليست المسألةُ فى تشذيب اللحية أو الاختناق برابطة عُنق؛ بل فى أنه يقولُ كلَّ ما لا يُؤمن به، ويضمِرُ خلافَ ما يُظهِر. وبينما يُصرِّح بالمَدَنيَّة؛ فإنه يُمكِّن الأُصوليَّة، ويلتحقُ بالأجندة العُثمانيَّة، فى الوقت الذى يؤسِّسُ خطابَه على انتقاد التَّبعِيَّة الأَسَديَّة لإيران.
يُمارسُ الرجلُ رقابةً صارمةً على خطاب عُصبتِه؛ لكنَّ السياق لا يخلو من مُنغِّصات. كأن يُجبِرَ فتاةً على الحجاب، أو يقولُ وَزيرُ عَدلِه إنَّ تولية المرأة للقضاء مسألةٌ مُعلَّقة. سيكون عليه أن يخوضَ حربًا تنظيميَّةً مُعقَّدةً لإعادة إنتاج نفسه؛ لو كان صادقًا أصلاً، وطبيعةُ التغيير أنه ينشأ عن احتياجٍ، بينما لا حاجةَ لديه اليومَ بعدما صارَ حاكمًا.
عودة الشارع إلى 2011 ضرورة؛ إنما بوعيه الراهن. والقصد أن يُزاوج بين مِلكيَّته الحصرية للثورة، على مُرتكَزٍ وطنىٍّ صافٍ من التدخُّلات، ومُحايد أمام الإثنيات والعقائد، مع الاستفادة مِمَّا عاشته المنطقة فى نزاعاتها الانتقالية، وإزاء حالات الاحتيال التى مارسها الإسلاميّون فى عديد البيئات.
لن يستقيم لسانُ الشام إن استُبدِلَت التركية بالفارسية، أو ميليشيا الأصوليّة السنيّة بميليشيات البعث القومية أو الشيعية. مُجرَّد خروجٍ من عناوين كُبرى مُهلهلة، إلى بديلٍ لا يختلفُ عنها، وانتقالٌ من فتنة الشيعيَّة المُسلَّحة بأطماع الحاضر، إلى العثمانيّة المُذخَّرة بسرديَّات بائدة.
استدرجت إيرانُ «عراقَ صدّام» لحربٍ طاحنة؛ لكنها لم تكن السبب فى أن يغزو الكويت، ولا أن يُطلق عدّة صواريخ استعراضية على إسرائيل، فيصطدم بالإدارة الأمريكية، بعدما ذبح العروبة التى كان يُتاجرُ بها، وأخرج نفسه من أفئدة العرب.
وبالمِثل؛ فإنها مسؤولةٌ عن جانبٍ عريض مأساة سوريا حتى رحيل بشَّار؛ إنما لم تَعُد تفصيلاً فى المشهد الراهن، ولا ينبغى اتِّخاذُها ذريعةً لتغطية سواد النوايا وسوء الإدارة، الآن أو مُستقبلاً.
لا عاصمَ لسوريا من الانزلاق فى السيناريو الليبى أو اليمنى. ونجاتها أن تستلهم تجربتى مصر وتونس؛ إذ لو حُجِّم الإخوان فيهما مُبكِّرًا، ما تكلّف البَلَدَان فاتورةً باهظةً مع الإرهاب والدم وإهدار الوقت والموارد.
حديثُ المُشاركة لا المُغالَبة سمعه المصريون سابقًا، واحترام ميراث الدولة وخصوصيتها كان شعار حركة النهضة وقائدها راشد الغنوشى. وبمجرّد عبور سكرة الإمكان تضخّمت فكرة التمكين، واحتُكر الدستور والمؤسَّسات وبدأت مسيرة اللعب فى الثوابت وأعصاب المجتمع.
الحالة واحدة؛ بفارق الحرب الأهلية طبعا، والراعى واحدٌ أيضًا. سيُنزَعُ لإدارة حوارٍ تحت وصاية الإدارة الجديدة، والأملُ على توجيه مسار الوفاق على صيغة الدولة، واحتكار الجمعية التأسيسية للدستور؛ وإن أخفقوا سيكون الانتظار لِمَا بعد الصناديق، والانقلاب على الناخبين لاحقا، على ما كان من جبهة الإنقاذ الجزائرية فى التسعينيات، عندما جاء على بلحاج ورفاقه بالديمقراطية ليقولوا لها «باى باى».
الغباء أن تُجرِّب الوصفات الخاطئة وتنتظر نتيجة مُغايرة، أو أن تسير فيما ثبت خطؤه بتجارب الآخرين. لا تُبنَى الدول بالمواءمات المرحلية، ولا بالتفويت على أمل التصحيح؛ إلا لو كانت الشراكة بين إصلاحيِّين، ومن مراكز مُتكافئة.
وما يُبنَى على باطلٍ قد لا يتقوَّم أبدًا. يُمكِنُ أن تنحرِفَ الديمقراطيَّات؛ إنما لا يُمكِنُ أن تستقيم الديكتاتوريات من داخلها؛ لا سيّما لو اتَّخَذت طابعًا ثيوقراطيًّا، كما يتعذَّرُ أن تنزع الأُصوليّة عمامتها بمبادرةٍ ذاتيّة؛ لتتطوَّع مجانًا بقَتل نفسِها وإراقة مُبرِّرات وجودها وصُلب دعايتها.
سوريا ليست فى ديسمبر 2024؛ لعلّها أقربُ إلى مارس أو أى شهر آخر من العام 2011.. العودةُ إلى اللحظة الافتتاحيّة يُؤمِّم تَركةَ النظام لصالح الدولة والشعب، والنظرُ فى حصيلة السنوات الماضية وأثرِها على المحيط القريب، يُحصِّنُ التجربةَ من تكرار مآسى الأُصوليَّة ومُموّليها، والأهمُّ من الأمرين استنقاذُ السوريين مِنْ أنْ يُسرَقوا مَرَّتين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة