حازم حسين

لحظة عربية على قدر دمشق.. بيان العقبة ورسم أطر عقلانية نزيهة للانتقال السورى

الإثنين، 16 ديسمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يجبُ ألَّا يتكلَّم المشهدُ الجديد فى سوريا لغةً غيرَ العربية. ولا يعودُ الأمرُ للهُويَّة والانتماء فحسب؛ إنما لأنَّ أكبرَ دروس السنوات الماضية، خُلاصتُها أنَّ الحاضنة اللصيقة لا تنطلقُ من أهدافٍ مُسبَقَة، ولا تُحرِّكُها غاياتٌ مُضمَرَة. وإن كانت لها مصلحةٌ فى الشام؛ فأنْ يظلَّ كيانًا وطنيًّا جامعًا لكلِّ مُكوِّناته، وأن يستعيدَ عافيتَه، ويتحرَّر من ثِقَل الضغوط والإملاءات جميعًا.

لا أطماعَ فى الجغرافيا، ولا رغبةَ فى استتباع مُكَوِّنٍ واستبعادِ آخر. والأهمّ أنَّ مسارَ الإعمار لن يتقدَّم له أحدٌ سُواهم؛ إذ لا يُنتَظَر مِمَّن أفسدوا البلدَ أن يُصلِحوه، ولا يُعَوَّل على غير شُركاء الثقافة والتاريخ، والهَمِّ الإقليمىِّ العميق، فى انتشال البلد من وَهدَة الضياع، وتجنِيبِه أن يكونَ ساحةً بديلةً لتصفية الحسابات العالقة، ولُقمةً سائغةً فى صراع الأُمَم.

من هذا المُنطَلَق، بادرت لجنةُ الاتِّصال العربية إلى طرح الملفِّ فى اجتماعها الأخير بالعقبة الأُردنيّة، ووسَّعت مجال المداولات مع قوىً إقليمية ودولية مُشتبِكَةً مع البيئة السورية الساخنة. لا لبناء توافق عروبىٍّ فحسب؛ إنما لتسويقه دوليًّا، وتحصينه من مُحاولات الإرباك والتعطيل.

وأفضى اللقاءُ إلى «خريطةِ طريقٍ» تصلحُ للإجراء على مُرتكزَاتٍ وطنيَّةٍ صافية، عِمادُها أن تكونَ العمليَّةُ السياسيَّةُ شاملةً، وبمِلكيَّةٍ محليَّةٍ خالصة، تحتمى بالإجماع، وتتحصَّنُ بالرؤية الدوليَّة وفقَ القرار الأُمَمىِّ رقم 2254 الصادر قبل تسع سنوات.

والغَرضُ؛ أن تكونَ المرحلةُ الانتقاليَّةُ عنوانًا عريضًا للتوافُق لا الشِّقاق، ومدخلاً لإرساء دستورٍ ومُؤسَّساتٍ قادِرَيْن على استيعاب كيانٍ بحجم سوريا، فى التاريخ والتنوُّع والقيمة الجيوسياسية، ولا يتسبَّبان فى اختلاق مُربكاتٍ لا يحتملُها السياق، أو إرجاء الخروج من النَّفَق المُظلِم، ولا أن يكون خروجًا مُتعثِّرًا ومبتورَ القُدرات.

تشكَّلتْ اللجنةُ من حصيلة القمَّة العربية فى جدة 2023 وما قبلها. سبقَتْها اجتماعاتٌ أنتجَتْ بيان عَمَّان فى مطلع مايو، ثمَّ بيان القاهرة فى أغسطس من العام نفسِه. وقد ضمَّت بجانب مصر والأردن، كلاًّ من: السعودية والعراق ولبنان والجامعة العربية.

وأهمُّ ما اعتمدَتْه، قبل الاتِّفاق على عودة سوريا للجامعة، كان تفعيل مبدأ «الخطوة مُقابل خطوة»، ومُطالبةَ النظام بأن يُوقِف التوظيف الابتزازى للأزمة؛ لا سيما ما يخصُّ تهريب المُخدِّرات والسلاح. وأن يُبدِى تجاوبًا ملموسًا مع مسار الحلِّ السياسى، عبر بدء حوارٍ مع المُعارَضة فى ضوء التفاهُمات السابقة، ولجنة الدستور وغيرها من الفعاليات.

لم يَصدُق «الأسد» فيما تعهَّد به؛ وكانت المُراوغةً جزءًا من المشكلة، أو لعلَّها أضخم الأجزاء وأفدحها. إذ تأكَّد بعدما توافَقَتْ دول الجامعة، أنه يضَعُ شراكتَه مع إيران قبل التزاماته تجاه العمل العربىِّ المُشترَك، ولا يتلاقى على أىِّ تصوُّرٍ لحلحلة الأوضاع وتسويتها خارج برنامج الجمهورية الإسلامية، أو بعيدًا من شعارات المُمانَعة وتوجُّهات الشيعيَّة المُسلَّحة.

وبهذا؛ تقطَّعت السُّبل الأخيرةُ لمُداواة الجروح الوطنية الغائرة، وبدا كأنه فى حربٍ وجوديَّةٍ ضد الجميع على السواء، ولا فارقَ لديه بين شقيقٍ يسعى لاستنقاذ الدولة، وصديقٍ أو غريم يُفاوضانه عليها. وهكذا ضيَّعَ نظامَه، قبل أن يُضيِّعَ على البلد فُرصة الخروج الهادئ تحت ظلِّ السياسة والمؤسَّسات.
الدرسُ هُنا لا ينصرِفُ إلى «بشَّار» فى منفاه الجديد؛ إنما مناطُ الاعتبار أن تستوعبَ سُلطةُ الأمر الواقع الجديدة فى دمشق خطأ الانصراف عن الرُّؤى الأمينة، والمُقاربات المُخلصة لمصالح سوريا؛ قبل أن تكون مُرتبطةً بحسابات أصحابها.

العربُ أوثقُ الناسِ صِلَةً ببعضِهم، وأكثرهم معرفةً بالشام تاريخًا وحاضرًا، واطِّلاعًا على أزماته المُتناسِلَة من بعضِها عقودًا إثرَ عقود. وحُكَّام اللحظة عليهم أن يستفيدوا من تراث سابقيهم؛ ولو كانت العائلةُ الأسديَّة وتراجيديا البَعث نفسِه.

لا تُمكِنُ مُواجهةُ العالم بظهرٍ عارٍ، ولا خوضَ صراعٍ مفتوحٍ مع الحقائق الناصعة. ما بُنِى عليه النظامُ السابقُ لا يصلحُ للتكرار، وما تهدَّم بسببِه كفيلٌ بنَقضِ أىِّ بديلٍ آخر؛ والحصانةُ فى الانقطاع عن الوصفات الخاطئة كلِّها، والتِماسِ الطريق مع الأَدِلَّة الحاذقين، وليس مع العابرين من أبناء السبيل، أو وفقَ خرائطَ مُلوَّنةٍ بالأيديولوجيا والنيَّات الحارقة.

وما فاتَ؛ لا يعنى أنَّ المسؤوليَّةَ مُعلَّقةٌ على كاهل الحكومة المُؤقَّتة وحدَها، ولو كانت صاحبة النصيب الأكبر منها اتِّصالاً بما تحوزه من سُلطة؛ لكنها قسمةٌ اضطراريَّةٌ بين فواعلَ شتَّى. الداخلُ عليه أنْ يُواكِبَ المسارَ بالرعاية والتقويم، والخارجُ القريبُ يتعيَّن ألَّا يُطِلَّ على المشهد من الخارج، ولا أن يستنكِفَ تشميرَ السواعد والمُعاونة من أرض الملعب.

صحيحٌ أنَّ دُوَلاً عدَّة أعادت تشغيلَ سفاراتها، وبالتأكيد فُتِحَتْ قنواتُ اتِّصالٍ خَفيَّة أو ظاهرة مع القادةِ الجُدد؛ لكنَّ الزيارةَ الأُولى لم تَكُن عربيَّةً. والواجبُ أن تترافق مع فعالية العَقَبة بكلِّ أهميتها، مُقارباتٌ عمليَّة من النقطة صفر، تحطُّ فى دمشق، وتتحاورُ مع أطرافِها دون استثناء، الفاعلين السياسيِّين فى الظَّرف الراهن، والمُثقَّفين والقُوى المدنيَّة والأهليَّة على تنوِّعها العريض.

عاملُ الثِّقَة لن يُبنَى إلَّا على بصيرةٍ من حقائق الواقع، وإنْ تحقَّق فبإمكانه أنْ يُشيِّدَ الجسرَ المفقودَ بين أجزاء الفُسيفسائيَّة السورية مُتداخلة التلاوين، وأنْ يُمهِّدَ الطاولةَ الإلزاميَّةَ لحوارٍ لا بديلَ عنه، سيذهبون إليه اليومَ أو بعد انقضاء الفترة الانتقالية؛ لكنه كُلَّما تأخَّر تعطَّل، أو تشوَّهت ملامحُه، وتضاءل ما يُبشِّر به من عطايا.

زَرَعَ النظامُ أشواكًا كثيرةً فى التُّربة السورية؛ لكنَّ أكثرَ ما تفنَّن فى زراعته كانت الفتنة، والطائفية، وتأليب المُكوِّنات المُتعايشة منذ قرونٍ على بعضِها. والمرحلةُ الحاليةُ عنوانُها الشَّكُّ والارتياب؛ ولو أظهر أطرافها العكسَ، أو أنكروا ما يعتملُ من وَجَلٍ وصراعاتٍ فى صدورِهم.

ربما تُغطِّى نشوةُ النصر عليها جُزئيًّا، أو تصرفَ النظرَ عن تعقيداتها الكامنة؛ إنما بعدما تروحُ السَّكْرةُ وتأتى الفِكرة؛ قد يجدُ الجميعُ أنفسَهم أمامَ مُعضلةٍ مُركَّبة، يزيدُ فى تركيبِها أن يتباطأ الاعترافُ بها، والتعاطى معها، والعملُ الجاد على تصفيتها واحتواء تأثيراتها النفسيَّة والعمليَّة الثقيلة.

لا عيبَ على الإطلاق فى أنْ يحتاجَ الأشقاءُ إلى وساطةٍ من ذوى القُربى، أو لنَقُل إلى مُيَسِّرٍ يُصالحُ الرُّؤى المُتخاصمة والمهجوسة على بعضِها، ويُمهِّدُ لهم أنْ يتحدَّثوا لُغةً واحدةً.

الثوَّارُ بأطيافِهم، ساسةً واجتماعيِّين ومُسلَّحين، لديهم رواسبُ ثقيلةٌ مع النظام وعوائله ومُحازبيه. والشَّكُّ أعلى ما يكونُ فى العاصمة، وقد بَقِى فيها الآلافُ شِبهَ آمنين نسبيًّا؛ رغم سنوات البطش والحرب الأهليَّة واسعة المدى وحامية الوطيس.

الافتراضُ الأوَّلُ قد يَنصرِفُ إلى أنهم بَعثيِّون كامنون، أو من المُنتفعين فى زمن السُّلطة القديمة، مثلما يتوجَّسُ البعضُ من التنظيم الإرهابىِّ الذى صار فى مُرتَقَى الحُكم فجأة، وقد لا تكفيهم تطميناتُ «الجولانى» ولسانه المعسول، ولا ما يُبديه مُقاتلو «هيئة تحرير الشام» من سماحةٍ افتتاحيَّة، لا ضمانةَ من أن تنقلِبَ لضدِّها؛ طالما لم تتحصَّن بالفَهم المُشترَك، ولم تُرسَمْ حُدودُها عبر الحوار، أو بمُدوَّنةٍ مكتوبةٍ تُوطِّئُ لعَقدٍ اجتماعىٍّ ودستورٍ جَدِيدَيْن.

عانى الكُلُّ من دون استثناء طوال الحقبة الأسديَّة، وبينما يُفترَضُ أنْ تقودَهم المُعاناةُ الجماعيَّة للتضامُن معًا، وتضميد واحدهم لجراحات الآخر؛ فقد يجدُها فريقٌ منهم فُرصةً للغَلَبة والاستئثار، فى مُقابل أنْ يرتاب الآخرون فى كلِّ قَولٍ وفِعل؛ ولو لم يُوجِبْ الريبةَ أو يحتمِلْ القَلَق.

كما لا يُمكنُ الانصرافُ أيضًا عن مخاطر التشغيب المُحتَمَل، أكان من بعض فلول النظام الساقط، أم من بقايا الميليشيَّات المُنتمِيَة فكريًّا وحركيا وانتفاعًا لتيَّار المُمانَعة وأطلاله الدارِسَة. الدولةُ فى مرحلةِ نقاهةٍ بعد عمليَّة «قلبٍ مفتوح»، وأقلُّ عدوى أو مجهودٍ زائدٍ قد يتسبَّبان فى انتكاستها، وهى أحوجُ ما يكونُ اليومَ لاجتناب الانتكاسات؛ ولو كانت قادرةً على تخطِّيها بيُسرٍ أو استعسار.

شَهِدَتْ اللاذقيَّةُ مُؤخَّرًا كمينًا مُسلَّحًا، أزهق أرواحَ أربعةٍ من مُقاتلى العمليَّات المُشترَكة، والثأرُ المُحتَمَل سيُزهِقُ مزيدًا من الأرواح، ولا فارقَ بين أن تكون سُنيَّةً أم عَلَويَّة، نِظاميَّةً أم ثوريَّة. إذ لا حاجةَ لسوريا إلى استكمال مسار التردِّى، كما أنَّ طاحونةَ الدَّمِ تتسارعُ كُلَّما نُحِرَ فيها عَدوٌّ أو حبيب.

كلُّ الأطياف يقفون على أطراف أصابعهم، والأخطاءُ غير المحسوبةِ قد تصيرُ أشدَّ خطرًا من العمليات المقصودة؛ لا سيَّما أنَّ تناقُضات الميليشيات الصاعدة حديثًا على آخرها، وخطاب الجولانى/ الشرع، قد لا يُلاقى قبولاً من قطاعاتٍ واسعةٍ فيها؛ حتى بين عُصبته الضيِّقة.

مناخُ الاضطراب قد يُشجِّعُ المُعترضين على محاولات الانفتاح، ويضعُ السُّلطةَ الجديدةَ أمامَ استحقاقاتٍ أمنيَّةٍ داهمة؛ لن تُؤخَذَ فى أجواء الرَّيبة الحالية إلَّا على صِفَة التشدُّد وفرض الهيمنة بالسلاح، وباعتبارها مُحاولةً لإعادة إنتاج الشُّموليَّة مُجدَّدًا، على حساب تغييب بقيَّة الرُّؤى والأفكار.

مصلحةُ دمشق الحالية فى أن تتصالح مع نُسخَتِها العتيقة، والمُصالحةُ لن تبدأ إلَّا من التسامُح، ثمَّ الحوار، وسِعَة الأفق دون تَطَهُّرٍ أو تخوين، مع واجب الحياد والتجرُّد، والانفتاح على الجميع بلا قيودٍ أو حدود.

أهميَّةُ الحضور العربىِّ أنه وثيقُ الصِّلَة بكلِّ الأطراف. قد يُحسَبُ العَلَويِّون على إيران، وتُلحَقُ الفصائلُ المُسلَّحة وغيرها بالعثمانية الجديدة، وثمَّة وشائجُ أُخرى لدى الدروز والتركمان والكُرد وغيرهم؛ لكنَّ الدائرةَ العربيَّةَ لم تشتبك مع المشهد بتحالُفاته السابقة، ولم تَكُن طرفًا مُباشرًا فى الصراع الدامى، كما أنها قادرةٌ على مُخاطبة الجميع بالصَّفاء نفسِه، ومن مراكزَ مَعنويَّةٍ مُتكافئة.

والهَواجسُ التى قد يخشَى طَرَفٌ منهم أنْ يُصارِحَ بها الآخر، أو يُلقِيَها على طاولة السُّلطة الجديدة؛ لن يتحرَّج فى إثارتها مع الأشقاء، مصريِّين كانوا أم أُردنيِّين ولبنانيِّين ومن دول الخليج، والدَّورُ هُنا يبدأُ وينتهى عند حدود إرساء قنوات الاتِّصال، ورعايتها، وتأمين رسائلِها العابرةِ فى الاتجاهين، بما يسمحُ بأن تُنكأ كلُّ الجروح، ويُصَفَّى صديدُها، دون حرَجٍ أو اعتبارٍ لحساسيات الماضى، وفى بيئةٍ مُعقَّمة لا تَسكنُها المخاوف، ولا تُبطِنُ عكسَ ما تُظهِر.

يحدثُ الانتقالُ السورىُّ فى سياقٍ استثنائىٍّ، وغير طبيعىٍّ على الإطلاق. ليست ثورةً بيضاء، ولا أخلَى النظامُ مواقعَه لوريثٍ سياسىٍّ يتوسَّدُ الإدارةَ فى المُؤسَّسات القديمة. تُولَدُ الدولة من رَحْم حربٍ أهليَّةٍ طويلةٍ وقاسية، وتحت ظلِّ السلاح، وما كان من مُلاحظاتٍ على الأسد، تُقابِلُه مآخذُ وشبهاتٌ على الجولانى.
ولا يُوفِّرُ مَناخٌ كهذا حاضنةً مِثاليَّةً للخروج الآمن الرشيد، بينما يتفسَّخُ النسيجُ الاجتماعىُّ بين فُلولٍ وثوَّار، أغلبيَّةٍ وأقلّيات، مُسلَّحين ومُستضعَفِيْن، وملايين غادروا حاضرَ البلد قبل سنوات، ولا يُمكِنُ بحالٍ استبعادُهم من مُستقبلِه، أو إجبارهم على عقودِ إذعانٍ لم يشتركوا فى صياغة بنودِها.

ربما لم يَتبَدّ عجزُ الداخل عن إدارة المرحلة؛ لكنَّه احتمالٌ قائمٌ بإثرِ التعقيدات والميراث الثقيل. والمواكبةُ الخارجيَّةُ ستُقدِّمُ العونَ للمسار الجديد لو تأكَّدت استقامتُه وفاعليَّتُه، وستُعين أطرافَه على تقويمه إنْ مالَ لجهةِ الانحراف.

وفى كلِّ الأحوال؛ لا غِنَى للسُّلطة الظَّرفِيّة عن الإسناد، أكان فى الإغاثة ورَفْع العقوبات، أم فى ورشة الإصلاح والإعمار، وفى التحويط على الدولة الهَشَّة من الأطماع، وقد برز جانبُها الإسرائيلىُّ باستعجالٍ ووقاحة، وما تُخبِّئه الأيَّامُ قد يكونُ أكبرَ وأخطر.

أمَّا الميزانُ الدقيقُ هُنا؛ فيتأتَّى من العودة إلى الأُفق الدولىِّ السابق، وإشراك المَعنيِّين المُباشرين بسلامة سوريا واستقرارها، وتخليق حالةِ تمثيلٍ موضوعيَّة للأطراف الغائبة عن الصورة، ولِمَنْ لا يمتلكون يدًا أو ظهيرًا من قوَّةٍ أو غطاءٍ سياسىٍّ، فى أجواءٍ ساخنةٍ وشديدة الانفتاح على كلِّ الاحتمالات، الردىء منها قبل الجيِّد.

فاعليَّةُ الرؤية العربيَّة تنبعُ من الاعتراف بتعقُّد السياق، وباشتباك أطرافٍ عِدَّة فيه، عضويًّا أو برابطِ الاهتمام والمنفعة. وعليه؛ كانت تركيبةُ «اجتماع العقبة» موضوعيَّةً وعَمَليَّةً فى آنٍ واحد؛ لجِهَة عدم استئثار لجنة الاتصال بالطاولة، واعترافِها الضمنىِّ بأنَّ أطرافًا أُخرى تُشاركِها الانشغالات، وتتشارَكُ معها النظرةَ للمُشكلة، والتطُّلعَ إلى الإسهام فى الحَلّ.

وعلى ما فات؛ لا يكون النزاعُ مُكاسَرةً بين مُتنافِسِين، إنما يدورُ فى نِطاق التوفيق بين الرُّؤى، وعدم تغليب إحداهما على غيرها، أو تقديم طَرَفٍ سورىٍّ على آخر.

يجبُ احترامُ شواغلِ المنطقة، بقَدر الاعتراف بحُظوظ بعض القوى الإقليمية والدولية من مفاتيح التهدئة والتصعيد، والأهمُّ دائمًا وأبدًا أن يكون السوريِّون أنفسُهم فى المُقدِّمة، وأنْ تظلَّ الدولةُ الوطنيَّةُ المُوحَّدة الجامعةُ أوَّلاً وأخيرًا، وقبل كلِّ اعتبار، وفى القلب من كلِّ غاية ومُنتهَى.

لهذا أكَّدتْ لجنةُ الاتِّصال أهميَّةَ أن يكونَ الحَلُّ سوريًّا بمِلكيَّةٍ وطنيَّة خالصةٍ، بقَدر ما دَعَتْ للعودة إلى سابق الرؤية التسوَوِيَّة فى قرار مجلس الأمن، وأن يكون الانتقالُ تحت رعاية الأُمَم المُتَّحدة؛ بوَصفِها طرفًا مُحايدًا من حيث المبدأ، ويُجسِّدُ تلاقِى الإرادات الدولية، وإدارتها تحت سقف القانون وقواعد النظام مُتعدِّد الأطراف.

والفكرةُ أن تكونَ المُواكَبَةُ رَعَويَّةً لا وِصائيَّة، وحاضنةً للنزاهة لا بابًا للتوجيه والإملاء، وهى بمِقدار ما تُعبِّدُ الطريقَ للخلاص من أَسْر النظام القديم وأمراضِه الموروثة، تتصدَّى بالكفاءة نفسها لمحاولات التأثير على القرار السورىِّ من الخارج، أو استمالة تيَّارٍ وشَيطَنة تيَّار، بما يُخرِجُ العمليَّةَ فى النهاية من حسابات المصالح وتوازُنات القُوى، إلى مجالٍ مُحايدٍ، ومُتجرَّدٍ من النوازُع، ومن هيمنة قَوِىٍّ على ضعيف، أو استفراد أغلبيَّةٍ بأقليَّة.

تتقدَّمُ «هيئةُ تحرير الشام» على بقيَّة المُكوِّنات؛ أكان بالسلاح أم فاعليَّة مرافق الحُكم. وإن جاز مرحليًّا أنْ تَمُرَّ المُعادلةُ القائمة لناحيةِ أنها الأكثرُ جاهزيَّةً لتحَمُّل المسؤولية؛ فإنَّ بناءَ معالم الصِّيغة الدائمة يجبُ ألَّا يحتكِمَ لغَلَبَةِ الهيئة، ولا أنْ يُدَار من موقعٍ مقلوب؛ يصيرُ فيه طَيفٌ بعَينه من المُعارضةُ القديمةُ سُلطةً وارثةً، ويصيرُ الشارعُ ببقيّة أطيافه مُعارضةً فى لعبةٍ سائلة، لا أُطُر لها، ولا تحتكم لقواعِدَ واضحةٍ.

والمَخرَجُ هُنا ربّما يتعذَّر أن يكون داخليًّا بالكامل، ويتطلَّبُ إنجازه عبر شريكٍ إقليمىٍّ أو دولىٍّ نزيه، يُمَكِّنُ للسياسات الإيجابيَّة، ويُعِينُ المُتضرِّرين من السلبيات على رَفْع أصواتهم. بل لا مُبالغةَ فى القَول إنَّ «الجولانى» ذاتَه فى حاجةٍ للعون؛ إذ لو كان صادقًا فى نُسخَتِه الجديدة، فلن يَمُرَّ وَقتٌ طويلٌ قبل الاصطدام بشركائه من الأُصوليَّة الجِهاديَّة. أمَّا لو كان فى سياقِ مُناورةٍ ظَرفيَّة؛ فإنَّ إنقاذَه من شيطانِ نفسِه يَفرِضُ ألَّا يُترَك لهَواه حصرًا، ولا أن يستبِدَّ بالمسار دون رقابةٍ وتقويم.

إن كان الرجلُ أمينًا فلن يجِدَ غضاضةً فى الحضور العربى؛ بل سيُرَحِّبُ به بأريحيَّةٍ كاملة: لأنه سيُعَزِّزُ تَوجُّهَه الإصلاحىَّ المُبَشَّرَ به، وسيُعادِلُ الضغوطَ الواقعةَ عليه من أطرافٍ محليَّةٍ وإقليميَّةٍ عدّة.

والأهمّ أنه سيُحَوِّطُ على الدولة من التغَوُّل الإسرائيلىِّ، ويُوفِّرُ لها رافعةً حيويَّةً فى المحافل الدولية، تنوبُ عنها فى صيانة الحقوق وتثبيت الأوضاع القانونية، لحين اكتمال أَبنِيَتِها وامتلاك القُدرة الكاملة على التمثيل الأصيل لنفسِها؛ خارج حال التشَظِّى الحالية، وبعيدًا من صِفَة الإرهاب اللصيقة بقائدِها الجديد حتى الآن.
اجتماعُ العَقَبة فرصةٌ مُهمَّة للسوريِّين جميعًا. وإن كان على طرفٍ أن يُبادِرَ باغتنامها؛ فإنهم الحُكَّام الجُدد فى دمشق، ومن يُؤازرونهم أو يسعون لتمكين سُلطتهم. إرساءُ الدولة الجديدة على ركائزَ صالحةٍ؛ سيضمنُ الذهابَ للمُستقبل بانقطاعٍ كاملٍ عن الماضى، ويُحصِّنُ النظامَ المُقبلَ من تكرار خطايا سابقيه. لا بديلَ عن الشرعيَّة الوطنية، ولا أُفقَ لصيغةٍ تتعالى على بيئتها، أو تسبحُ فى مياه الحُكم بجسدٍ مُنهَكٍ وأطرافٍ مَبتورة!

فاعليّةُ الإسناد تتوقَّف قَطعًا على استقبال سُلطة الانتقال؛ إنما يتعيَّنُ ألَّا يتوقَّف العربُ عن المُحاولة. بيانُ العَقَبة يجبُ أن يتبعَه عملٌ إقليمىٌّ ودولىٌّ لتثبيتِه، واتِّصال مُباشرٌ بعاصمة الأُمَويِّين، وانفتاحٌ على المُكوِّنات السوريَّة جميعًا. إنها مرحلةُ بناءٍ من واجبِ الجميع أن يُسهِموا فيها؛ على قدر طاقتِهم، وكيفما تيسَّر لهم.
الاستحسانُ أو الانصراف لن يُبدِّلا من حقائقِ الواقع شيئًا، ولن يُغيِّرا دروسَ الماضى، وما يُؤخَذ اليومَ بالرضا، فغدًا قد ينتزعُه الشعبُ غَصبًا. التاريخُ حكيمٌ ماكر، وعِبَرُه تلفُّ فى دائرةٍ سرمديَّة. المُهمُّ ألَّا تُترَك سوريا وحدَها فى عين العاصفة، وأن يكون الإخوةُ جَاهِزِيْن دائمًا؛ لإسنادها فى المَسير، أو لإقالتِها من العَثَرات؛ لكنها ستصلُ فى كلِّ الأحوال؛ على أطلال العائلة الأسديَّة، أو على قبورِ بُدلاء لا يُحسنون القراءة والاعتبار!










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة