فى أول يناير 1970 حينما ضربت إسرائيل مصنع أبوزعبل وقتل أكثر من 70 عاملا، ثار عبدالناصر ثورة عارمة واستدعى السفير السوفيتى وقتها، وأخبره بضرورة الإسراع بتسليم بطاريات صواريخ سام 3 وتعزيز سلاح الدفاع الجوى وقتها، حتى لا تصبح سماء مصر مستباحة للطيران الإسرائيلى بعد أن وصلت للعمق المصرى على مشارف القاهرة، وضربت التجمعات العمالية والسكانية بكل سهولة، وسافر جمال عبدالناصر إلى موسكو ووعدوه بسرعة تسليم صواريخ ومنصات الدفاع الجوى وأيضا الطائرات تى يو 16 ولكنهم لم يفعلوا!
مما دفع جمال عبدالناصر إلى قبول مبادرة روجرز فى يونيو 70 التى نصت على الانسحاب، ووقف إطلاق النار، وتفعيل وساطة أمريكا لتسوية مشكلة الشرق الأوسط، وبعد أن فشلت المبادرة كما هو متوقع، وأثناء سريان محاولات تلك المبادرة حاول عبدالناصر أن يناور مرة أخرى مع موسكو وزارها وطلب التسليح، ولكنه عاد بلا مناورة وبإحباط حط من صحته هو شخصيا، فلقد كان يرمى كل الزهر فى حجر السوفيت مستغنيا عن الدول العربية وأمريكا وأوروبا! فلقد خدعه حبه الوحيد وخلى به.
تلك المشاهد الحزينة فى مسار عبدالناصر كانت تحت أعين السادات، وأشرف بنفسه على تخلى السوفيت عنه يوما بعد يوم، ومن هنا أيقن السادات أن أمريكا تملك 99 % من أوراق اللعب والواحد فى المائه المتبقية لم يستغلها السوفيت يوما!
لا يعلم الكثير أن الرئيس السادات يسعى للسلام منذ توليه المسؤولية، ويشرع فيه فى كل لقاءاته الخارجيه، وقد أطلق أول مبادرة للسلام فى 1971، ولكنه كان يسعى لسلام متوازن لا يتبع نظرية بن جوريون التى نشأت عليها إسرائيل، والتى تتبنى مبدأ «لا بد من فرض الصلح والسلام على العرب بالقوة».
لم يطمئن السادات يوما أن السوفيت كانوا حليفا حقيقيا، فقد كانوا يستنزفون قواه لصالح بسط هيمنتهم هم على المنطقة، ومد جغرافيتهم عن طريق توطيد نفوذهم أو السعى لجعل مصر وكيلا لهم، وهذا ما رفضه السادات رفضا قاطعا، ووضع له عنوانا عندما طرد الخبراء الروس قبل حرب 73.
جمع القدر مسار كارتر والسادات إذ إنهم نشأوا فى الطبيعة الريفية، وتجولوا فى المزارع حفاة الأقدام ودخلوا الجيش، وكأن القدر يدير حياة قادة ملهمين ليلتقوا فى النهاية ويتفاعلوا فى إقرار سلام مذهل، ظل مسارا لحديث قومى عربى وعالمى لم ينتهى، وحصل جميع قادته على جائزة نوبل فور السلام وبعده.
تولى الرئيس الأمريكى كارتر فى سنة 1977
وكان كارتر أول رئيس يدرك محورية المسألة الفلسطينية، ويسعى إلى معالجتها بطريقة جدية ومتواصلة، خلال عامه الأول فى الرئاسة، حاول عقد مؤتمر دولى فى جنيف لمعالجة النزاع العربى - الإسرائيلى بمختلف جوانبه، بما فى ذلك الشق الفلسطينى، وفجأة حدثت نقطة تحول محورية، وبدأ كارتر فى وضع خطط متعددة الأطراف جانبا والعمل بدلا من ذلك على تعزيز عملية السلام الثنائية بين مصر وإسرائيل، التى أدت إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد فى العام 1978.
على الرغم من أن اتفاقية كامب ديفيد كانت «وما زالت» موضع ترحيب حار فى الولايات المتحدة، أعتبر الكثير من الساسه أنها عطّلت السعى إلى تسوية أوسع نطاقا على مستوى الأمة العربية بالكامل.
وقد يكون دخول كارتر الملهم على خط السلام والدعم المطلق لاتفاقية كامب ديفيد هو فاصل دراماتيكى عزز نفوذ أمريكا فى الشرق الأوسط بدلا من الاتحاد السوفيتى، فلولا تدخل كارتر وإصراره على إنجاح السلام لتغيرت الخريطة الجيوسياسية لصالح الاتحاد السوفيتى فى الشرق الأوسط حتى الآن، ولا نسرف إذا قلنا إن تنحية الاتحاد السوفيتى من الشرق الأوسط بعد معاهدة كامب ديفيد من العوامل التى أثرت فى تآكل الاتحاد إلى أن تفكك فعليا!
الآن تولى جورباتشوف فى 1991، وإخلاء المنطقة من الاتحاد السوفيتى بإعلان معاهدة السلام فى 1977، له بالغ الأثر فى تشكيل السياسة العالمية، وقد تكون حنكة كارتر ورئيس أمريكا تجلت فى تلك الصفقة بوضوح.
السادات قرأ المشهد ونفض غبار كل ما هو سوفيتى من حوله، وانتقل للمربع الأمريكى فى شجاعه وتغير دراماتيكى فاعل لا يقوم به إلا سياسى قارئ للمستقبل وعارف للتاريخ، وقد يكون مسار السادات والسوفيت والأمريكان ملهما فى فهم ملفات الصراع العربى الإسرائيلى، وإن تحولت القوى وتبدلت واحتلت إيران مساحة مما كان يحتله الاتحاد السوفيتى قديما!
إن نصر السادس من أكتوبر الملهم ثم معاهدة السلام واسترداد كامل الأرض المصرية المحتلة مر عبر مجموعة معقدة من العمليات الحربية والسياسية، التى تعكس بصدق فهم الرئيس السادات لواقع أرض المعركة وسماء السلام. إن النصر المدوى وقطع يد إسرائيل الطولى كما كانوا يزعمون وتدمير خط بارليف والعبور لهو ملحمة بحق فى سماء عربية قاحلة تدور فى نفس الفلك وبأدبيات فارسية فى حين أن الحق عربى!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة