أحمد إبراهيم الشريف

لعنة الخواجة لـ وائل السمري.. رواية ملحمية شعارها "صنع في مصر"

الخميس، 24 أكتوبر 2024 11:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أجمل الأفكار تلك التي تسكنك ولا تفلتك أبدًا، الجاثمة على قلبك حتى تنتهي منها وتمنحها حقها في التأمل، وأصدق الشخصيات أولئك الذين تحب أن تكتب عنهم، وأن تمنحهم فرصة ثانية للتعبير عن أنفسهم، ومن متابعتي لوائل السمري وما بذله من مجهود في روايته "لعنة الخواجة" الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، أقول إن الفكرة أمسكت بروحه ولم تفلتها حتى أخذت حقها كاملًا من التأمل والرؤية، وخرجت كما أرادت، وأن المهندس أدريان دانينوس حصل على فرصته كاملة لعرض قضيته والتعبير عن نفسه، بل تحول إلى رمز بصورة ما، وهكذا يفعل الفن.

 

بعيدًا عن الذاتية .. قريبًا منها

لعنة الخواجة هي الرواية الأولى لوائل السمري، الشغوف بالبحث في التراث واقتنائه، يدفع آخر جنيه يملكه من أجل قيمة رآها في لوحة أو آلة موسيقية أو كتاب نادر، وقد كانت بداية الرواية من هنا، من ورق عثر عليه، ثم اكتملت الفكرة واختارت أن تخرج في شكل عمل روائي.

ومع كون الأصل في الرواية هي الوثائق التي حصل عليها السمري، لكنه لم يركن إلى هذه الفكرة وحدها، لقد راح يبحث عن الفن، ومن هنا فكر في البحث عن المزج بين شخصيتي "ناصر" المعبر عن العصر الحديث، بما يحمله من دلالة، وبين "دانينوس" وما يحمله من دلالة مغايرة.

ولأن الرواية الأولى لأي كاتب متهمة دائمًا بأنها تعكس جانبًا من شخصية الكاتب، لذا رحت أبحث في شخصية "ناصر" عما يشبه وائل السمري، وكيف استطاع أن يوظف معارفه ورؤيته في الحياة دون أن يقترب حد التماس مع شخصه، ودون أن يتورط في محاباة شخصياته، بل جعل منطق الفن هو الذي يقود، وبالتالي صار وائل السمري قريبًا من الذاتية وبعيدًا عنها في الوقت نفسه.

الملحمية.. سر الحبكة

جانب آخر مهم تتميز به رواية لعنة الخواجة يتعلق بالملحمية، فالحدث كبير والتعبير عنه جاء مناسبًا، فما فعله دانينوس وما سعى إليه ألقى بظلاله على الجميع، كما أنه كان شخصية متشابكة، وطموحة، وصلبة، وهذا الطموح وتلك الصلابة كانا يجعلانه لا يخشى أحدًا، ولا يعترف بتحديات، كما أنه كان رجلًا مسكونًا بالخيال، والخيال هو من يصنع الملحمية.
الرواية كما قال عنها الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد هي سيرة للزمن، فهي تمتد على مدى أكثر من قرن من تاريخ مصر، وأحداثها لا تمر مرور الكرام على الهوية المصرية، بل تصطاد من كل عصر روحه، ومن كل زمن مفتاحه، لتشكل لنا سيرة وطن.

كما أن شخصيات الرواية على كثرتها وتعددها لم تكن مجرد شخصيات مساعدة، بل جاءت مرسومة على مستوى الكتابة ودالة على مستوى الرؤية، فالرواية يبدو أن لها بطلين (دانينوس وناصر) لكن في الحقيقة  كل من ظهر فيها بطل، وفي ظني أن ذلك يعود لكون وائل السمري فكر في شخصيات  الرواية على أساس أنهم "نماذج" مكتملة، وكركترات لها حضورها.

جزء آخر شكل ملحمية الرواية أطل علينا من اللغة، فقد احتفظت بنفس شعري منح الرواية درجة من الحيوية وفي الوقت نفسه  لم يطغ على  السرد أبدًا،  بل حدث نوع من المزج الفني لصالح الحدث الروائي، وظهرت بعض الحوارات العامية مؤكدة الواقع وما يجري فيه.

رواية معرفية

المعرفة جزء أساسي من مكونات الفن، وفي رواية لعنة الخواجة لا تكاد تخلو صفحة في الرواية من المعرفة المتنوعة  في الموسيقى والتاريخ والعلم والنفس والاجتماع، ومع ذلك لم يأت التوظيف المعلوماتي من باب الإقحام وحشو المعلومات، ولا جاء جافًا مقطوعًا عن روح العمل، بل جاء بين درجتين إما كاشفا عن شخصية ما وطريقة تفكيرها أو جزءًا من حوار، وهذه المعلوماتية التي تبدأ من أخطر معلومة في الرواية وهي أن أدريان دانينوس المصري اليوناني هو صاحب فكرة السد العالي، وهي المعلومة المجهولة لعموم الناس، مرورا بمعارف أخرى تمثل في مجملها شخصية مصر على مدى السنوات، حيث الآثار والمسرح والصحافة والمؤسسات وما جرى فيها.

فرادة الفكرة

الفن فتوحات، ربما تحيرك الفكرة كثيرا وتعاني في البحث عنها، لكنها تنبت في رأسك فجأة، تمنحك نفسها ذات وقت يروق لها، نعم، الأفكار هي من تختار وقتها، وفي رأيي أن هذا ما حدث في لعنة الخواجة، وتمثل ذلك في نقطتين أساسيتين، الأولى عندما اختار وائل السمري أن يخرج قصة دانينوس فى شكل رواية بدلًا من تقرير صحفي أو كتاب وصفي، والمرة الثانية وهي الأصعب والأجمل عندما أجاد المزج بين الشخصيات وابتكر فكرة التلاقي، بعيدًا عن الفكرة النمطية (الرواية الإطار)، وفكرة المزج أعطت مساحة أكبر للرواية كي تضع زمنين في مقابل بعضهما البعض، وأن تسمح لهما بالاتفاق والاختلاف، دون أن يبدو ذلك قسرا أو غريبا.

الانشغال بالمصائر

من ميزات لعنة الخواجة وما أكثرها، قدرتها على فرض سيطرتها عليك، ستتورط حتما مع شخصياتها، ستفكر في مصائرهم، تود لو لديك القدرة على المساعدة، ستشعر بأفراحهم وأحزانهم، ستتأمل كثيرا في دانينوس وعقله وذكائه وطاقته وقدرته على تصديق نفسه ودفاعه عن أحلامه، ستقول لنفسك لما لا أقاتل في الحياة على أحلامي مثلما فعل هذا الرجل، ستفكر في (الشيخ فورة) وحياته وسيظل مشهد سيره في الشارع ويداه خلف ظهره متشابكتان كأنها مربوطتان بحبل أكثر المشاهد ألما ودلالة.

لعنة الخواجة رواية مصرية خالصة، بها روح المكان والزمان، لا يمكن لها أن تحدث إلا في مصر بتاريخها الممتد وبخفة ظلها الدائمة وبأبطالها وأساطيرهم وأفراحهم وأحزانهم، وقدرتهم على الإبداع.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة