إن كان لمصر شهرٌ بعينِه يُمكن أن تُعرَف به؛ فلعلَّه أكتوبر. صحيحٌ أنَّ أيامَّنا اللامعةَ مُوزَّعة على طُول السنة، ولنا فى كلِّ تاريخٍ محطَّةٌ أو أكثر يتوجَّبُ الوقوف عندها بمَحبَّةٍ وإجلال، لكن ما يجمعُنا بافتتاحيَّةِ الخريف أكبر من كلِّ ما عداه، على الأقلِّ فى الذاكرة الوطنيَّة الطازجة، وقد اتَّخذَ الشهرُ العاشرُ فى وَعينا صِفَةً تتجاوزُ ترتيبَه وطبيعتَه، إذ كان بمثابة البداية على خلاف موقعِه فى ذيل السنة، وصار ربيعًا بالمعنى النفسىِّ بعدما تكفَّل بإزالة آثار ما قبله من عواصفَ وشتاءاتٍ قاسية. صار الرَّبطُ شَرطِيًّا مع الحرب، ولا يُمكن أن يَرِدَ أكتوبرُ على الذهن بعيدًا من صورة العبور العظيم، ولا أن ننطقَ بكلمةِ النصر دون أن ترتَسِمَ فى المُخيِّلة ظهيرةُ يومِه السادس قبل أكثر من نصفِ القرن، وعلى مذهب الناظرين للتاريخ باعتبارِه جُغرافيا سائلةً، وزمنًا يتنفَّسُ من رئات البشر أو العكس، فقد صار أكتوبرُ ظِلاًّ لسيناء وملاحمِها، وتفجَّر فى مِخيالِنا الحىِّ جنودًا ومُقاتلين بكاملِ عدَّتهم، وقادةً يُحسنون الحربَ بقدر ما يُتقنون صيانةَ مُكتسباتها وصناعةَ السلام. إنه الصفحةُ الأكثرُ جلاءً فى سيرة البلد والناس، والدليلُ الذى لا تنطفئ جُذوتُه على اختراق المستحيل، واستحقاق الوقوف على الماضى بفرحٍ وافتخار، وأنَّ المُناسبات الحقيقية الصادقة تزدادُ وَهجًا كلَّما تقادَمَتْ، وتنتعشُ ويُعادُ تجسيدُها كلَّما حلَّت مواعيدها، ومن أقلِّ إشارةٍ أو رسالة تنبعثُ ذكراها كأنها كانت بالأمس القريب.
العُقدة الغليظة بين الشهر والنصر، أو بين أكتوبر بصِفَتِه الزمنيّة العابرة، وحضورِه التاريخىِّ الماثل فى مُدوَّنة الحرب وما تلاها من معركةٍ سياسيّةٍ لا تقلُّ حِدَةً ودهاء، يجعلُ من كلِّ مُناسبةٍ فى أيَّامنا الراهنة إصبعًا يُشير إلى القوارب المطاطيَّة ورُؤوس الكبارى على ضِفَّة قناة السويس. فى المُستهَلّ؛ حضرَ الرئيسُ السيسى حفلَ تخرُّج الدفعات الجديدة من الأكاديمية العسكرية، وبعده بفاصلٍ قصيرٍ كان على تراب سيناء فى اصطفاف تفتيش حرب الفرقة السادسة المُدرَّعة بالجيش الثانى الميدانى، وأمسِ احتفلَ مع نُخبةِ القوَّات المُسلَّحة فى الندوة التثقيفية الأربعين، وبعيدًا من روتينيَّة بعض تلك الفعاليات، أو تخطيطها بقَصدٍ لتُواكِبَ الأجندةَ السنويَّة لإحياء ذكرى العبور؛ فإنَّ ما لا نحتاج فيه لإشارةٍ أنَّ كلَّ حدثٍ أو كلمة رئاسيَّة مُؤرَّخة بأحد أيَّام أكتوبر، ستُحيلُ إجباريًّا على معنى الحرب ودلالاتها الساكنة فى الوعى، وأنَّ كلَّ ظهورٍ للزىِّ العسكرىِّ لا ينفصلُ حتمًا عن سيرة المُؤسَّسة، وأعلى فصولِها كانت ضدَّ الاحتلال، فضلاً على ما يترسَّخُ فى عقيدتها بشأن الدوائر الأمنيَّة والاستراتيجيّة للدولة، وما تعرفُه وتنقلُه للرجال عن ثوابتها الوطنية وأعدائها الحقيقيين. والقصدُ أنَّ السطوةَ الأكتوبريَّة تفرضُ نفسَها على كلِّ مظهرٍ طارئ أو اعتيادىٍّ طُوال الشهر، ولا فارقَ بين أن يقفَ القائدُ الأعلى وسط الجنود فى الأكاديمية وعلى ضِفَّة القناة، أو أن يُلقى كلمةً فى أُسبوع المياه، ويفتتح مشروعًا جديدًا مثل محطَّة قطارات الصعيد الجديدة فى بشتيل. سيظلُّ أكتوبر حاضرًا بالإحالة بين الحدث وغرفة العمليَّات، جبهة الحرب وجبهات العمل، أو باستذكار تاريخ اليوم وتدوينه فى البيانات والأخبار، ودائمًا وأبدًا بما يُحفِّزه لدى المصريِّين جميعًا، من أوَّل المواطن العادى إلى مقام الرئاسة الرفيع.
كان السيسى قبل أيَّامٍ يتحدَّثُ عن التنمية وطُموحاتها، والتحدِّيات التى كانت وما تزال، وبين جُملة ما قاله أنَّ السادات أثبت تجاوزَه للزمن وقيوده، وهزمَ خصومَه غائبًا مثلما هزمهم وهو قائمٌ بينهم. هكذا قفزَتْ حربُ أكتوبر مُجدَّدًا من دفاتر التاريخ لتسكُنَ بيتَها الأثير فى الجغرافيا والزمن، ولم تكُن الفكرةُ هُنا أن تشهدَ قيادةٌ حاليةٌ لأُخرى سابقة، ولا أنْ يُعيدَ الرئيسُ الاعتبارَ لسلفِه البعيد وشريكِه فى شرف الانتماء للعسكرية المصرية، وهو دائمُ الحديث عنه بإجلالٍ كبير على أيَّة حال؛ لكنَّ المُراد على ما تصوّرتُه وقتَها أنَّ الأيَّام فى شجارٍ مع بعضها، ويُفصِحُ التالى منها عمَّا كان غامضًا فى السابق، وهكذا تتَّضحُ الحقائقُ وتكتسبُ قيمتَها الإقناعيَّة من الفَرز والمُقارنة والتقييم، ومن حِسبَة الأهداف والنتائج، لا الوسائل والخيارات الصِّفريّة، وإذا كان امتحانُ القائدِ قديمًا أن يستعيدَ الأرضَ والكرامة المُهدَرة؛ فقد اجتازَه بنجاحٍ ساحق وفق المآلات ومنطق الحساب على الخواتيم، وما يجرى على تقييم المعركة يصحُّ فى غيرِها، ويرسمُ خطوطَ فصلٍ سميكةً بين التنظير والتطبيق، وبين الأحلام الورديَّة المُعلَّقة فى الفراغ، والموضوعيَّةِ التى تنطلقُ من أرض الواقع وتعودُ إليها بلا استكبارٍ، ومن دون إفراطٍ أو تفريط.
إنَّ فكرةَ تغطية النصر على غيره من الأحداث لا تعنى أبدًا أنَّ بلدًا بحجم مصر وعراقته يُمكن أن يُختزَل فى حربٍ ليست الوحيدة فى تاريخه، ولا فى نصرٍ حقَّق عديدَ الانتصارات من قبله، وحتى مواجعها المُضنية ومشاعرها الثقيلة لدينا حشدٌ من ذكرياتها السابقة من توالى أكتوبر بامتداد القرون. الأفضليَّةُ هُنا نابعةٌ من القُربى مع الحدث، ثمَّ من طبيعته الإحيائيَّة التى كانت مصرُ فى أَمَسِّ الحاجة إليها، بعد تجربةٍ طويلة مع الاحتلال البريطانى، ومحاولةٍ غَضَّة العُود لرَسم ملامح الوطنيَّة المصريَّة فى عصرها الحديث، ما بعد ثورة يوليو وإعادة بناء منظومة الحُكم بطابعٍ قاعدىٍّ لا تحكمُه شرعيّة الدماء الزرقاء. وأيَّامُنا مع الشهر لا تُعَدُّ قديمًا وحديثًا، أكان فى الفخر أم الأسى، من ثورة القاهرة الأُولى ضد الحملة الفرنسية قبل عامين من انتهاء القرن الثامن عشر، أو اتفاقية القسطنطينية لحريّة الملاحة فى قناة السويس 1888، وكان لها مذاق الاستعمار الناعم، بينما تُرافقه نسخةٌ إنجليزية خَشِنَة وثقيلة الوطأة، كانت تُجرِّبُ سنواتها الافتتاحيّة فى نهب المصريين. وستُسعفنا الذاكرةُ أيضًا باندلاع أُولى مواجهات معركة العلمين 1942، وانتشار الاحتلال فى القناة 1951 بعد إسقاط معاهدة 36، وإلغاء اتفاقيّة الحُكم الثُنائىِّ للسودان فى العام نفسه، وتوقيع اتفاقية الجلاء 1954، واجتياح إسرائيل لسيناء وبدء العدوان الثلاثىِّ 1956، وقَطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا، وزلزال 1992، وافتتاح مكتبة الإسكندرية 2002، وكثيرٍ من الشواخص التى يُمكن تعدادُها والوقوف على آثارها، وأغلبُها تركَتْ آثارًا ماديَّة ومعنويَّة على البلد فى بِنيَته السياسية، وعلى وعى الشعب وإحساسه بهُويَّته مَدًّا وانحسارًا.
غير أنَّ المُدوَّنةَ تتوقَّفُ اضطراريًّا أمام ثلاثة أحداثٍ كأنها تناسَلَت من بعضها: مقتل القائد المملوكىِّ سيف الدين قطز بعد دَحره للمغول فى عين جالوت، وإطلاق الرصاص على عبدالناصر فى المنشيَّة بعد أيَّامٍ من توقيع اتفاقية الجلاء، واغتيال السادات فى الذكرى الثامنة لانتصاره العظيم. كانت الوشايةُ حافزَ بيبرس فى الجريمة الأُولى، وسفالةُ الإخوان فى الثانية، بينما مثَّلتْ الثالثةُ واحدًا من أخطاء الرئيس الشهيد، وأعلنت عن بدء حقبةٍ من مَدِّ الأُصوليَّة الإسلامية المُتطرِّفة فى المنطقة، حُمِلَتْ على عواصف الصحوة الآتية من الخليج، وما تزال آثارُها باقيةً لليوم فى فسيفسائيَّةٍ داميةٍ من الميليشيات المُلوَّنة عقائديًّا ومذهبيًّا، وفى الانتماء والتمويل، والمُتسلِّطة على رقاب البلاد والعباد احتكارًا لكثيرٍ من العواصم، فى خصومةٍ مُعلَنَة وشديدة التوحُّش مع فكرة الدولة الوطنية.
الهزيمةُ فى يونيو 1967 كانت انتكاسةً لمشروع الدولة الوطنيّة قطعًا؛ وأنهت ما تبقَّى من خطاب القوميَّة الذى لم يستنِد لأيَّة أُصول سوى تلاصُق الجغرافيا وإن تفرَّقت القلوب، والأصلُ أنَّ هزائمَ الدُّوَل لا تُعوِّضها العصاباتُ، وأنَّ أىَّ انتصارٍ لا يُصرَفُ لصالح الكيانات الجامعة يتبدَّدُ فى الهواء بالضرورة، أو يصبُّ فى خزانة أجنداتٍ ومشاريع ربما تُعادى القضايا التى ترفعها كعباءة عثمان، أو تتربَّص بها على أمل تفكيك الرابطة أو تجزئة المُشتركات العابرة للتطييف وعَرقَنَة المُجتمعات. لا فارقَ هُنا بين نزاعاتِ المماليك البينيَّة فى نَحر قُطز على شرف انتصاره ذى الصِّفَة الإقليمية، ولا بين خصومة الرجعية الدينية مع فكرة الدولة الحديثة فى اغتيال السادات ومحاولة إزاحة عبد الناصر.
أكتوبر على هذا المعنى كان جدارًا عاليًا مع العقلية القديمة فى إدارة المُستجدَّات، ومع سذاجة الأيديولوجيا وقيودِها الثقيلة على الحركة والفاعليَّة، لقد حاربَ السادات بالمصريِّين ومعهم على ثلاث جبهات: العدوّ المُباشر بغرضِ استعادة الأرض وتطبيب جرح الوطنية المصرية النازف، والخطابات الكُبرى التى لا تقتنعُ إلَّا بإلقاء القضايا وأصحابها فى محارقَ أبديَّةٍ دون مَنجاةٍ أو مَنفعة، وأعداء الداخل الذين يربطون أقدامَهم فى القرون الغابرة، ويستميتون فى جَرِّ الجميع معهم، وغايتُهم من انتخاب المسألة العَقَديَّة من بين مُكوِّنات الهُويَّة جميعًا، أن يُحدِثوا الشِّقاق على أرضيَّةٍ مَاضَويَّة تحمِلُهم إلى السُّلطة، أو تحمِلُ البلدَ بكاملٍه لحقبةٍ تسيَّدَت فيها الأوهامُ والنزاعات، وسُحِقَتْ تمايزاتُ البيئات المحليَّة لصالح إنتاج صورةٍ شُموليَّة مُعمَّمة، ربما أفلحَتْ فى صدر التجربة لظروفٍ واعتباراتٍ تاريخية؛ لكنها ما أنتجَتْ من يومِها إلَّا الخراب والاقتتالات الأهليَّة. والسَّيرُ عكس الزمن لا يُورثُ إلَّا خسارة الحاضر، فضلاً على أنه يُجرِّد السائرين للوراء من أسلحة الزمنين معًا.. وهكذا نُعاينُ اليومَ خرابَ أربعِ حواضر عربيَّةٍ على الأقلّ، لأنَّ بعضَ بَنِيها ما خاضوا حروبَهم بحقِّها، ولا تركوا الميدان لغيرِهم من القادرين عليها، أو أقلّه لفكرة التعلُّم بالتجربة والخطأ.. وكان انتهازُ فرصةِ أكتوبر على الوجه الصحيح يعفى من الوصولِ إلى ما وَصَلْناه، وكانت إراقةُ دَم السادات غدرًا مُقدِّمةَ السيناريو الذى أُرِيدَ للمنطقة، وها هى تقعُ فيه بالفعل.
زُرِعَت إسرائيلُ فى فلسطين لاستهداف المنطقة بكاملها قطعًا؛ لكنها اتَّخذت من اشتباك مصر المُبكِّر مع القضيَّة مادةً مُعزِّزةً لها فى حرب الذرائع، ولا يُمكن فى القراءة السياقيَّة إلَّا ربط الوقائع ببعضها، من معارك 1948 إلى الإدارة المصريّة لغزَّة ثمَّ العدوان الثلاثى وإغلاق مضيق تيران وإجلاء القوَّات الدولية. أخطأت السياسةُ حينما كان العدوُّ جاهزًا بالسلاح، وعندما انتبهنا لشرطِ القوَّة فى المُواجهة؛ كانت الهزيمة قد وَقَعَتْ على رؤوسنا واقتُطِعَت الأرضُ من خريطة الوطن.
والنظرُ لتجربة «السادات» يجبُ ألَّا يُغفِلَ كلَّ هذه الأبعاد أو يتعامى عنها، ولا أن يستبعدَ أنَّنا خسرنا فى المُناكفات الناعمة قبل أن نخسرَ بالبطش والعدوان.. وعليه، كان الرجلُ يُراهن منذ اللحظة الأُولى على أن يُناورَ الفِخَاخ كلَّها: انكسار موازين القُوى بين القاهرة وتل أبيب، ورخاوة الحُلفاء الشرقيِّين تحت ظلِّ التحوُّلات الأيديولوجيّة وتبدُّلات المواقف، وارتباك العالم بكاملِه فى مناخ الحرب الباردة، وقد تبدَّى أنَّ الولايات المُتَّحدة ماضيةٌ فى إحكامِ قبضتِها على النظام الدولىِّ، ومنذ اعترفَ الرئيسُ هارى ترومان بالدولة العِبريَّة بعد ثلاث عشرةَ دقيقةٍ فقط من إعلانها، صار مقطوعًا بأنَّ الجولات المُقبِلَة من اختصام الصهيونية ستكونُ مع إمبراطور العصر الجديد رأسًا، وما لم تكن سوفيتيًّا أو تابعًا للسوفيت فلا قِبَل لك بواشنطن وضميرِها المُعتلّ؛ ناهيك عن أنَّ ورثة لينين وستالين أنفسَهم رفعوا الرايةَ البيضاء بعد أقلّ من عقدين.
الرئيسُ الآتى على رُكام تركةٍ ثقيلةٍ استوعبَ الدرسَ مُبكِّرًا، وآمنَ بأنّه «لا يُكلِّفُ اللهُ نفسًا إلَّا وِسعَها»؛ لذا أراد أنْ يكسرَ حالة الجمود على الجبهة بأقصى ما تصلُ إليه يداه، ثمَّ أن يستثمرَ حصيلتَه الميدانيَّةَ فى تحصين الميدان نفسِه من الارتدادات المُضادّة. لقد سار تحت ظلِّ السلاح إلى أن صار قادرًا على الانتقال لمرحلةٍ أكثر تقدُّمًا، وأعاد تفعيلَ السياسة بصِفَتِها صورةً أُخرى من صُوَر الحرب، وما أنفقَه على الجبهة استردَّ مُقابلَه المطلوبَ فى غُرَف التفاوُض. المُراهقون وحدهم سيسألون لماذا لم يُحارِبْ أمريكا ولن يلتفتوا إلى النزعة الانتحاريّة المُخبَّأة فى السؤال، ولا إلى تجميد المشهد وإبقاء الأرض المُحتلَّة على حالها. العِبرةُ بالوصول لا الطريق؛ والفلَّاح المُنوفىُّ الماكرُ وصلَ فعلاً، وإن كان من طريقٍ طويل، فإنه بتكلفةٍ أقلّ، ودون مُخاطرةٍ بالتِّيه أو الضياع الكامل.
لا يخلوُ يومٌ فى أكتوبر تقريبًا من مشهدٍ لامع، أو بطولةٍ تستحقُّ أن تُروَى حتى فى زمن الهزيمة قال المصريِّون كلمتَهم مُبكِّرًا؛ فأغرقوا المُدمِّرة إيلات على سواحل بورسعيد بعد 4 أشهر من النكسة، وأكَّدوا عقب معركة رأس العشّ على ما صار يُعرَفُ بحرب الاستنزاف، وكانت لها أدوارٌ مُهمَّة فى نَفضِ الغُبار الثقيل، وبدء مسيرة المُراجعة والتقويم، وإعادة بناء الجيش على مُرتكزاتٍ أكثر رسوخًا، لا فى القوَّة الصُّلبة فحسب؛ إنما فى الوعى السياسى الذى يقفُ وراءها ويَقودُها، وإذا كان الشهرُ بكامله مُناسبةً لاستذكار تفاصيل النصر؛ فلعلَّها ليست مُصادفةً أنْ تتزامنَ الندوةُ التثقيفيَّة مع ذكرى معركة المنصورة الجوية، وقد خاض فيها طيَّارونا مواجهةً غير مُتكافئة فى العدد والإمكانات، وبعد واحدةٍ من أطول جولات القتال الجويَّة العالمية حجمًا وزمنًا، عادت الطائراتُ الإسرائيليّةُ لحظائرها ناقصةً ومُكلَّلةً بالإخفاق والعار.
نحو 53 دقيقةً كاملة، و69 طائرة ميراج أمام 120 إلى 160 من طرازات فانتوم ونيشر وسكاى هوك. فَقَد العدوُّ 44 طائرة منها 15 فى الجوِّ و29 بالدفاعات الأرضيَّة، بحسب البلاغ 39 للقوات المسلحة، وقد عُرِفَ عن بيانات أكتوبر أنها انقطعت تمامًا عن تجربة يونيو، وتحلَّت بقدرٍ عالٍ من الإقدام والمُكاشفة، حتى إنها أورَدتْ فى البيان السادس عن افتتاحيَّة الحرب أننا خسرنا 10 طائرات فى إحدى المُواجهات وأفقدنا الصهاينةَ 11 طائرة. والقيمةُ فى معركة المنصورة تتجاوزُ وَصفَها وطبيعتَها العَمَلانيّة، إذ تتجسَّدُ فيها قِيَمُ الإخلاص والأمانة والجاهزية والعَزم الذى لا يلين، لقد كانت ردًّا على خطوة تطوير الهجوم لتقليص الضغط عن الجولان، التزامًا بالتوافُقات والعمل المُشترك مع الجبهة السورية، وقد بُوغِتنا فيها وانتصرنا، ولم نكن الأكثرَ ولا الأحدث، وأرادت إسرائيلُ إخراجَ مطار طنطا من الخدمة وتحييد صواريخ سكود فى قاعدة المنصورة، وما فازت بأىٍّ من أهدافها، والأهمّ أننا نكَّلنا فيها بأثمن أُصول العدوِّ، ومناطِ فخرِه، وعمود استراتيجيَّاته الحربيَّة؛ تأسيسًا على محدودية عُمقِه الجغرافىِّ واتساع دائرة مواجهاته الإقليمية؛ ألا وهى قُوّته الجوّية.
بجانب مشاهد العرفان، وما شهدته الندوة التثقيفية من تكريمٍ للباقين من الأبطال، واحتفاءٍ بالراحلين بالوَصفِ والمكانة؛ فقد جدَّد الرئيسُ التأكيدَ على ما يُورِدُه دائمًا بشأن أكتوبر، وأنه كان تعبيرًا عن مضاء العَزم وأَخْذِ الأُمور بحقِّها، وعن الكفاءة فى العسكرية والسياسة، ومثلما عبَّر النصرُ عن لحظةٍ مِثاليّة فعَّلت فيها الدولةُ قُدراتها الشاملة؛ فإنه يُشدِّد على أهميَّة استبقاء تلك الدروس فى الوعى والمُمارسة؛ لا على صِفَة الاحتياج البديهىِّ الدائم بطبيعة الحال؛ إنما لناحية أنَّ المخاطرَ المُحدقة بالإقليم قائمةٌ ومُتعاظِمَة، وتتطلَّبُ دوامَ اليقظة والجاهزية، وأنَّ خيارَ السلام لم يكُن انسحابًا من المُواجهة؛ بقدر ما كان تكييفًا مُغايرًا لها. وما كان قديمًا ويُفتَقَدُ اليومَ؛ أنْ تقعَ المُوازنة الموضوعيَّةُ الناضجة بين الطموحات والإمكانات، وألَّا تُرهَنَ المُقدَّراتُ الحاضرةُ على طريق الآمال البعيدة، دون وَصْفةٍ للوصول إليها أو الرجوع عنها عند الاضطرار.
والحال؛ أنَّ السادات أخطأ وأصاب كعادة البشر؛ لكنه تفوَّق على القريب قبل البعيد؛ والذين ناصبوه العداء قديمًا يُحاولون السيرَ على دربِه اليوم، أو يعضّون أصابعَ الندم على ما ضَيَّعوه سابقًا. كلُّ لحظةٍ تنزفُ فيها خريطةُ الإقليم دون أملٍ فى التداوى بمثابة اعتذارٍ للرئيس الشهيد، وكلُّ ارتهانٍ فى صراعات المحاور والأجندات يشهدُ لعقيدته الوطنية الصافية، وكلُّ انكسارٍ لتجَّار الشعارات يُرسِّخ ما أبداه من بأسٍ واقتدار، دون شعبويّةٍ عاطفيَّةٍ أو صخبٍ دعائىٍّ فارغ، أمَّا كلُّ يومٍ من أكتوبر فإنه فرصةٌ للمُراجعة والاعتذار وتصويب المسارات، وما لم يَقَعْ التقديرُ للمشهد الراهن من محطَّة عبور المصريين قبل خمسة عقود، وبما اكتنفها من ظروفٍ وتحدِّيات وديناميكيّة فى الأخذ والردِّ، ومن تغلُّب «السادات» على ضِباع إسرائيل وذئاب الغرب المُتواطئ معها، فلعلّه لا يُفضِى إلى طريقٍ يصلحُ للخروج من الدوّامة، ولا إلى نضالٍ يزرعُ التراكُمَ ويحصدُ ثمارَه. كلُّها أيّامٌ تتوالدُ من بعضها، والحكاياتُ منصّةٌ دائمةٌ للاعتبار لا التسلية، وأكتوبرُ فى تاريخه البعيد والقريب خيرُ شاهد بالحروب التى أنتجت انتصارات، والمُغامرات التى أورَثَتْ هزائم وانكسارات، والجُغرافيا التى عادت هُنا أو يتصاعدُ أنينُها فى بقيّة الأنحاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة