حازم حسين

حرب تأكل المنتصر والمهزوم.. شواهد الانكشاف والجنون فيما وراء اغتيال العارورى

الأحد، 07 يناير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت الضربةُ قاسيةً؛ بل ربما تكون الأقسى منذ شنَّت إسرائيل عدوانها الغاشم على قطاع غزّة، لا ينحصر الأمرُ فى دلالة استهداف قيادة من الصف الأول فى حماس؛ فلطالما جابهت الحركةُ ذلك وتلقَّت ضرباتٍ لا تقلّ ضراوة، لكن الطارئ اليوم أنه فى سياق حربٍ مُهدّدة بالاتساع، وتحت سقف المحنة التى يعيشها الطرفان بالتساوى، فضلاً على ما فيها من إشارةٍ لتحوُّل الرؤى والتكتيكات، كأنَّ المُواجهة التالية لعملية «طوفان الأقصى» تفتتح فصلاً جديدًا، يبدو أكثر تحرُّرًا من قواعد الاشتباك القائمة، وذاهبًا إلى مدى إقليمى كان الجميع أبعدَ ما يكون عنه، وأكثر تحسُّبًا من انفلاته، وإن كان ثمَّة ما يُمكن استخلاصه؛ فهو انسداد الأُفق وغياب الحلول المُقنعة، وربما البحث عن احتدامٍ تصل نيرانه لأعلى السقوف، على أمل أن تنفتح مساراتٌ بديلة عمّا صار مرفوضًا من الفريقين، لكنها مُغامرةٌ حارقة فى كلّ الأحوال، وما بعدها قد يكون عصيًّا على اللَجْم والإدارة المُنضبطة، وقد يُبشّر بامتحانٍ على طريقة «لم ينجح أحد».
 
فاتورةُ الدم أعلى فى القطاع؛ لكنَّ مرارةَ الهزيمة أشدّ فى تل أبيب، فالجيش المُدجَّج بالسلاح والغطرسة أحرق خلفه ثلاثة أشهر، وآلاف أطنان البارود والمُتفجّرات؛ ولم يضع قدمًا واحدة فى تُربة النصر، ولو معنويًّا، أمَّا الفصائل فإنها لا تزال الأكثر تفوُّقًا؛ إذ كلّما احتفظت بقدرتها على التنفُّس وتطيير صواريخها البدائية، تزيد انكشاف العدو وتُهين سرديَّته ورُزمة أهدافه المُعلنة عن الحرب.. وبعيدًا من الجهات التى تقف وراء كلٍّ منهما؛ فإنهما يختليان بحلبة الصراع معًا، وتُقاس كفاءةُ الأداء بقُدرة الأوَّل على الإيذاء، وباحتمال الثانى وكتمانه للصراخ، ولا تبدو أوراق «نتنياهو» كافيةً حتى الآن، ولا أن المُقاومة بصدد الخروج من ألمها الصامت، وربّما على هذا الشرط جاءت عملية بيروت، وعليه ستكون مرحلة جديدة فى الكرِّ والفر، وتحصيل الأهداف خارج ساحة الحرب المُباشرة.
 
اغتيال صالح العارورى، الرجل الثانى اسمًا فى حماس، وربما الأوَّل فِعلا ودورا؛ فيه من المعانى ما يتجاوز تغييب قائد سياسى بروحٍ عسكرية، أو إضافة قتيلٍ جديد للعدّاد الذى ازدحمت شاشته بالأرقام، كان نائب رئيس الحركة فى طليعة الذين خرجوا عَلنًا بعد «طوفان الأقصى»، وتولَّى جانبًا عريضًا من الخطاب السياسى، فضلاً على دوره فيما يُسمّى «محور المُمانعة» وتنسيقه مع الحلفاء فى حزب الله والحرس الثورى، وهو ابن الضفَّة الغربية ومرتكز القسَّاميين فيها، وأحد الصقور الوديعة أو الحمائم الجارحة فى صفوف القيادة، والقادر على الإمساك بأطراف السياسة دون أن ينسحب إصبعه عن الزناد، ومن ناحية إسرائيل؛ فإنها تقتص باستهدافه من إخفاقٍ قديم لم تبتلع مرارته بعد، وتُطوِّح رسائلها المُشتعلة فى كل اتجاه: لبنان وسوريا والمقاومة أوّلاً، وإيران وتركيا والدوحة ثانيًا، وبينهما نطاقٌ عريض من خَلط الأوراق وإدخال العسكرى فى السياسى والمعلوماتى، والإيحاء بأعلى صوتٍ مُمكن أنها معركةٌ وجودية، وقد تذهب فيها إلى المدى الأقصى، وعلى الجميع أن يقلقوا أو يتحضَّروا للجنون الكامل.
 
قضى «العارورى» عقدين فى سجون الاحتلال على فترتين، وكان له إسهام فى صفقة «شاليط» التى أطلقت زيادةً على ألف أسيرٍ منهم يحيى السنوار، قبلها أُبعِد بأمر محكمةٍ صهيونية إلى سوريا لثلاث سنوات، ومنها لتركيا إلى أن دُفِع للمُغادرة عام 2015، فتنقَّل بين الدوحة وبيروت؛ وبشىءٍ من التبسيط يُمكن اعتبار مقتله رسالةً لكلِّ هؤلاء.. إن «نتنياهو» الذى أبرم مُبادلة 2011 يشعر بندمٍ قاسٍ عليها، وإن كانت يده أقصر من الإمساك بُعنق السنوار؛ فإن التعويض النفسى قد يتأتَّى بمن ورَّطوه فى الصفقة الخاسرة، أو شهدوا عليها، كما لا يخلو قاموس العملية من معانٍ إضافية: الرجل يتقدَّم على كلِّ المكتب السياسى الحمساوى بالخارج قيمةً وأثرًا؛ وإن تأخَّر لقبًا وترتيبًا، ويُقيم فى الخاصرة الهشَّة لمحور الممانعة، وهو حلقةُ الوصل بين أعداء شتّى، وتابوته صالحٌ لأن يحمل من الرسائل ما يعجز آخرون عن حمله، فكأنَّ الذى اتّخذ القرار كان يُعالج خطأً من الماضى، ويفتتح خطيئةً جديدة للحاضر والمستقبل.
 
يصعُب فصل التصفية الأخيرة عن إسقاط مسؤولٍ إيرانى كبير فى دمشق قبلها بأيام، رضى موسوى، وعن استهداف قائد ميدانى من حزب الله برفقة ثلاثة مُعاونين بعدها، فى الأثر ثمّة دلالة لاستهداف اجتماع تنسيقى مع مُقاتلين لبنانيين، وفى المكان معنى كبير للتنفيذ فى ضاحية بيروت الجنوبية، أمَّا فى التوقيت فليس مجّانيًّا أن تُطلَق الصواريخ قبيل ساعات من خطبةٍ مُبرمَجة سلفًا لحسن نصر الله، ولا ينفصل ذلك عمَّا أعلنته واشنطن قبلها من تحريك حاملة الطائرات جيرالد فورد خارج المنطقة، ولا حتى من المُتغيّر الداخلى فى إسرائيل بقرار المحكمة العليا إسقاط قانون «الحدِّ من ذريعة عدم المعقولية»، فى الظاهر كأنّ حكومة اليمين الصهيونية تُناور هربًا من فِخاخ مُتداخلة، وفى الجوهر لعلَّها تستثمر فى سيولةٍ طارئة أصابت المشهد، ورأت فيها لحظةً مُناسبة لبعثرة البطاقات على الطاولة، ليتداخل الفلسطينى باللبنانى، والإقليمى مع الدولى، ويترسَّخ منطقُ المفاوضة تحت النار، أو تشتعل قنوات التهدئة تمامًا؛ فترتفع حرارة المنطقة وتُستعَاد برودة الجبهة الداخلية.
 
قُتِل مع «العارورى» سبعةٌ آخرون، منهم سمير فندى مسؤول القسَّام فى لبنان، وعزّام الأقرع مسؤولها بالضفَّة، ومحمد الريِّس من أبناء مخيم شاتيلا، والأخيران كانا فى تركيا وأبعدتهما بعد عملية 7 أكتوبر، لكن الأهم فى القائمة محمد بشاشة ومحمود شاهين، مُمثّلا «قوات الفجر» المُنبثقة عن الجماعة الإسلامية/ إخوان لبنان، وهى ذراع عسكرية مُستحدَثة بعد الطوفان.. وكأنّ إسرائيل تقصَّدت أن تقتل الإخوان والحمساويين فى أحضان حزب الله، وأن يكون بين الضحايا لبنانيون، وهدفُ الضربة الأول الرجل الذى يتولَّى التنسيق بينهم جميعًا، ولو نظرنا إلى إعلان الأتراك توقيف 33 شخصًا بتهمة التخابر لصالح الموساد، وتنفيذ أعمال تتّصل بالمُراقبة أو الخطف والاغتيالات، وأنهم حذَّروا قبل أيّامٍ من الضربة، وثلاثة من المقتولين كانوا يُقيمون لديهم لوقتٍ قريب؛ فلا يُمكن غضّ السمع والبصر عن تصريح رونين بار رئيس «شين بيت» مطلع ديسمبر، بأن إسرائيل ستتعقَّب قادة «حماس» فى كل مكان، بما فيها تركيا وقطر؛ ولو استغرق الأمرُ سنوات.
 
الأسابيعُ السابقة شهدت نشاطًا ملحوظًا على صعيد التهدئة، والوساطةُ المصرية القطرية قطعت شوطًا مُثمرًا باتجاه إنجاز مُقاربات عقلانية قابلة للتطبيق، الآن لا يُستبعَد أن رسائل إسرائيل الإيجابية، وما سرّبته عن رغبتها فى الهدنة، كانا للمناورة، أو أنها اخترقت خطَّ التماس مع لبنان وصولاً إلى الضاحية؛ لتعميم مبدأ التفاوض بالحديد والنار. لكنها تعى بالضرورة أنها وضعت حزب الله فى موقفٍ حرج؛ وقد لا تصمد قواعد الاشتباك طويلاً؛ بعدما وقع على كتفيه ثأر «موسوى» فى دمشق و«العارورى» فى بيروت، أمَّا «حماس» فإنها لم تتوقَّع مسارًا ورديًّا بالتأكيد، ومن شروط عملها أن قادتها على لائحة الاغتيال دائمًا، وقد تلقَّت صفعاتٍ أشدّ إيلامًا فى السابق، من مُؤسِّسها أحمد ياسين على كرسيّه المُتحرّك، إلى يحيى عياش والرنتيسى والجعبرى فى الميدان، وإن رُتِّب المُتضرِّرون من مقتلة الأسبوع الماضى فالحركةُ آخرهم، ومن غير المُحتمَل إطلاقًا أن ترتعد فرائصها أو يرتبك مستواها القيادى، إذ من طبيعة الأبنية الأيديولوجية المحافظة أن الأفكار تسبق الأشخاص، ومهما تبدَّلت الوجوه فلن تتغيَّر الثوابت أو يختلف الخطاب، كما أنها فى حربٍ مفتوحة منذ عقدين تقريبًا؛ والحروب تنتخبُ المواهبَ وتصقل القدرات، ولن يكون بديل العارورى أقلَّ منه مهارةً ولا أكثر لِينًا ورخاوة.
 
المنطقةُ ليست فى أحسن حالاتها، إسرائيل مُستغرقة فى جريمتها بحقِّ غزَّة، ومسارات التعقُّل كانت مخنوقةً وصارت أشدّ اختناقًا، دولٌ عديدة دعت مواطنيها إلى مُغادرة لبنان، ورُؤساء بلديّات شمالى إسرائيل طالبوا من تبقَّى من السكان بالإجلاء، ولم يُدِن الغرب عملية الاغتيال التى انتهكت أجواء عاصمةٍ عربية تجلس على برميل بارود، وفيها من أسباب التوتُّر ما يكفيها ويفيض؛ بل إن التصريحات القليلة لمسؤولين أمريكيين كانت خُلاصتها أن «العارورى» إرهابى لا يستحق البكاء عليه، وتجاهلت ما وراء ذلك من إذابةٍ للحدود وتشجيع على القتل خارج السيادة والقانون، لا سيما أنها وضعت 5 ملايين دولار على رأس الرجل منذ 2018، وربما يحتمى الأُوربيون والأمريكيون بفكرة أنهم ليسوا بيئات احتضان صديقة لحماس، ومن المُستبعَد أن تمتد أيادى الموساد إليهم؛ لكنه تصوُّر رومانسى لا يُبعد شبحَ الفوضى وارتفاع منسوب الغضب والكراهية، كما يضع دولاً حليفة ومُعتدلة بالمنطقة فى عين العاصفة، ويترك رقعةً جغرافية عريضةً يُبللها الزيت ويتهدَّدها الاشتعال بين ساعةٍ وأخرى.. إنّ فلسفة الاغتيال مثل كُرة اللهب، وإن تدحرجت فقد تأكل كثيرًا من القش اليابس فى طريقها، يُمكن أن يطال ذلك حمساويين فى ساحاتٍ عدّة، كما يمكن أن تردَّ الفصائل بالمنطق ذاته، والأثرُ أن جنون الاحتلال لن يتوقَّف، وراديكاليّة الحركات ستشتدّ، وما وراء ذلك من تسوياتٍ أو تطبيع أو مُباحثات عاقلة، اليوم وفى المستقبل، قد لا تجد مَحضَنًا مُرحِّبًا ولا لُغةً صالحة للتواصل.
 
سيرتفعُ منسوب القلق من لبنان إلى ماليزيا، ومن الفصائل للحزب والحرس الثورى، والعواصمُ الوازنة فى الصراع لن تدخل على خطٍّ أوّله الخِسّة وآخره الخرابُ العميم؛ فضلاً على سقوط الثقة، إنَّ سحب حاملة الطائرات الأمريكية فُهِمَ أوّلاً لناحية أنه ضغطٌ ناعم على نتنياهو، ومُحاولةٌ لترويض الغول الصهيونى إثر اختلاف الأفكار وتناقض الرؤى؛ لكنه بعد الاغتيال يحملُ دلالاتٍ أعقد، قد تكون من بينها المُناورة والانكفاء المحسوب، بغرض إفساح المجال للاحتلال أن يزيد الشراسةَ ويستبدَّ بالخصوم، مع فرصةِ أن تتنصَّل واشنطن من أفعاله وتحتفظ بصفة الضامن والوسيط النزيه، وهى تعلمُ حُكمًا أنَّ الأذرع الشيعية لن تبتلع الطعم، وستعرف أن عودة الولايات المُتّحدة بديهية؛ حالما تُواجه حليفتُها امتحانًا صعبًا أو خطرًا وجوديًّا، والمعنى أنهم إمَّا أن يتلقّوا الضربات صامتين، أو يتجهَّزوا لخسائر المُواجهة الشاملة، كأنَّ «راعى البقر» لم ينصرف عن الميدان.. وقد يحقُّ ربط تفجيرات كرمان الإيرانية بالرقص المُتقطِّع فى فلسطين وما حولها؛ إذ لا يمكن الجزم بنسبة العملية حَصرًا لداعش، حتى مع تبنّيه لها، كما لا يُمكن حَرفُ النظر عن اتصالها بمحاولات إسرائيل استعادة عقيدتها العسكرية، بمعنى افتتاح الحروب وإنهائها خارج حدودها، وفى ساحات الأعداء.
 
قبل أربع سنوات رُصِد «سليمانى» فى بيروت؛ لكنَّ واشنطن صبرت يومًا وقتلته فى بغداد؛ خوفًا من انتقام حزب الله فى إسرائيل، وعملية العارورى ربما تُشير لسقوط الرَّدع الذى كانت تُمثّله الضاحية، ورغم تهديد «نصر الله» فإنه على الأرجح لن يردّ؛ وإن فعل فسيظل تحت السقف، كما فى رَشقة صواريخه الاستعراضية على قاعدة «ميرون» أمس، لن تشتعل جبهةُ لبنان إلَّا بقرارٍ من تل أبيب، ولو توسَّعت الحرب فستكون تلك رغبتها؛ لكن لا يمنع ذلك أنها تُخطئ الحسابات: من الخُطورة ألَّا يُترَك للغريم ما يخاف خسارته، وأن تُختَرَق شروطُ اللعبة بمُقامرةٍ فجّة، التسخينُ البطىء على أطراف المقلاة قد يُشعل الزيتَ فى قلبها؛ فتندلعُ النار على خلاف ما يُريد الجميع، كان الاغتيال رسالةً حارقةً لمحور المُمانعة، والمُضمَر منه أن «حماس» خارج قواعد الاشتباك المرعيّة منذ 2006، وإن كانت وساطة الدوحة والعلاقة الحرجة مع أنقرة يمنعان تمدُّد آلة التصفية إليهما؛ فالاحتمال يظلّ قائمًا وصرَّح به الصهاينة أنفسهم، وثمّة جبهات أخرى مفتوحة وسائلة. وفى المُقابل عرَّت العملية انكشاف الفصائل، وأثارت شبهاتٍ عن الاختراق والعمالة، وقد سبق أن أرسل الجواسيسُ قادةً غزِّيين داخل القطاع للقبور، ومن الغريب أن تُؤمِّن الحركةُ رجالَها فى قلب النار ويُصطَاد أحدُ قادتها فى الخارج بتلك السهولة، ربما ملأت «حماس» مقعد العارورى قبل أن تُوسِّده ترابَ القبر، ولن تُغيّر الإشارةُ لبدء حفلة الاغتيالات منطقَ المُقاومة أو خطابها؛ إنما الضرر على مسار التهدئة، بأثر التناقض بين المفاوضات الخافتة للهُدنة، واليدِ الطويلة فى القتل، كأنّ نتنياهو يُلقِى آخر أوراقه فى اللعبة، وبدم القتلى؛ مُقاتلين أو مدنيّين، سيكتشف أن ورقته طُمِسَت أرقامُها، وأنه مُضطرّ لمُغادرة الطاولة خاسرًا ما يتطلّع إليه، وما كان فى يده أيضًا. حرب غزّة قد تكون الأولى التى تأكل المُنتصر والمهزوم معًا؛ حتى أنها فى الختام لن تجد من يصعد منصّة التتويج، ولا مَن يحتفل بالفوز أو النجاة.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة