لم يعد الأمر انفرادًا صريحًا بتحديد ما يراه الناس أو يُمنعون منه؛ إنما تطوَّر لمُمارسات صدامية خشنة مع محاولات المأسسة والضبط القانونى للمنصَّات الاجتماعية. شركات التقنية باتت أكثر جرأة فى التعدّى على اقتصاديات صناعة المحتوى، وفى تحدِّى محاولات تنظيم العلاقة بالناشرين على أية صورة لا توافق أهواءها فى المقام الأول. هكذا يمكن النظر إلى اشتباك «ميتا»، ومن ورائها جوجل، وربما يتقاطر لاعبون آخرون، فى مواجهة حادة وصراع إرادات مع الحكومة الكندية. يريد المُشرّعون فى «أوتاوا» ترميم الصدوع التى تتمدَّد فى جدران المؤسَّسات الإعلامية، ويسعى التقنيون إلى استبقاء سلطتهم الفردية الكاملة على الفضاء الرقمى، وبينهما تتراجع حقوق الأفراد فى المعرفة، وتتعاظم سطوة حُكّام الإنترنت مقابل تراجع هيبة القانون. الأمر أكبر من خلافٍ على رسوم أو توزيعات للعوائد وفق حصص عادلة؛ إنما يُجسّد ملمحًا أوّليًّا لما يُمكن أن تؤول إليه الأوضاع؛ إذ تتراجع الدول والحكومات أمام مالكى الخوادم والعناوين الذائعة، وتذوب الجغرافيا الطبيعية فى جغرافيات بديلة، لا تتحقّق ماديًّا؛ لكنها أقدر على إعمال شروطها فى حياة البشر، وفى عقولهم ومصالحهم الحيوية.
خُلاصة الأزمة، أن كندا أنجزت خطوة عملية باتجاه إقرار «قانون الأخبار عبر الإنترنت»، انطلاقًا من رؤيتها لتغوُّل المنصَّات الاجتماعية على حقوق الناشرين؛ فى المُقابل ترى الشركات أنها تُقدّم خدمة لجامعى الأخبار ولا تنتفع منهم؛ ومن ثمَّ فإنها غير مُلزمة تجاههم بأى شىء. ترى هيئة البث الكندية أن الشبكات تُسيطر على 80% من عوائد الإعلانات الرقمية، ويرى الناشرون أن النزيف مُتواصل وشرايينهم قاربت على خسارة كامل دمائها، فتردّ المنصَّات بأن الأخبار ليست سلعة رائجة، وليست سبب إقبال مُستخدميها، وأن وسائل الإعلام تلجأ إليها طواعيةً؛ لزيادة قرائها وتعزيز أرباحها. لا يبدو أن مساحة الاختلاف قابلة للترسيم، وبالتبعية لا بديل عن الطلاق، الذى لن يكون عادلاً أيضًا فى الشروط والإجراءات.
الجولة الأولى من الصراع اندلعت فى أستراليا. مطلع 2021 سنَّت قانونًا، بعد شكاوى ومطالبات من وسائل الإعلام، وتمرّدت الشركات وحجبت الأخبار. وقتها قالت «فيس بوك» إنها ساعدت الناشرين على كسب 316 مليون دولار خلال سنة بفعل تمرير المستخدمين إلى محتواهم، وعلَّق مديرها المحلى بأن التشريع المُقترح يعاقب شركته على محتوى لم تطلبه أو تُبادر لنشره. استمر الحجب ستة أيام، لم ينقطع خلالها التفاوض بين الأطراف الثلاثة؛ لتنتهى المشكلة بإدخال تعديلات على القانون، ويُبادر جوجل بإبرام اتفاق مع مجموعة «نيوز كورب» المملوكة للقُطب الأمريكى روبرت ميردوخ، ثم مع ناشرين أستراليِّين، وحلّت «فيس بوك» خلفه بتفاهمات مع ثلاث شركات، وانتهى الأمر باتّفاق عريض تدفع بموجبه شركات التقنية حصّةً من أرباح الأخبار. الغريب أن ما قبلته فى أستراليا، تستميت الآن فى رفضه والتهرب من تكراره مع الكنديين.
قانون كندا المعروف باسم «سى - 18» من المستهدف أن يُوفّر للصحف المحلية قرابة 250 مليون دولار سنويًّا، وهو رقم لا يبدو ضخمًا أو مُرهقًا بالنظر لعوائد شركات التقنية المعنيّة بالخطوة، إجمالاً أو من السوق الكندية وحدها. ربما تلجأ «مِيتا» أو جوجل لتسوية دعاوى قضائية بفاتورة أكبر، أو تُسدّدان غرامات عن مخالفات ووقائع انتهاك للخصوصية وتربُّح من البيانات تفوق تلك الأعباء؛ وبات ذلك مُعتادًا ومُتكرّرًا فى وقائع عديدة بالولايات المتحدة وبعض دول أوروبا؛ لكنها تتهرّب بكل السبل المُمكنة من تنظيم علاقتها بأسواقها الإقليمية؛ حتى لا يترسخ منطق أنها لا تستحق وحدها كل الأرباح الطائلة، وأن عليها اقتسام قدرٍ منها مع شُركاء المحتوى؛ إن لم يكن مقابل استنفاعها من الأخبار والمواد التى يُنتجها الناشرون، وتلعب دورًا فى تعزيز تجربة المُستخدم وإثرائها وإطالة بقائه وفرص تعرُّضه للمواد الدعائية، فعلى الأقل تحت عنوان جَبر الضرر، والتعويض عن الآثار التى تركتها على سوق الإعلان، والخسائر التى تسبَّبت فيها للوسائط التقليدية وامتداداتها الرقمية.
قبل شهور، طُرح على الكونجرس مشروع «قانون المنافسة فى الصحافة»، ويحظى بدعمٍ جيّد من الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، بغرض تعزيز قدرة الناشرين وهيئات الإذاعة على المفاوضة الجماعية مع المنصَّات بشأن اقتسام العوائد. قبلها نظرت ولاية كاليفورنيا، التى تحتضن المقرّات الرئيسية لأغلب عمالقة التكنولوجيا، مُقترحًا شبيهًا؛ وبادرت «ميتا» استباقيًّا بالتهديد بحجب خدماتها عن وسائل الإعلام. قد نكون بصدد موجة مُرشّحة للتصاعد فى مدى قريب؛ إذ لا يزال الإضرار بالإعلام وصُنّاع المحتوى فى طور التمدُّد، وتنحاز شركات التقنية ومُشغّلى الشبكات الاجتماعية للأفراد والهُواة بدرجة أكبر؛ وتُلحق ذلك بتبرير أن الروابط المُؤدّية للأخبار لا تتجاوز 3% من التداول؛ لذا لا تُولّد أرباحًا حقيقية حتى يُثار حديث عن اتفاق على المُحاصصة.
ادّعاء الشركات يقفز على الحقائق، ولا يخلو من تدليسٍ مقصود. لعلّ المحتوى الشخصى وتدوينات الأفراد أكثر رواجًا بالفعل؛ لكنها تستند - فى النهاية - إلى جهود المُؤسَّسات من جامعى الأخبار ووكالات الصور وناشرى المواد الجادة. إنّ سيلاً ضخمًا من عروض الكتب والأفلام، وشروح الأخبار وتحليلات القضايا الرائجة، بل حتى ما يخص المواد الخفيفة كالأبراج ووصفات الطهى والإرشادات الصحية ونصائح التنمية البشرية وغيرها، ترتكز فى أغلبها على أرشيف المنصَّات الإعلامية وما تبثّه من أخبار وتقارير؛ لذا فإن العلاقة لا تنحصر فى الروابط المُباشرة ورواجها فقط، ومن ثمّ فإن حجبها لا يعنى انتهاء تربُّح الشبكات من جهود الناشرين والمُذيعين وجامعى الأخبار وكُتَّاب الرأى. إنّ التداخل بين المُؤسَّسات والأفراد فى المحتوى وحقوقه أضخم وأكثر تشابكًا من قُدرة الفرز والاستبعاد، كما لا ينبغى أن يدور النقاش فى نطاق بيانات مُلوّنة، لا يمكن اختبار صدقها، عن خريطة العوائد ونسب توزيعها؛ بقدر ما يجب أن يُدار الجدل على قاعدة ما تُحقّقه شركات التقنية من كل سوق مُقابل ما تنفقه فيها، وما تتحمّله لقاء تعويض المُتضرّرين من «نموذج عملها» وما فرضه من تشوُّهات، ضربت المناخ الطبيعى وما كان قائمًا ومُستقرًّا قبل إطلاق منافستها، غير المُكلّفة وغير العادلة أيضًا.
إذا كان ذلك ما يجرى مع دول الشمال؛ فالواقع أن الجنوب يواجه انفلاتًا أشدّ وابتلاعًا أشرس. ليس فى مقدور عشرات الأسواق الناشئة أن تدخل معارك الدفاع عن الحقوق أمام سطوة أباطرة التقنية، ولا أن تسير على طريق إقرار قوانين وقواعد ناظمة للعمل والكسب وتوزيع الأرباح. لن تكون الشركات مُضطرّة حتى للتلويح بحجب خدماتها، أو تجنيب محتوى الناشرين من التداول، انطلاقًا من ضعف الحكومات المحلية عن انتهاج مسارات تقنية أو إجرائية فاعلة فى كبح الفوضى، وإجبار المنصَّات على التزام حدٍّ أدنى من معايير الشفافية وتكافؤ فرص المنافسة. خطوات الدول الكبرى تمهيدٌ نيرانى ربما يسمح لاحقًا بالتوصل إلى هُدنة شاملة، بُغية ترسيم الحدود وإقرار قواعد للاشتباك. لكن لا بديل عن المسارعة لإثارة القضية بكل الصور المُمكنة، إن بالإجراءات التنفيذية، أو بالتشريعات، أو اجتراح مسارات للتفاوض والحوار، وحتى لو لم تُفضِ إلى تفاهمات ضامنة للحقوق، أو قادرة على تعديل شروط التربُّح المُتوحّشة؛ فإنها قد تُحفّز بقيّة الأسواق، وتكبح إيقاع تقدُّم الشركات الطائش نحو هضم مزيد من مجالات العمل؛ لا سيما أن شبكة مثل إكس «تويتر سابقًا» تستهدف بناء تطبيق خارق يشمل التجارة والمدفوعات الرقمية وربما خدمات النقل وتوصيل الطلبات وغيرها، وما تزال فكرة العملة الرقمية تراود «ميتا»، وقد تتبعها أنشطة أوسع، تضرب أركان الاقتصاد الحقيقى فى قطاعات الإنتاج والترفيه حول العالم.
المُعادلة مُختلّة تمامًا. كان ذلك مقبولاً عندما بدت سوق التقنية تتلمّس الخطى ولا تُشكل تهديدًا مُركبًا لاقتصادات الدول؛ إنما الآن تبدّلت الأوزان، وبات أباطرة الديجتال طامعين فى تدشين «امبريالية رقمية» لا تُقيّدها الجغرافيا ولا تُعطّلها القوانين الوطنية. تذهب أغلب ضرائب الشركات العملاقة إلى بلدان المنشأ، وكذلك منافع التشغيل ومُخصّصات البحث والتطوير ومزايا المسؤولية المجتمعية. ما يزال العالم الواقعى أسواقًا مُقيّدة بنطاقات جغرافية وأعباء تقليدية وتوازنات فى المصالح، وخريطة واسعة للقيمة المضافة وسلاسل التوريد وشبكات التجارة واقتسام المنفعة؛ وقد تحوَّل رقميًّا إلى سوق واحدة إجبارية، باتت تحكمها مُؤسَّسات تحوز سطوة الحكومات وتتحلّل من التزاماتها. فى تلك العلاقة الإذعانية تخسر الدول قدرًا غير هيِّن من إيراداتها المُحتمَلة، ومع استشراء الهيمنة وإطاحة الناشرين ووسائل الإعلام ومُنتجى المحتوى، تتجدّد الخسارة بشفط حصّة من الناتج القومى خارج سلسلة القيمة وقنوات النموّ المحفّزة للأسواق. ما يُزعج المنصّات من تحرُّكات مثل «أستراليا وكندا» أن تنتشر العدوى، وقد بات ذلك ضروريًّا ولا مفر من تكراره، عاجلاً أو آجلاً؛ ولعلّ الأمر يتطوّر لرؤية جماعية تنهى تفلُّت الشركات من القوانين الوطنية، وتضع أُطرًا عامة لتنظيم الفضاء الرقمى على قاعدة من توازن المنافع والأعباء.. صحيح أن بيئات المنشأ قد لا تكون مُتحمّسة أو جاهزة للانخراط فى هكذا مسار؛ إلا أن كُرة النار التى تأكل ناشرى الهوامش لن يطول الوقت قبل أن تقضم كَبِد المتن نفسه، وتضع الجميع أمام مخاطر حقيقية، تتجاوز الاقتصاد إلى التحكُّم فى السرديات المُهيمنة، وتخطيط الوعى، وحُكم العالم بالخوارزميات الفائقة؛ وقد يمتد التطوّر للاستغناء عن البشر أنفسهم؛ ليصبح الجميع مُستهلكين بأكلافٍ باهظةٍ ومن دون منفعة تُذكر.
عندما كانت المنصَّات تبنى مصيدتها لابتلاع المُستخدمين سعت نحو جامعى الأخبار. شجّعت «تويتر» الصحف والناشرين، وابتكرت «فيس بوك» أداة «المقالات اللحظية» للعرض داخل المنصّة، واستهلكت جوجل الروابط الإخبارية بشراهةٍ هائلة؛ ثم بعدما تمَّ لهم ما أرادوا قرّروا جميعًا التخلّى عن شُركاء الماضى.. اليوم، نتحدّث عن نماذج لغوية وأدوات ذكاء توليدية، تستبيح المواقع لإنتاج محتوى مُباشر، لن يعترف مُطوّرو تلك البرمجيات بأنه حصيلة جهود الآخرين. يجرى تحوير نماذج عمل الشركات من كونها منصَّات تُوفّر خدمة اتصال رقمية؛ إلى «ناشر» يملك المحتوى بالأصالة، ويحتكر توزيعه وما يُولّده من أرباح. يُستخدم الأفراد تحت هذا الشرط كأُجراء وعُمّالٍ يوميّين فى وِرش تخليق المحتوى وبناء قواعد معلومات ضخمة، مقابل فُتاتٍ تُحدّده الشركات بإرادة فردية، ولا تقبل أيّة محاولة قانونية لتنظيم العلاقة أو الاتفاق على الحصص. ما يتطلّعون إليه من التلويح بالحجب، أن تُفضّل وسائل الإعلام صيغة الإذعان الظالمة على خيار الخروج من السوق، وفقدان الوجود فى مجال حيوى مزدحم. هذا أسوأ ما يُمكن أن تُنتجه المُمارسات الكولونيالية، فى الواقع أو فى عالم افتراضى.
التحرُّر قد يتطلّب تصوّرًا واسع المدى؛ كأن يُوضع الأمر فى عُهدة «وكالة دولية» تتأسَّس لهذا الغرض، أو تنشغل معه بمسائل الذكاء الاصطناعى والاحتكار الرقمى والحرب الباردة فى التقنية والبرمجيات.. ما أنجزته أستراليا كان إشارةً لإمكانية انتزاع الحقوق من مخالب «الجوارح الرقمية» الضخمة. كندا تحاول الوصول إلى صيغة شبيهة؛ ورغم تلويح الشركات بالحجب؛ فقد يُفضى الأمر إلى اتفاق جديد، بعد التفاوض وإدخال تعديلات على القانون. ربما يتكرّر ذلك فى الولايات المتحدة، أو فرنسا وبعض الأسواق الأوروبية مُستقبلاً.
لا تتطلَّب مصفوفة أحجار الدومينو إلّا أن تتداعى القطع الأولى حتى يمتدّ التأثير لكامل الرقعة. كل تشريعٍ ناظم لاقتصاد المنصَّات الاجتماعية أقرب إلى «أثر الفراشة» الذى قد ينتهى بإعصارٍ جامح، يفرض شروطه على البيئة بكاملها. الإعلام ينزف من طاقته وجدواه ومهارات أفراده ومُستقبلهم، لصالح تغذية شرايين المُفترسين الكبار فى وادى السيليكون وغيره من حواضن التقنية؛ وبقدر ما يحتاج العالم لجهود تلك الشركات؛ يحتاج إلى الناشرين وصُنّاع المحتوى، كياناتٍ وأفرادًا، وما يبدأ اليوم بإطاحة الصحف والمُؤسَّسات، قد ينتهى مع طفرة الذكاء الاصطناعى إلى شطب المُؤثّرين والهُواة أيضًا. فى تجارب التحرُّر من الامبريالية القديمة كانت الجغرافيا ملعبًا مفتوحًا، والنضال السلمى والمُسلّح سبيلاً لتوازن الصراع، أما الآن فالهيمنة افتراضية والسلاح فى أيدى المُبرمجين. ينبغى أن تنتظم العلاقة ويُرتّب العالم شروط التعايش، قبل أن يتمادى الاحتلال إلى مستوى لا تتيسَّر مُقاومته أو الفكاك من قيوده المُشفّرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة