حازم حسين

انكشافات رابعة.. وحدة البيئة الأصولية ولعبة توزيع الأدوار فى حظيرة الإخوان

الثلاثاء، 15 أغسطس 2023 11:12 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هجينٌ صار جماعة، وأخلاطٌ أُرِيد لها أن تكون جسمًا واحدًا. أخذت «الإخوان» من كلِّ فكرة أردأها ومن كلِّ حركةٍ أسوأ ما فيها، وطبعت جميع ذلك بوصفةٍ شديدة الانتهازية فى التلوُّن واختراق جدران الفضاء العام؛ لعلَّ أكثرها انكشافًا لعبة «توزيع الأدوار». عندما كتب حسن البنا فى ديسمبر 1948 مقاله الشهير «ليسوا إخوانًا وليسوا مُسلمين»؛ لم يكن فى واقع الأمر نادمًا على جريمة اغتيال محمود فهمى النقراشى، أو يتبرَّأ من عبدالرحمن السندى وعناصر النظام الخاص «الجناح المُسلَّح»؛ إنما كان ينزع الغطاء عن الحبل السُّرّى بين التنظيم والميليشيا/ الواجهة الرسمية والأذرع السوداء المخفيَّة، ويُخرجها إلى العلن مُدشِّنًا مرحلةً جديدة من المُمارسات، لم تعد تستر أطرافَها عن العيون؛ لكنها تمدُّها علنًا فى الساحة وتُنكر الروابط معها، وهكذا سارت الأمور فى العقود السبعة التالية من وقتها للآن.
 
استعار حسن البنا «تقيّة الشيعة»، والبنية العنقودية للتنظيمات الشيوعية. ادَّعى دخول المشهد من بوابة العقيدة والدعوة؛ لكنه أسَّس جناحًا مُسلَّحًا على عُرف حركات السياسة الشعبوية وقتها. كان يُشرف بنفسه على مُعسكرات الكشافة التى كانت نواةَ مجموعة العنف، ويقود تدريباتها فى الصحارى، ويُخطِّط عمليّاتها التى اتَّسعت بين قتلٍ وتفجير وإرهابٍ للخصوم؛ ثم يغسل يديه ويُطلّ من صُحف الجماعة داعيةً وفقهيًا ومُنظِّرًا فى أُمور الاعتقاد. رغم صحيفة السوابق الطويلة، لم يجد نفسه مُضطرًّا لكشف المستور إلا مع اغتيال رئيس الوزراء والتقاء خيوط الإدانة حول رقبته. يُحكَى أنّه فى مُواجهة مع «السندى» حاول إنكار مسؤوليته عن دم النقراشى، فهاج قائد الميليشيا وكاد يضربه وهو يصرخ أنهم ما فعلوا شيئًا إلا إنفاذ رغبة المُرشد؛ ربما وقتها شعر المُؤسِّس الطموح أنه يحتاج لتطوير استراتيجية توزيع الأدوار، وفِطام الأجنحة المُستترة عن رباط التنظيم المباشر، فأعلن سياسته الجديدة فى المقال، ولعلَّها كانت سببًا فى مقتله بعد ذلك بشهرين تقريبًا. إن كان يصعب الجَزم بهوية القاتل؛ فإن سوابق حليفه الدموى وصدمته من خيانة القائد قد يُفسِّران اللغز، لا سيما أنه تصدَّى بعدها بخمس سنوات لتصفية سيد فايز، غريمه فى قيادة الجناح العنيف.
 
بدأت مرحلة التوافق مع نظام الرئيس السادات فى 1971، واكتمل خروج عناصر الإخوان المحبوسين بعد أربع سنوات؛ لكن بين التاريخين حاولوا الغدر كعادتهم. كانت عملية الفنية العسكرية فى العام 1974، وقالوا وقتها لقائد المجموعة «صالح سرية» إذا نجحتم سنبارك ونحتفل، وإذا أخفقتم فلا دخل لنا وسننكر كل علاقةٍ بكم. حدث توزيع الأدوار قبلها مع «تنظيم 65» الذى قاده سيد قطب وزينب الغزالى، وأنكر الهضيبى علاقتهم به، كما أنكر ضلوعه فى محاولة اغتيال عبد الناصر بالمنشية، وتأكَّد لاحقًا أنه كان على علمٍ بها وبارك المُخطَّط. تخلَّت الجماعة تمامًا عن إسدال عباءتها على أطرافها المُنفلتة، ولجأت بدلاً عن ذلك إلى إطلاقها لآخرها دون وشائج ظاهرة. وفق هذا التحوُّل قد لا يكون اضطلاعها بدور فاعلٍ فى تفريخ أصوليَّات الستينيات وما بعدها عفويًّا، وليس ما يمنع النظر إلى «الجهاد» والجماعة الإسلامية وغيرهما من باب الامتداد للنظام الخاص، وتجديد أدوات المناورة وقوانين لعبة توزيع الأدوار.
 
تتَّسع الاحتمالات فى تلك النقطة: بين حركاتٍ خرجت من رحم الإخوان وِفاقًا؛ لتكون طرفًا مُؤازرًا للرؤية المركزية، وجماعاتٍ انفصلت شِقاقًا؛ ورأت الجماعة فى ذلك إسنادًا مقبولاً لأهدافها ولا تغيب عنه المُداراة المطلوبة. ما يُعزِّز ذلك أن كثيرًا من تلك الحركات التأمت بالجسد الأم فى مراحل تالية، إن بالانخراط الكامل، أو بالتنسيق والتحالفات والعمل المشترك. جرى ذلك فى بيئة السياسة والعُنف المحلية، وفى الامتدادات الخارجية على مروحة واسعة من الساحات المُلتهبة: الشيشان وأفغانستان والسودان، وصولاً إلى ليبيا وسوريا واليمن بعد موجتى الربيع العربى فى 2011 و2019.. أى أن التنظيم تخلَّى راضيًا عن بعض عناصره، أو تساهل فى انشقاق آخرين؛ من أجل اختلاق منظومة من الأذرع والأجنحة المُتَّصلة به حركيًّا، أو غير المُنفصلة عنه فكريًّا فى كثيرٍ من الظروف والحالات.
 
تقاسُم الأدوار كان جليًّا داخل البيت الإخوانى، بالنظر إلى القلب فى القاهرة والمركز فى لندن. كانت الجماعة قد سعت للتمدُّد خارج مصر منذ ثلاثينيات القرن الماضى، لكنها لم تُوطِّد بيئاتها الطرفيّة وهياكل تنظيمها وحركتها إلا مع موجة الخروج الواسعة بعد حادث المنشية وصدامها العنيف بنظام يوليو. بين منتصف الخمسينيات ومطلع السبعينيات ترسَّخت الفروع، واشتد عود التنظيم الدولى، ومع تفاهمات العودة وما تلاها حتى ثورة يناير، أُديرت اللعبة فى المستوى التنظيمى لصَرف النظر عن التشابكات: مكتب الإرشاد فى مصر كان السُّلطة العُليا دوليًّا، وكان غارقًا فى خططٍ إقليمية وعالمية واسعة، لكنه عمل دائمًا على الإيحاء بانفصاله عن الخارج، وانضباطه بمعايير العمل الوطنية. لم يكن ذلك دقيقًا بالطبع؛ إنّما وافق هوىً لدى الإدارة وقتها أن تُحمِّل الانفلات على كتفى تنظيم لندن، وتستهلك سرديّة البراءة الإخوانية الكذوب محليًّا. واستفادت الجماعة من اختراق المجتمع المدنى، وابتلاع بعض النقابات المهنية؛ لتُصبح أنشطتها الإنسانية وجهود الإغاثة ذراعًا جديدةً بين أذرعها العديدة.
 
اغتيل الرئيس السادات بأيدى الجماعة الإسلامية الطالعة من البيت الإخوانى، وكان ذلك فى صالح التنظيم. وكذلك كلُّ موجات العنف اللاحقة فى التسعينيات وإلى سنوات الألفية الأولى. لم تكشف المحطّات المُتلاحقة صلات التنظيم الخَشِنة أو الناعمة بمُعادلها العنيف لدى بقيّة مجموعات الأُصوليّة الدينية؛ لكن الانكشاف الكبير جاء بعد يناير 2011: تضافرت جهود الحلفاء جميعًا فى اقتحام السجون، وهرب الإخوان مع الجهاديين وأعضاء تنظيمات إقليمية أخرى. ثم عملوا معًا فى استفتاء مارس لتعديل الدستور، وفى انتخابات مجلس الشعب، وكتابة الدستور، ودعموا سياسات محمد مرسى وقراراته المُنفلتة وأفدحها الإعلان الدستورى، وعادت الطيور المُهاجرة من مُجاهرتها بالعداء المُعلَن بحسابٍ، إلى تفاخرها بالتنسيق المُعلَن من دون حساب؛ حتى أن تشابكات تلك الفترة المُرتبكة أصابت كثيرين من المتابعين بالصدمة، بعدما انتهت لعبة توزيع الأدوار، وتجمَّعت صفوف التنظيم من جديد.
 
كان حازم أبو إسماعيل ورقةً فى أجندة الجماعة، ورغم أنه ابن قيادة إخوانية بارزة؛ فقد كان يُبالغ فى إظهار انفصال واضحٍ عنهم؛ لكنه لاحقًا دعمهم فى البرلمان والرئاسة، وتولَّى عنهم حصار المحاكم ومدينة الإنتاج الإعلامى، ونشطت دائرة تأييده «مجموعة حازمون» بما عُرف عنها من غِلظة وعُنفٍ لتكون حرسًا للجماعة وكتيبة مُتقدّمةً فى التحرُّش بخصومها. وعاد أبو العلا ماضى وعصام سلطان بعد سنوات الانشقاق والبحث عن لافتة مُستقلّة «حزب الوسط» إلى دخول بيت الطاعة التنظيمى، وكذلك وجوه أخرى من دائرتهم مثل حاتم عزام وعمرو عبد الهادى، وآخرون من ائتلاف شباب الثورة وأحزاب الحرية والعدل والاستقلال وغيرها. كان رصيد الإخوان المخفىّ عبر سنوات من التمدُّد الناعم واختراق الأحزاب والقوى السياسية يتكشَّف بالتتابع، وقد لاحت بشائر التمكين وبات رصُّ الصفوف ضرورةً لتمتين الجبهة، وإعلان الحرب على المنافسين جميعًا.
 
لم تُغلَق المائدة على حاملى الشارة الإخوانية فقط، الظاهرين أو المُستترين؛ إنما اتسعت لتضمّ كل الأطراف التى لعبت لصالح الجماعة، بوفاقٍ ضئيل أو بقطيعةٍ شرسة ومُصطنَعة. كان شائعًا أن السلفيين والجماعة الإسلامية وبقيَّة حركات التطرُّف يرون الإخوان مُفرِّطين وخارج حظيرة الصواب والإيمان؛ ولم يكن ذلك إلا مناورة لتعمية الروابط، أو غسل سمعة الجماعة وتسويقها فى المجال العام شريكًا وسطيًّا مقبولاً. الدليل أنهم لم يُضيِّعوا وقتًا طويلاً قبل أن يقفوا معًا فى دائرة واحدة: لقاءات مع «مرسى» داخل قصر الاتحادية، ولقاءات فى مكتب الإرشاد، وشراكة فى الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر مع قتلة السادات وأشباههم من ضباع العنف، ثم مُؤتمر نصرة سوريا قبل ثورة 30 يونيو بأيامٍ بحضور عُتاة الإرهابيين، وأخيرًا تصدُّر طارق الزمر وعاصم عبدالماجد وغيرهما منصَّة اعتصام رابعة، وتكديس الجهاديين مع السلاح داخل الخيام، بل ومَنح بعضهم مناطق نفوذ خاصة، كما حدث مع من يُعرَفون بـ«سَريّة طيبة مول» وكانوا من القَتلة المُحترفين وبعض من أطلقهم المعزول من السجون بعفوٍ رئاسى.
 
خلال سنة حُكمهم، لم تنقطع اتصالات الإخوان مع محمد الظواهرى وميليشيات سيناء. ما زال البعض يستعيدون عبارة «مرسى» وقت خطف عدد من الجنود، ومُطالبته بـ«سلامة الخاطفين والمخطوفين»، على سبيل التندُّر والفكاهة؛ بينما كانت فى الحقيقة كشفًا وقحًا لصلة الإخوان ببقيّة فصائل الإرهاب، وتعبيرًا صارخًا لعُمق الروابط ومتانتها، وقد انتقلت من مكتب الإرشاد إلى قصر الاتحادية فى عُهدة رئيس إخوانى، خلط بين الدولة والعصابة، وساوى الجنود بالإرهابيين، والسلاحَ الشرعى بأسلحة الميليشيات الخارجة على القانون.. فى كل ذلك لم يكن الأمر إلا تكرارًا لاستراتيجية حسن البنا نفسه، الذى عمل مع الاحتلال الإنجليزى بحماسةٍ وابتذال كما يعمل مع القصر، وعادى الإرادة الشعبية بثباتٍ وفجاجةٍ كما يُعادى فكرة الوطن ومصالحه، وكان السلاح وسيلته للتحقُّق فى بيئةٍ ظلَّ عاجزًا عن اختراقها بجدارة الفكرة واستقامة المُمارسة؛ فقرَّر أن يخرقها بالرصاص، وأخفى السلاح فى طيَّات ملابسه وأذرع العنف وراء العمامة والمصحف.
 
كان من توزيع الأدوار أن يُشير عبدالرحمن عز بالليزر على الحسينى أبو ضيف؛ فتقتله عناصر الإخوان ثم تُبادر الجماعة باللطم والعويل. وأن يتحدَّث «المغير» عن سلاح رابعة وتُوثّق الكاميرات عشرات الشباب يُطلقون الرصاص؛ ثم تُلفلف الجماعة بعضهم أحياء فى قماشٍ أبيض لتخترع مظلومية مكذوبة. وكان من تفاصيل اللعبة أيضًا أن تُوضَع «اللجان النوعية»، وهى الإصدار الجديد للنظام الخاص المُسلَّح، فى عُهدة عضو مكتب الإرشاد محمد كمال؛ ثم يُنكرون العنف والإرهاب، وأن يُهدِّد البلتاجى وصفوت حجازى بالدم والتفخيخ وإشعال سيناء، ثم يدَّعون المدنية. وأن يخرج مُجرمو الجماعة من الاعتصام ليُشيعوا الفوضى والقتل فى المنصَّة والحرس الجمهورى وكرداسة ورمسيس والمطرية وحلوان، ويُحرقوا كنائس المحافظات ومصالحها الخدميّة؛ ثم يسبقون بالشكوى والاتهامات، وأن تتطوَّر مجموعات كمال ومحمود عزت ويحيى موسى لحركات إرهابية، تُفجّر وتُطلق النار وتغتال النائب العام وضبَّاط الشرطة؛ ثم ينفون صلتهم بها، وما زالوا يكذبون رغم الوثائق والاعترافات، وبعضها جاء على لسان قيادات فى قنواتهم، منهم أشرف عبد الغفار وعلى بطيخ.. كلها مُجرَّد جولات فى لعبة توزيع الأدوار التى سنَّها المُرشد الأول، وتبعه فيها أراذل الجماعة بسوءٍ وانحطاط.
 
كان حسن البنا مُبتسمًا كأفعى رقطاء، و«السندى» مُتجّهمًا مثل شيطانٍ رجيم؛ لكنهما كانا وجهين لعملة واحدة، ولا فارق بينهما. وكذلك لا فارق بين الهضيبى وسيد قطب، ولا بين حازم أبو إسماعيل والشاطر ومحمد كمال، والزمر وعبدالماجد ومرسى وبديع والبلتاجى ويحيى موسى وأسامة ياسين وهشام عشماوى وعمر سرور. كما لم يكن هناك فارق بين الظواهرى وعاكف وعلوى مصطفى والإسلامبولى. الجهاد كالشوقيين، والجماعة الإسلامية كالتكفير والهجرة والقاعدة مثل حازمون، وكلهم من رحم الإخوان ولعبوا فى صفِّ الجماعة ولصالحها، بقصدٍ أو من دون قصد، كان التنظيم بارعًا طوال الوقت فى توزيع أهدافه على كل الأجنحة، إن بالشراكة فى تأسيسها، أو بالاجتهاد فى اختراقها، أو بالحرص على إغرائها ومدِّ الأواصر معها، وما ظهر جليًّا بين يناير 2011 ويونيو 2013، ومنذ اعتصام رابعة حتى الآن، وما يتواصل فى بيئاتهم الخارجية بمُرتزقتها من اليمين واليسار وكامل الطيف الأُصولى؛ لم تكن طفرات عفويّة نتجت عن سُيولة الثورة وحوادثها؛ إنما كانت تحصيلاً لجهودٍ طويلة سابقة، وحصادًا لسنوات من الزراعة وتوزيع الأدوار؛ ولعلَّ أكبر خسائر الجماعة الإرهابية، وأهم ما أنجزته ثورة 30 يونيو، أنها فضحت تلك الروابط، وسلَّطت ضوءًا كاشفًا على وحدة البيئة الرجعية، وتطابُق أهداف أطيافها الراديكالية وإن بدت الوسائل مُتصارعةً؛ حتى لم يعد لعُنقوديّة التنظيم ولا مناورات التقيَّة أثرًا خادعًا كما كان.. خسرت الجماعة محصول عقود التلوُّن والكذب؛ وخسرت قبل ذلك ورقتها الأهم والأخطر؛ إذ لم يعُد سهلاً عليها إعادة إنتاج اللعبة القديمة، واستمراء خدعة تقاسم الأهداف وتوزيع الأدوار.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة